
كيف يدير الإخوان نشاط التنظيم في أوروبا
الإخوان المسلمين بعد عقود من التغلغل في عديد من الدول والمجتمعات الأوروبية، صاروا اليوم يديرون مختلف نواحي ما يمكن تسميته “النشاط الإسلامي” في النمسا، بل وفي أريحية لافته تحققت عبر سنوات من التراكم، أصبحوا وحدهم يشكلون حلقة الوصل، بين الجالية المسلمة الكبيرة والحكومة النمساوية حيث بدت الأخيرة طوال الوقت وكأنها “مرغمة” على تلك العلاقة. فهذا المستوى العالي من استقرار واحكام تلك العلاقة اليوم، تأسس منذ ستينيات القرن الماضي على يد أشهر وأمهر من وصل مهاجرا إلى النمسا، في هذا التاريخ المبكر، وهما “يوسف ندا” و“أحمد القاضي” اللذان لم يضيعوا دقيقة واحدة في نسج شبكات الإخوان المسلمين، وتأمين إقامتهم والدفع بهم في تحقيق انتشار واسع تجاوز حدود النمسا سريعا، ليصل إلى معظم البلدان الأوروبية الرئيسية لكنه ظل يدار من فيينا على وجه التحديد.
عكف “يوسف ندا” على إنشاء الإمبراطورية المالية الإخوانية؛ ما بين الشرق الأوسط وأوروبا، قبل أن يتولى رسميا منصب “رئيس العلاقات الخارجية” في التنظيم الدولي، انطلاقا من النمسا. جاب يوسف ندا العالم كله تقريبا لتمثيل مصالح الإخوان، خصوصا المالية منها، عبر إنشاء شبكة علاقات واتصالات مكثفة مع قادة الحركات الإسلامية الدولية، حتى أن وصل إلى رؤساء دول من المتعاطفين والمتحالفين مع هذا التيار، أو ممن هم أعضاء رسميين بداخل التنظيم وتمكنوا بطرق مختلفة من الوصول إلى المنصب الأرفع في دولهم. وقد اعتبر في تلك السنوات التي تمثل ربيع الانتشار الإخواني، قصر يوسف ندا في منطقة “كامبيوني ديتاليا” الإيطالية التي تطل على بحيرة “لوجانو” متاخمة للأراضي السويسرية، بمثابة وزارة خارجية غير رسمية للتنظيم الدولي للإخوان. نجح يوسف ندا في لعب دورا بارزا في إدارة “الخلايا المالية” الإخوانية في المحيط الأوروبي بشكل عام، والنمسا بشكل خاص. قبل أن يطور فروع المحافظ المالية إلى دول أخرى مثل بريطانيا وألمانيا، وتشارك معه في تلك المهمة التأسيسية “سعيد رمضان” صهر وسكرتير المرشد الأول “حسن البنا” مؤسس التنظيم.
أما “أحمد القاضي” الذي درس الطب في النمسا بداية من عام 1961، ما لبث أن أنهى تلك الدراسة التي شهدت على هامشها جهد تنظيمي مركز وفاعل، على خط ذات المهمة التي تمثلت في نسج وتأمين الشبكات الإخوانية في أوروبا. بعد استقرار الوضع وانجاز المراحل الأولى من هذه الغاية، طار القاضي إلى الولايات المتحدة تحت ستار استكمال الدراسات العليا في تخصص “جراحة القلب والشرايين”، مثله مثل كثيرين من هذا الجيل المؤسس الذي دخل إلى الأراضي الأمريكية بهذا الغطاء، على اعتبار أن التنظيم كان يتكفل بمجمل مصروفات سنوات الدراسة والإقامة، في الوقت الذي ينخرط فيه العضو في المهام التنظيمية على اختلاف أنواعها. القاضي لم يكن عضوا عاديا فهو يتمتع بمهارات التسلل وتشكيل الشبكات على نحو فائق، وتاريخيا يعد من الشخصيات التي أسهمت بأدوار حاسمة في تثبيت أوضاع التنظيم في أوروبا، فضلا عن النجاح في احداث أول اختراق مؤثر للمجتمع الأمريكي والجاليات المسلمة فيه.
