
هل يؤهل الاتفاق التجاري بين اليابان والمملكة المتحدة لمرحلة ما بعد “بريكست”؟
بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على المفاوضات، اتفق وزير الخارجية الياباني موتيجي توشيميتسو ووزيرة الدولة للتجارة البريطانية ليز تروس في الحادي عشر من سبتمبر الجاري على توقيع اتفاق تجارة حرة بين البلدين، كأول اتفاق بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، من المتوقع أن يُتاح نص الاتفاق في أكتوبر القادم، لكن وفقًا لتقارير، فقد استعان الاتفاق بأغلب بنود الاتفاق الياباني مع الاتحاد الأوروبي (EPA) التي دخلت حيز التنفيذ في فبراير 2019 بعد خمس سنوات من المفاوضات، لكن أضيف عليها نقاط تخص الجوانب الرقمية وتدفق البيانات لتوفير بيئة صديقة للأعمال.
توقيت الاتفاق
يتزامن الاتفاق مع استقالة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي آخر أغسطس الماضي لظروف صحية، وترك فراغًا بعد أطول مدة كرئيس وزراء. وستبدأ انتخابات في الحزب الحاكم لاختيار خليفة آبي لزعامة الحزب يوم 14 سبتمبر الجاري، ثم التصويت في البرلمان على رئيس الحكومة الجديد في 16 من ذات الشهر، الذي من المتوقع بنسبة كبيرة أن يكون من هذا الحزب.
يعد آبي حليفًا قويًا لتيريزا ماي رئيسة الوزراء البريطانية السابقة في إطار مجموعة السبع. كانت اليابان من المعارضين للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بسبب التخوفات على الشركات اليابانية المتواجدة في بريطانيا والتبادل التجاري. وأصدرت الخارجية اليابانية بعد فترة من التصويت على الخروج بيانًا يحث البريطانيين على تذكّر أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس مجرد مفاوضات ثنائية بين المملكة والاتحاد.
يضاف إلى ذلك، أن الاتفاق يأتي وسط تعثر الجانبين الأوروبي والبريطاني في التوصل لاتفاق بخصوص بريكست، فمن المفترض أن تنقضي الفترة الانتقالية للخروج بنهاية هذا العام 2020. وقد هددت بروكسل منذ أيام باتخاذ إجراءات قانونية ضد مشروع قانون قدمته بريطانيا ينتهك التزاماتها بمعاهدة الخروج الملزمة التي تم الاتفاق عليها العام الماضي، واعتبار ذلك مضرًا بثقة الاتحاد مع المملكة.
الفوائد العائدة على الدولتين من الاتفاق
يمكن الإشارة لبعض الفوائد التي ستعود على الجانبين بعد توقيع الاتفاق، على النحو التالي:
- تعزيز التبادل التجاري: رغم أنه لم يتم الحصول على نص الاتفاق بعد، لكن هناك توقعات بأن يزيد التبادل التجاري بنحو 15.2 مليار جنيه إسترليني (2 تريليون ين ياباني)، لكن لم يتم ذكر موعد تحقيق هذا الرقم. من جانب آخر، تطرقت تقارير إلى أن المملكة المتحدة ستشهد زيادة بنسبة 0.07% فقط في ناتجها المحلي الإجمالي بعد الصفقة، وهي نسبة قليلة إذ تشكل اليابان حوالي 2% من التجارة الخارجية البريطانية.
- تأمين الشركات: يحمل الاتفاق أهمية للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تقوم بالتصدير لليابان ويقدّر عددها بحوالي 8000 شركة، إذ سيوفر لها طمأنينة باستمرارية التداول دون تأثّر بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، إذ تعتبر اليابان أن بريطانيا مركز وصول للأسواق الأوروبية على مدار عقود. وتريد اليابان استمرار تدفق رؤوس الأموال دون عوائق، لأنه في حال فشلت بريطانيا والاتحاد الأوروبي في التوصل لاتفاق، ستواجه الشركات اليابانية الموجودة في المملكة المتحدة رسومًا جمركية على الأجزاء المستوردة من أوروبا.
- تخفيضات جمركية: يشتمل الاتفاق تقليل التعريفات الجمركية على الصادرات البريطانية من لحم الخنزير ولحم البقر، بالإضافة إلى زيادة الحصص المتبادلة من الشعير أكثر من تلك المنصوص عليها في الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي واليابان. كذلك تخفيض التعريفة الخاصة بقطع غيار السيارات التي تزودها شركات مثل نيسان وهيتاشي، إذ تعد نقطة الاحتفاظ بتعريفات جمركية منخفضة على السيارات وقطع الغيار الخاصة بها مسألة هامة بالنسبة لليابان، مثلما تعاقدت عليها مع الاتحاد الأوروبي. أيضًا، هناك أمر يخص قواعد المنشأ، إذ ستتحول الصادرات البريطانية التي تحتوي على الكثير من الأجزاء الأوروبية إلى سلع بريطانية المنشأ. لكن يحمل هذا عقبة تخص السلع البريطانية التي تحتوي أجزاء يابانية وتريد المملكة ترويجها في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يفرض القيام باتفاق مع الاتحاد بشأنها.
- رفع مستوى الخدمات: بات مجال التجارة الرقمية نقطة خلاف قوية في محادثات التجارة العالمية بسبب توسيع تواجد شركات الإنترنت في الأسواق حول العالم. دفع هذا إلى احتواء الاتفاق على بنود تخص توفير خدمات تتعلق بحرية تدفق البيانات بين البلدين وحمايتها في نفس الوقت بما يعرف “حظر توطين البيانات”. يأتي ذلك بهدف دعم تطوير التقنيات الناشئة مثل blockchain، والسيارات بدون سائق، والحوسبة الكمية. يضاف إلى تقوية وصول شركات الخدمات المالية البريطانية من خلال تبسيط عملية طلب التراخيص للعمليات اليابانية. يحتوي الاتفاق على بنود تخص حرية حركة الأفراد، بما سيمنح صغار الموظفين في الشركات سهولة السفر بين البلدين.
- دخول بريطانيا في اتفاق أشمل: يعد الاتفاق مع اليابان بمثابة فرصة لبريطانيا كي تسلط الضوء على استقلالها عن الاتحاد، لذا فهي ستسعى للانضمام للكتلة التجارية التي تتكون من 11 دولة فيما تُعرف بالاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، قد تبدأ مفاوضات تجارية جديدة مع دول أعضاء بتلك الكتلة التجارية مثل أستراليا وكندا. يمكن القول إن موافقة اليابان على الانضمام البريطاني للاتفاق الشامل المذكور قد تخلق حصن ضد سيطرة الولايات المتحدة وحثها على الأطر الاقتصادية متعددة الأطراف.
- البعد الاستراتيجي: بعيدًا عن الجانب التجاري، سيلعب الاتفاق دورًا في تعزيز التعاون الثنائي من الناحية الأمنية والدفاعية، إذ تتطلع طوكيو لمواجهة الطموحات الإقليمية المتزايدة للصين. وسيسمح للمملكة بتعزيز مكانتها السياسية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي من المرجح أن تصبح مركزًا للنمو الاقتصادي العالمي في العقود المقبلة، وتتشابه استراتيجية البلدين في هذه المنطقة. تحافظ الدولتان على علاقتهما الأمنية المشتركة من خلال التدريبات العسكرية على الأراضي اليابانية، وتطوير الصواريخ.
ماذا بعد؟
رغم موافقة اليابان من حيث المبدأ على عقد اتفاق للتجارة الحرة مع بريطانيا، فمن غير المتوقع أن تُفضّل هذا الاتفاق في الوقت الحالي عن علاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي ككتلة أكبر، لذا فهي تعمل على إيجاد توازنات بين الاتفاقين كي لا تتعرض لخسارة وحماية الشركات الخاصة بها في الوقت الحالي جراء الخروج البريطاني من الاتحاد.
من ناحية ثانية، تريد المملكة المتحدة العمل على توسيع شراكاتها الخارجية والتأسيس لمرحلة جديدة بعد خروجها، خاصة في ظل حالة عدم اليقين التي تهدد العديد من الشركات حول الشكل الذي ستبدو عليه العلاقات التجارية المستقبلية بعد بريكست. هذا ما يجعل الاتفاق يحمل أهمية رمزية خاصة لبريطانيا على اعتبار ما ذكرته تقارير بأن بريكست سيطلق العنان للقوة البريطانية لتصبح سياستها أقوى خارج أوروبا، وقد يشكل الاتفاق مع اليابان نقطة انطلاق مضيئة لمستقبل العلاقات بينهما.
لكن من غير الواضح في هذه المرحلة ما إذا كانت اليابان وبريطانيا ستتمتعان حقًا بفوائد اقتصادية أكبر مما يقدمه اتفاق اليابان والاتحاد الذي لا تزال المملكة المتحدة عضوًا فيه. بالإضافة إلى أنه سيكون هناك حدًا للمساهمة البريطانية في أمن واقتصاد منطقة آسيا والمحيط الهادئ بسبب بُعد المسافة والاقتصاد الجغرافي للقوى الكبرى هناك.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية