
“فورين بوليسي”: الرئيس الفرنسي يسعى لفرض بلاده كقوة عظمى في الشرق الأوسط
عرض – نرمين سعيد
خلال الشهر والنصف الماضيين زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت مرتين كما زار العاصمة العراقية بغداد لعقد مباحثات مع الرئيس العراقي برهم صالح ورئيس وزرائه مصطفى الكاظمي إضافة إلى رئيس إقليم كردستان ” نيجيرفان بارزاني”، وعلى الصعيد العسكري سعى ماكرون لتعزيز التواجد الفرنسي في الشرق الأوسط بما في ذلك إرسال حاملة طائرات هيلكوبتر وفرقاطة إلى شرق المتوسط.
ووفقًا لما نشره موقع فورين بوليسي فإن الرئيس الفرنسي يحاول أن يكون قوة عظمى في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تدخلت العاصمة الفرنسية بقوة في العديد من الأزمات هناك آخرها لبنان وليبيا ، وعلى الرغم من كثرة الحديث عن النفوذ الروسي والصيني في منطقة الشرق الأوسط والذي جاء ليحل محل الوجود الأمريكي هناك بعد أن قامت واشنطن بتحفيض عدد قواتها في سوريا والعراق واتباع سياسات أكثر قومية تنصب على الداخل الأمريكي ، إلا أن فرنسا تنافس بقوة.
وحسب مراقبين فإن الاتجاه الفرنسي للداخل اللبناني كان في أغسطس الماضي بعد حادثة انفجار مرفأ بيروت لدعم جهود الإغاثة ولذلك يرى مراقبون أن هذا التوجه كان مبررًا أما الطائرتين النفاثتين الفرنسيتين اللتين ظهرتا في الأجواء القبرصية والمناورات البحرية مع الأسطول اليوناني لا يمكن وضعها إلا في سياق تعزيز واستعراض النفوذ الفرنسي في شرق المتوسط.
وذكرت “فورين بوليسي” أن الجمهورية الفرنسية تخلت في الفترة الحالية عن أوهام استمرت لعقود بررت بها أنها لا زالت موجودة في الشرق الأوسط وأنها تمتلك بعض القوة هناك، لمجرد أنها قامت على مدار سنوات ببيع أسلحة ثقيلة لدول شرق أوسطية كما شاركت باريس العاصمتين الأمريكية والبريطانية بعض العمليات العسكرية في منطقة شمال أفريقيا منها بعثات لمكافحة الإرهاب ولم يكن من ضمنها الحرب التي سماها الغرب تحرير العراق في 2003. ولكن على أية حال، هذه الجهود كانت سريعًا ما تخفت دون الحصول على أرضية حقيقية للوجود الفرنسي في الشرق الأوسط.
أما ” ماكرون” فيبدو اليوم وقد وعى الدرس جيدًا، ويتحرك بجدية أعمق في كل ما يتعلق بالدور الفرنسي وإذا شئنا التبرير فإن نقطة التحول لباريس تتكون من ” الطاقة-اللاجئين –تركيا”.
وأوضحت “فورين بوليسي” أنه منذ ما يقرب من عقد تقريبًا سعى الرئيس الفرنسي السابق ” نيكولا ساركوزي” إلى إسقاط نظام العقيد القذافي وبذل في سبيل ذلك جهود كبيرة حتى أن المروحيات التي رصدت الرتل العسكري للقذافي قرب مسقط رأسه في مصراته كانت طائرات فرنسية وهي التي أرشدت الثوار إلى مكانه.
ويعد الدافع وراء ذلك الشغف الفرنسي بإسقاط نظام القذافي أن ساركوزي كان يرى أن النظام القمعي الدكتاتوري في ليبيا سيخلف موجات غير مسبوقة من الهجرة إلى السواحل الأوروبية، واليوم تظهر رغبة ماكرون لاحتلال موقع متميز في الشرق الأوسط مدفوعة بنفس الدافع وهو تجنب موجات هجرة الليبيين إلى السواحل الأوروبية.
إلا أن الهدف وإن كان واحدًا ولكن الأسلوب الذي يتبعه ماكرون يختلف عن أسلوب سلفه ساركوزي ، ففي الوقت الذي سعى فيه نظام ساركوزي لإسقاط نظام القذافي يحاول ماكرون دعم الرجل القوي الذي يقود الجيش الوطني ” خليفة حفتر” لرؤيته أنه قد يكون قادرًا على تحقيق الاستقرار وبالتالي منع المهاجرين غير الشرعيين من الوصول للسواحل الأوروبية، عمومًا لا تنشغل السياسة الخارجية الفرنسية الآن بقضية تحقيق الديمقراطية في ليبيا أو حتى في الشرق الأوسط.
وعلى الجانب اللبناني فإن التوجه الفرنسي القوي الذي دفع سيد الإليزيه لزيارتها مرتين في شهر ونصف يتعلق بقضية اللاجئين كما أنه مدفوع بالحنين المرتبط بالحقبة الاستعمارية.
لكن الجزء الأهم من هذا التوجه الفرنسي أن باريس متخوفة من شتات لبناني جديد في أوروبا إذا ما ساءت الأوضاع أكثر من ذلك، وليس الشتات السوري ببعيد – فقد أدت موجات هجرة السوريين إلى أوروبا بعد 2011 إلى صعود التيار اليميني والنازي من جديد في عواصم أوروبية كانت قد تجاوزته بكثير ، إضافة إلى ذلك فإن ماكرون يواجه استحقاقًا انتخابيًا جديدًا في 2022 في وقت لا تبدو فيه شعبيته في أفضل أحوالها ولذلك فهو يسعى لكسب النقاط.
ومن المهم أيضًا، أن نضع في اعتبارنا ما يوجد في السواحل الليبية والقبرصية القريبة من السواحل اللبنانية وما هو موجود في الأراضي العراقية مثار اهتمام للإليزيه. فليبيا على سبيل المثال تمتلك أكبر احتياطي نفط في أفريقيا وخامس أكبر احتياطات من الغاز الطبيعي ولذلك عملت شركة توتال الفرنسية على مدى سبعة عقود في مجال الطاقة في ليبيا.
أما في العراق فإن نفس الشركة الفرنسية أيضًا تمتلك ما يقرب من 23% من حصة السوق فيما يتعلق بالطاقة وتدير حقل ” حلفا” كما تمتلك 18% من حصة السوق في إقليم كردستان.
كما أن باريس تشارك في التنقيب عن الغاز قبالة الساحل الجنوبي لقبرص وهو القريب من السواحل اللبنانية حيث يعتقد أن هناك كميات كبيرة من الطاقة، وفي نهاية المطاف فإن الفرنسيين يتمتعون بسمعة طيبة في الشرق الأوسط لأنهم أحجموا عن المشاركة في المغامرات الأمريكية وظهروا كحماة للحريات وحقوق الإنسان ولكن الكثيرون يتناسون أن التحركات الفرنسية لا تدفع إلا بمصالحها التجارية والاقتصادية.
وإذا انتقلنا للحديث عن تركيا، فإن النوايا السيئة المتبادلة بين الرئيسين الفرنسي والتركي تتخذ أبعادًا أكثر تشعبًا من مجرد الصراع في المتوسط، فلطالما كانت باريس من المشككين في نوايا تركيا الحقيقية للانضمام للنادي الأوروبي وكانت من الذين تزعموا هذا التيار داخل الاتحاد.
فمن جهة يرى الاتحاد الأوروبي أن ناديهم يجب أن يقتصر على الدول ذات الأغلبية المسيحية ومن الجهة الأخرى فإن تركيا ذات التوجه الإسلامي قد زادت من أسلمة سياساتها بالخطوات التي يتبعها حزب العدالة والتنمية وبالطبع فإن تهديدات أنقرة المستمرة بتصدير أزمة اللاجئين لأوروبا حدت من عدد الصداقات مع العواصم الأوروبية ومن ضمنها باريس.
ويضاف إلى هذه المشاكل المشكلة التي تبدو أنها الأبرز حاليًا والتي تتلخص في السياسات العدائية لتركيا في شرق المتوسط وشمال أفريقيا، ومن وجهة النظر الباريسية فإن التنقيب التركي عن الثروات الطبيعية قبالة السواحل القبرصية يهدد مباشرة عضو من أعضاء الاتحاد الأوروبي، كما أن الدعم التركي لحكومة السراج في ليبيا يقوض الجهود الفرنسية الداعمة لحفتر باعتباره قادر على تحجيم أزمة اللاجئين وما يزيد الطين بلة أن تحول ليبيا إلى دولة عميلة لتركيا يهدد وجود شركة توتال الفرنسية الطويل في ليبيا.
وأخيرًا فإن زيارة ماكرون للعراق جاءت في سياق التأكيد على أن الغرب لن يغض الطرف عن السياسات التركية العدوانية في العراق واستهداف حزب العمال الكردستاني على أراض ذات سيادة عراقية، تتقن باريس العزف على هذه النغمة ربما ليس انحيازًا للحزب الكردي بالطبع ولا حتى وقوفًا في صف بغداد وإنما إمعانًا في استفزاز الأتراك وتأليب الجميع ضدهم.
باحث أول بالمرصد المصري