اعتمد تنظيم الإخوان في البداية؛ على استغلال قرارات السماح ببناء المساجد في النمسا من أجل الحصول على التبرعات المالية السخية، قبل أن يمتد هذا العمل وينتقل إلى بقية دول أوروبا، بإشراف أعضاء الإخوان النشطين المعروفين بالمهارة في تشكيل تلك الآلية. ثم بعد عشرة أعوام بالضبط من تاريخ الوصول الأول، أسس الإخوان في فترة السبعينيات والثمانينات بشكل مكثف منظمات ومؤسسات متنوعة تابعة في النمسا، مستخدمين في ذلك اللعبة الشهيرة حيث تتخذ أشكالا عدة، بعضها تجارية وبعضها الآخر انخرط في ساحة العمل الخيري، لكن تظل جميعها تعمل في نشاط جمع الأموال لصالح الإخوان في بلدان الشرق الأوسط. بعض هذه المنظمات حرصت أن تبدو مستقلة في ظاهرها وظل هناك امعان في صبغها بالصبغة النمساوية، من خلال شركاء محليين أو إدارتها من قبل حاملي جنسيات مزدوجة، لكنهم أمام نمط الرقابة الروتينية الهادئة يظهرون على الأوراق بجنسيتهم النمساوية، إلا أن كافة تلك الكيانات ظلت ومازالت تتبع للإخوان بشكل فعلي، إما من خلال ارتباطها بقيادات إخوانية بارزة كلفت من التنظيم بإدارتها أو ملكيتها لصالح التنظيم، أو غيرها من المؤسسات الإخوانية التي نجحت عبر شبكات التغلغل في مفاصل الدولة، أن تحظى منذ تلك الحقبة بمسمى الـ”مسجلة رسميا”.
أسس الإخوان كيانين كبيرين هما “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا”، واعتبروها المظلة الكبرى لجميع الكيانات الواقعة تحت تأثير الإخوان في أوروبا، جنبا إلى جنب مع منظمة “كليجا كولتر فيرين” النمساوية الإخوانية، حيث اضطلعت كلتاهما في صياغة آليات جمع الأموال من الجاليات الإسلامية. واستحوذ التنظيم عبر سنوات على روافد العمل الإنساني كوسيلة تضمن استمرارية تدفق أموال التبرعات، حيث برز نموذج شهير لعبه ببراعة الاخواني “أيمن علي” الذي قدم إلى مصر في 2011، وليعمل بعدها مستشار إعلامي ومتحدث رئاسي لـ “محمد مرسي”، حيث كان يقطن قبلها في مدينة “غراتس” النمساوية، ويرأس وكالة مساعدات كبيرة تحمل اسم “طيبة”. حيث تحرك أيمن بمجرد تثبيت أوضاعه في النمسا، إلى توسيع فروع الوكالة إلى عدد من المدن الأوروبية الشهيرة بما في ذلك ألبانيا والبوسنة، ومنها إلى ألمانيا فيما بعد، لينتقل بصورة مؤقتة ليمارس الإمامة في مسجد “النور” الذي يقوم عليه التنظيم في ألمانيا، وبعد سنوات معدودة يذهب إلى تأسيس شركة تجارية ألمانية تعمل على نقل الأموال من “ميونيخ” إلى “فيينا”. هذه الحرية الكبيرة في الحركة جاءت بصورة رئيسية اعتمادا على أن القانون القضائي النمساوي، يسمح بالشراكات المتعددة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني الدينية، لذلك ظلت النمسا تمثل للإخوان مقرا عملياتيا مريحا، تضمن لهم الاستقرار وتفتح لهم الأبواب لإجراء شراكات في دول أخرى لا تقل عنها تأثيرا في أوروبا دون أي ملاحقات حقيقية.
لهذا ظلت المنظمات المرتبطة بالإخوان منذ عشرات السنين في النمسا، تحصد نجاح ما قامت بنسجه من “شبكة معقدة”، تشمل الهيئات والجمعيات والمشاريع التجارية والأكاديميات التعليمية، لتتمكن بنعومة من استقطاب غالبية المسلمين في هذا البلد، وفي القلب من ذلك تقوم هذه المنظمات بإدارة أشكال التعليم الديني الإسلامي كافة، وقد بدأت منذ عام 2015 بنقلة نوعية جديدة استنادا على هذا الرصيد الضخم، فقد بدأ التنظيم في استقبال العدد الأكبر من المهاجرين المسلمين القادمين من تركيا وغيرها، من أجل توسيع مساحات التأثير في كتلة كبيرة يرونها قادمة لتشكل لهم قدرة استحواذ اضافي، بعد ضمان السيطرة عليهم ايدولوجيا ليصيروا أعضاء عاملين بالتنظيم.
المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية