مصر

معارك المحاور.. كيف تحولت مصر إلى مركز إقليمي لتداول الطاقة؟

كمحرك للأحداث العالمية، يتبوّأ إقليم الشرق الأوسط مكانة حيوية في الاستراتيجية العسكرية الإقليمية والدولية، بيد أن هذه المكانة مازالت تتعاظم منذ العقدين الماضيين نظرًا لاستمرار استحواذ الإقليم على أكثر من نصف احتياطات الطاقة في العالم، ومثول هذه الاحتياطات أمام ما يُعرف بـ “ديكتاتورية الجغرافيا”، ورهنها تحت وقع التجاذبات الإقليمية والتحول في مصفوفة الأدوار الإقليمية، وسياقات التنافس العالمي في عالم بدا وأنه يتخلص من الأحادية القطبية، ويتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، يتشكل بتشابك المصالح بين الأقاليم الممتدة، منتظرًا الظرف الأمني والاستراتيجي المناسبين. 

وفي إقليم الشرق الأوسط، لم تشكل الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988)، ولا الغزو الأمريكي للعراق 2003، فرصًا مثلما قدم ما يُسمى بالربيع العربي فرصًا للفواعل الإقليمية والدولية في إعادة التموضع وبناء محاور إقليمية لحصد المكاسب في الفترة التي تسبق تشكل ملامح جديدة للنظام الدولي الحالي الأحادي القطبي. 

ومن الفرص التي أفرزها “الربيع العربي” إقليميًا؛ محاولة ملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن خروج كل من العراق وسوريا من معادلة القوة العربية، والسعي الحثيث لإحكام السيطرة على الممرات والمضائق المائية، لاسيما أن الشرق الأوسط يشرف على أهم ثلاثة مضائق بحرية مرتبطة بالتجارة الدولية ومسارات وصول النفط للعالم الغربي (هرمز – باب المندب – جبل طارق)، والتنافس على الدولة المركز وصاحبة النفوذ الأكبر في المنطقة، علاوة على فرصة الاستئثار بموقع “مركز تداول الطاقة في الإقليم”. حيث مثلت تلك الفرصة هدفًا استراتيجيًا للقوى الإقليمية التقليدية المتنافسة (تركيا –إيران –إسرائيل)، لما بها من اعتبارات مضيفة للقوة والثقل الإقليمي. وذلك للأسباب التالية:

  1. لجوء الولايات المتحدة لتقويض خطوط تدفق الطاقة للعالم الغربي من الشرق (روسيا – الصين)، بدعم صناعات الغاز المسال، وتنويع مصادر التوريد.
  2. الاكتشافات الجديدة من مصادر الطاقة في حوض شرق المتوسط، وقربها وارتباطاتها بالفواعل الإقليمية المتنافسة على الدولة المركز، وجملة فرص “الربيع العربي”، بالرغم من تحمل بعض هذه الفواعل الكثير من تحدياته وخاصة الأمنية والاقتصادية.

ويمكن تعريف “مركز تداول الطاقة”: الدولة التي تتقاطع خلالها خطوط إمدادات الطاقة “نفط – غاز – كهرباء”، فضلًا عن إسهامها في تصدير كميات من هذه الطاقة لمحيطها الإقليمي والدولي.

ولما كانت عوامل البنية التحتية للطاقة والاستقرار والأمن وسرعة تنفيذ برامج خطط التنمية الشاملة تحت مختلف الظروف الأمنية والاقتصادية من أهم محددات الاستئثار بمركز “تداول الطاقة” في الإقليم؛ بدا واضحًا ابتعاد هذا المركز عن كل من “تركيا -إيران -إسرائيل” لعدة أسباب يمكن إجمالها في التالي:

  1. انخراط الثلاثي (تركيا – إيران – إسرائيل) في طاحون الحرب السورية لقرابة العقد، والوقوف عند عتبة تسويات الحد الأدنى وتطبيق نظرياتهم للحدود الآمنة، دون الخروج من طاحون الحرب بمكاسب حقيقية على صعيد “الطاقة” وخطوط إمداداتها. فخطوط الغاز كانت من ضمن أسباب اندلاع الحرب السورية على هذا النمط والشكل. حيث صرح الرئيس السوري بشار الأسد في ديسمبر من العام 2016، أن رفض سوريا مد خط أنابيب اقترحته قطر أحد أسباب اندلاع الحرب في سوريا في العام 2011. وأضاف الأسد في لقاءه مع صحيفة “إل جورنالي” الإيطالية: “كان هناك خطان سيعبران سوريا، أحدهما من الشمال إلى الجنوب يتعلق بقطر، والثاني من الشرق إلى الغرب إلى البحر المتوسط يعبر العراق من إيران، كنا نعتزم مد ذلك الخط من الشرق إلى الغرب”. لكن طول أمد الاقتتال المسلح داخل الأراضي السورية، ونجاح الحكومة السورية في تثبيت نفسها كطرف دائم في معادلات التسوية، والتقاء القوى الإقليمية والدولية المنخرطة عند نقاط تماس، ضمن مناطق نفوذ ثلاثة (الأولى تمتد على ثلثي أراضي البلاد، ويسيطر عليها الجيش السوري بدعم روسي إيراني؛ والثانية تشمل ربع مساحة البلاد في الشمال الشرقي، وتسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، بدعم من التحالف الدولي، فيما تقع المنطقة الثالثة الواقعة في شمال البلاد وشمالها الغربي تحت نفوذ تنظيمات مسلحة وأخرى إرهابية “هيئة تحرير الشام”، تتبع القرار الاستراتيجي لأنقرة؛ كل هذه العوامل دفعت لاستحالة أن تكون سوريا “عقدة الوصل” لخطوط الطاقة الناشئة.
  1. افتقار الثلاثي الإقليمي لمنشآت تسييل الغاز، إذ تتراوح تكلفة إنشاء المنشأة الواحدة من 7 لـ 10 مليارات دولار. ما أضاف تحديًا آخر أمام الخطط الطموحة للاستحواذ على موضع “مركز الإقليم لتداول الطاقة”. حيث تعتبر مصر الدولة الوحيدة المطلة على شرق المتوسط وتمتلك منشأتين لتسييل الغاز قبالة السواحل (إدكو – دمياط)، بقدرة استيعابية قرابة ملياري قدم مكعبة يوميًا.

ديكتاتورية الجغرافيا.. مصر والتحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة

لطالما عانت مصر من محدودية مواردها للطاقة، وأثقلتها بفاتورة باهظة لتلبية حاجة السوق المحلية، فإنتاج مصر من النفط السائل يوميا يتراوح ما بين 630 لـ 640 ألف برميل يوميًا، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بمتطلبات السوق المحلية، وحجم إنتاج الجارة الغربية ليبيا 1.2 مليون برميل، وحجم انتاج السعودية 12 -13 مليون برميل يوميًا. 

مثّل العام 2015 نقطة تحول كبرى لدى مصر على صعيد أمن الطاقة؛ حيث تم اكتشاف حقل “ظهر” من قبل شركة “إيني” الإيطالية، في منطقة امتياز شروق، وعلى بُعد نحو 200 كلم من سواحل مدينة بورسعيد. ويعد حقل ظهر أكبر حقول المتوسط بإجمالي 850 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 30 تريليون قدم مكعبة من الغاز.

وبدأ الإنتاج في الحقل منذ ديسمبر 2017، بطاقة إنتاجية 350 قدم مكعب يوميًا، إلى أن وصلت طاقة الإنتاج الآن 3 مليار قدم مكعب يوميًا بما يمثل إنتاجه ما نسبته 40% من إجمالي إنتاج مصر من الغاز. 

ونجحت مصر في زيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي ليصل إلى 8 مليارات قدم مكعبة يوميًا خلال العام المالي 2020/2021، بفائض 1.3 مليار قدم تصدره لدول مجاورة، منها دول بالاتحاد الأوروبي.

هذا وقد ارتفعت صادرات الغاز المسال خلال العام الماضي، بنسبة 150% على أساس سنوي لتصل قيمتها إلى 1.24 مليار دولار، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. لتتحول مصر رسميًا إلى مصدرِ صاف للغاز في المنطقة بعدما كانت من أكبر مستورديه. 

حيث سرّع اكتشاف حقل ظهر من مساعي الدولة المصرية لاقتناص فرصة تعثر الثلاثي الإقليمي في سوريا، والبدء في تدعيم موقع وموضع مصر على صعيد خريطة الطاقة، والاستئثار بمركز “تداول الطاقة” عن طريق:

  1. الاستحواذ على فائض الغاز الإسرائيلي والقبرصي، في حلول سبتمبر من العام 2018 أعلنت رئاسة الوزراء اكتفاء مصر ذاتيا من الغاز بعد الدخول السريع لحقل ظهر لمعادلة الغاز، وتوفيره نحو 250 مليون دولار شهريًا بوقف استيراد الغاز الطبيعي المسال قبل هذه الأثناء، في فبراير من العام الماضي، تم توقيع اتفاق ضخم بين الجانب الإسرائيلي وشركة دولفينوس المصرية الخاصة وبموجب الاتفاق التاريخي، تشتري شركة خاصة في مصر هي دولفينوس القابضة ” 85 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 19.5 مليار دولار من حقلي لوثيان وتمار الإسرائيليين على مدى 15 عاما. على مدى السنوات العشر القادمة. ما أغلق الباب أمام تركيا في محاولاتها لدفق الغاز الإسرائيلي للسوق الأوروبية عبر أراضيها، ليعزز من طموحاتها الرامية للاستئثار بمركز الإقليم لتداول الطاقة، وخاصة بعدما نجحت في التوصل مع الجانب الروسي لاتفاقات نتج عنها انشاء خط “ترك ستريم2” لدفق الغاز الروسي لجنوب أوروبا عبر تركيا. وتباعًا لم تنجح تركيا في تمرير أي من غاز شرق المتوسط عبر أراضيها، فمعادلات الطاقة الناشئة لم تشملها في هذه المنطقة. وهو ما يمثل خسارة كبيرة لتركيا وانخراطها العسكري المباشر في الإقليم كونه لم يضمن لأنقرة فرض وقائع ميدانية تمنحها فرصة الدخول على خط “تداول الطاقة”، وهو ما يفسر السعي التركي الحثيث لفتح فتح قناة تواصل جديدة خاصة بخط الغاز المنطلق من الحقول الإسرائيلية للمرور عبر أراضيها، حيث كشفت هيئة البث الإسرائيلي في يناير الماضي عن استعداد أنقرة للتعاون مع تل أبيب في نقل إمدادات الغاز الإسرائيلية إلى أوروبا عبر الأراضي التركية. وقالت الهيئة إن مصدرًا تركيًا رفيع المستوى في مجال الطاقة نقل رسالة بهذا الخصوص إلى إسرائيل، وقال إن بلاده “تنتظر تشكيل حكومة مستقرة في إسرائيل وتعيين وزير طاقة جديد لبحث هذه المسالة”.  ولفتت الهيئة إلى أن هذا الموقف التركي يأتي بعكس تصريحات سابقة مفادها أن أنقرة لن تسمح بمد غاز إسرائيلية إلى أوروبا عبر المياه التي تزعم أنقرة أنها تتبع لها.

وتباعًا، وقعت الحكومة المصرية في سبتمبر من العام 2018، اتفاقًا لإنشاء خط أنابيب يربط حقل أفروديت القبرصي بمنشآت تسييل الغاز في إدكو ودمياط، تكلفة مشروع الربط مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل الغاز من قبرص لمصر بحلول عام 2024.

لتصبح المحصلة في شرق المتوسط على صعيد خطوط الغاز في شرق المتوسط منذ اكتشاف حقل ظهر في العام 2015، حتى الآن:

  • ربط بين مصر و “إسرائيل – قبرص” من خلال خطوط للغاز، تحصل مصر عبرهم على الغاز لتسييله ومن ثم دفقه للسوق الأوروبية عبر سفن شحن مختصرة لتكلفة ووقت انشاء ومد خطوط انابيب تحت سطح البحر. كما يأتي ذلك في سياق ارتفاع صادرات العالم من الغاز المسال بنسبة 13% في العام 2019.
  • ربط بين “إسرائيل – قبرص – اليونان” في مشروع خط “إيست ميد”، وقد تناول المرصد المصري في ورقة تحليلية سابقة تأثير هذا الخط على المخطط المصري للتحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة.
  1. إنشاء خط انابيب للنفط بين (العراق – الأردن – مصر)، وذلك ضمن ركائز تحالف “الشام الجديد” بين مصر والأردن والعراق، حيث تواصلت اللقاءات الدورية بين قادة رؤساء مصر والعراق والأردن والتي كان آخرها في 25 أغسطس الماضي ليكون بذلك اللقاء الثالث على التوالي. تناول الزعماء الثلاثة تناولوا أوجه تعزيز مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وذلك بهدف تأسيس مرحلة قادمة من التكامل الاستراتيجي بين الدول الثلاث، قائمة على الأهداف التنموية المشتركة. ويقوم التكامل الاقتصادي على تزويد العراقي لكل من مصر والأردن بالنفط عبر أنبوب يبدأ من البصرة مرورًا بميناء العقبة وصولا لمصر، ويحصل البلدان على النفط العراقي مقابل خصومات تصل إلى 16 دولار للبرميل الواحد.

ومن المتوقع أن يسد الانبوب العراقي احتياجات مصر من النفط الخام نظرًا لاستيراد مصر من السعودية نسبة تصل 750 ألف لتر مشتقات مختلفة من أرمكوا كل 3 شهور و12 مليون برميل كل 6 شهور طبقًا للأسعار العالمية، كما سيتم تمرير النفط العراقي لمعامل التكرير المصرية وعمل قيمة اقتصادية مضافة ما يسد احتياجات البلاد المستوردة كالبنزين والسولار والمازوت.

  1. الربط الكهربائي، ترتبط مصر بمنظومة للربط الكهربائي مع 7 دول عربية وأفريقية أوروبية، تتضمن مشروعات قائمة بين مصر وثلاث دول. حيث تنتج مصر 58 ألف ميجاوات، ووصل الاستهلاك إلى 31 ألفًا فقط، ما يحقق 27 ألف ميجا وات فائضًا، يأتي ذلك بعد معاناة شديد لقطاع الكهرباء في مصر خلال عامي 2013-2014، إذ تطلب الأمر نحو 2.7 مليار دولار لتحقيق فائض الـ 27 ألف ميجا وات خلال ستة أعوام. وعليه، اتجهت الدولة المصرية لتعزيز قدرات الربط الكهربائي الموجودة مع الأردن، حيث ترتبط مصر مع الأردن منذ عام 1999 بمشروع ربط كهربائي، عبر خط تصديري تصل قدرته إلى 400 ميجاوات، وتهدف وزارة الكهرباء لزيادة قدرات الربط الكهربائي مع الأردن لنحو 1000 ميجاوات، فيما وصلت قيمة صادرات مصر من الكهرباء للأردن خلال العام الماضي 15.5 مليون دولار.

يأتي ذلك مع مشروع للربط الكهربائي مع السودان بقدرة 300 ميجاوات. كما يوجد مشروع للربط الكهربائي مع السعودية بقدرة 3000 ميجاوات، ومشروع مخطط للربط مع جمهورية قبرص واليونان بقدرة 2000 ميجاوات، وقعته مصر اتفاقه للتعاون في مايو العام الماضي. كما من المخطط ان تصل الكهرباء من مصر للعراق عبر الأردن ضمن مشاريع التكامل الاقتصادي لـ “الشام الجديد”.ختامًا، مع عدم الانخراط العسكري المباشر في دوائر الصراع، بما قد يهدد القدرات البقائية وخطط التنمية الشاملة التي تعد أصل مخططات الدفاع، نجحت مصر في الاستثمار فيما قدمته البيئة الأمنية الجديدة من انخراط مباشر وعميق ومتشابك لثلاثي الإقليم (تركيا – إيران – إسرائيل) في المسرح الممتد من العراق لسوريا؛ عمل على خروجهم من الحرب السورية دون مكاسب حقيقية على صعيد “التحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة”، فخطوط الغاز المخططة من الحقول الإيرانية والقطرية والتي تقاطعت في سوريا، باتت في محض الأوراق التي رسمت عليها دون أن تتحول واقعًا على الأرض، ما قدم لمصر فرصة مواتية جاءتها بحديث “ديكتاتورية الجغرافيا” للتعبير عن الاقتران الأبدي بين مكان ما ونفوذه الاستراتيجي. حيث وفر القرب الجغرافي بين مصر ودول جنوب أوروبا، ومن جهة أخرى إطلالة منشآت تسييل الغاز المصرية على سواحل المتوسط، واستمرار مصر في المضي في تنفيذ خططها للتنمية الشاملة وخاصة على صعيد “الطاقة الكهربائية”؛ وفرت عوامل حسم مرحلة مهمة من ترسيخ التموضع في “مركز تداول الطاقة للإقليم”، ولاسيما بعدما انخفضت وتيرة العمليات الإرهابية داخل وادي النيل وتطهير الجيوب العسكرية التي هددت الخاصرة الجنوبية الغربية المصرية انطلاقًا من درنة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى