إيران

ما بين المنافسة الخارجية والعقوبات الأمريكية: هل انهارت صناعة السجاد الإيرانية؟

في عام 1949 وأثناء تنقيب عالم الآثار الروسي سيرجي رودينكو في منطقة “بازيريك” الواقعة على المنحدرات الجنوبية لجبال ألتاي في سيبيريا، تم العثور على أقدم قطعة سجاد في العالم تعود صناعتها إلى العصر الأخميني في إيران (559 ق.م- 331 ق.م). فقد اشتهرت إيران منذ آلاف السنين وعصر ما قبل الميلاد بصناعة السجاد اليدوي (فرش)، وازدهرت هذه الصناعة بشكل كبير ولاقت رواجاً هائلاً داخل إيران وخارجها، خاصة وأن الأخيرة كانت تسيطر على صادراتها عالمياً بما يُقدّر سنوياً بحوالي 450 مليون دولار في المتوسط خلال الأعوام الأخيرة، وما يفوق المليار دولار في أوقات سابقة. وكان النظام الإيراني حتى وقت قريب يوظف بطرق شتى هذه الصادرات من أجل الحصول على العملة الصعبة.

لكن على الرغم من هذه الشهرة الكبيرة التي نالتها هذه الصناعة على مدار مئات الأعوام الماضية، إلا أنها باتت تواجه مؤخراً ركوداً كبيراً وهبوطاً تعود أسبابه لعوامل محلية وخارجية، اقتصادية وسياسية. ويُعد من أبرز هذه العوامل هو ظهور منافسين جدد أكثر انفتاحاً على الخارج ووصلاً إلى الأسواق، وإعادة فرض العقوبات الخارجية مرة أخرى عام 2018، وذلك إلى الحد الذي دفع وكالة أنباء هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية (صدا و سيما) إلى نشر مقال في 21 يوليو 2020 بعنوان “السقوط الحر للسجاد من عرش الصادرات”(1) حذّرت فيها من تدهور هذه الصناعة في إيران وانخفاض نسبة صادراتها هناك خلال العامين الماضيين بنسبة 90%. وفيما يلي نتطرق أهم وأبرز أسباب الركود الكبير الذي تواجهه هذه الصناعة الإيرانية، وذلك بعد تناول حجم عائداتها الاقتصادية أولاً.

صناعة السجاد الإيراني تدر مليارات الدولارات محلياً

  يُعد السجاد الإيراني من أبرز السلع التي تشتهر بها إيران عالمياً، وتصدرها إلى العديد من الأسواق الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا، اليابان، كندا، وفرنسا. وقبل اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، كانت طهران تسيطر على حوالي 55% من السوق العالمي لتجارة السجاد.(2) واستمرت إيران مسيطرة على السوق العالمي في هذه التجارة خلال العِقْد الأول من القرن الحالي، مع بعض الركود أحياناً، لتحصل على حوالي 1.2 مليار دولار أمريكي سنوياً خلال هذه المدة الزمنية. وكان معظمها يتم تصديره إلى البلدان المذكورة آنفاً وأبرزها الولايات المتحدة نفسها، على الرغم من التوتر في العلاقات بين البلدين.

  واستمرت الصادرات الإيرانية من السجاد مرتفعة، إلى أن انخفضت بشكل ملحوظ في عهد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد (2005-2013)؛ نتيجة لبدء واشنطن فرضَ عقوباتٍ على طهران خلال رئاسته إيران. ولكن على الرغم من ذلك، كانت صادرات السجاد الإيراني وصناعته لا تزال ضخمة محلياً داخل إيران وخارجها. فقد بلغت قيمة صادرات السجاد عام 2006 حوالي 480 مليون دولار و420 مليون دولار في 2008، ثم تراجعت نسبياً في العام 2010 لتصل إلى 400 مليون دولار فقط،(3) وذلك حينما خسرت إيران السوق الأمريكي ذلك العام بسبب فرض العقوبات عليها بعد أن كان نصيب الولايات المتحدة قبل ذلك من صادرات السجاد الإيراني يبلغ 40 مليون دولار سنوياً، لتصبح أحد أهم مشتريي هذه السلعة من إيران.(4)

انتعاشة كبرى بعد الاتفاق النووي عام 2015

  وعقب التوصل إلى الاتفاق النووي مع القوى الكبرى عام 2015، عادت صناعة السجاد الإيراني للانتعاش مرة أخرى، حيث بلغت عائدات تصديره 426 مليون دولار خلال عام 2017، وذلك بنسبة نمو بلغت 18% عن السنة المالية السابقة لها. واستوردت الولايات المتحدة 30% من السجاد الإيراني المنسوج يدوياً خلال العامين اللذين أعقبا رفع الحظر عن طهران.(5) فبعد أن توقفت صادرات السجاد الإيراني كلياً إلى الولايات المتحدة، كأحد أهم المشترين، بين عاميّ 2010 و 2016، عادت مرة أخرى للصعود وبلغ نصيبها من مجمل صادرات (الفرش) الإيراني إلى الخارج حوالي 25% عام 2017.

  وإجمالاً، استطاعت صناعة السجاد في إيران خلال فترة ما بعد الاتفاق النووي وقبل منتصف عام 2018 أن تعود إلى ما كانت عليه قبل العقوبات، من حيث تصديرها لحوالي 80% من إجمالي المُصنّع محلياً واستهلاك 20% محلياً. وقد بلغت قيمة صادرات السجاد الإيراني خلال الفترة ما بين مارس 2017 ويناير 2018، أي فترة ما بعد دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، حوالي 336 مليون دولار، إلا أن الأمر تغيّر كثيراً بعد مايو 2018.

السجاد الإيراني ما بين العقوبات الخارجية والمنافسين الدوليين

  أعلن مدير الاتحاد العام لتعاونيات السجاد اليدوي في إيران، عبد الله بهرامي، مؤخراً أن العام الفارسي الماضي 1398 (مارس 2019- مارس 2020) كان الأسوأ بالنسبة للسجاد اليدوي في إيران، فقد انخفضت عائدات التصدير من هذه السلعة خلال العام المذكور 50 مليون دولار وفقدت إيران مرتبتها الأولى في هذه الصناعة.(6) وأكد بهرمي أن صادرات السجاد الإيراني خلال الأشهر العشرة الأولى فقط من ذلك العام شهدت انخفاضاً بحوالي 35%، لتبلغ قيمتها الإجمالية خلال عام 1398 ما يصل إلى 69 مليون دولار فقط. وبحسب وسائل إعلام إيرانية، لم تتجاوز مبيعات السجاد الإيراني إلى الخارج خلال الربع الأول من العام الإيراني الجاري 1399 (حتى يونيو 2020) 6 ملايين دولار.

 يدعو هذا إلى التساؤل بشأن هذا الركود الشديد في سوق تصدير هذه السلعة التي تشتهر بها إيران، وهو ما يمكن إرجاعه إلى ما يلي:

المنافسة الدولية وظهور مصنعين جدد

 لاقت صناعة السجاد الإيراني منذ أوائل العِقد الأول من القرن الحالي منافسة كبيرة من دول كالصين، الهند، باكستان، ونيبال. تقوم بعض مصانع هذه الدول بتقليد السجاد الإيراني بدقة كبيرة وباستخدام مواد أقل تكلفة وبيعه في الأسواق الأمريكية والأوروبية وغيرهما. ويقوم بعضهم ببيعه على أنه سجاد إيراني.

  وبالنظر إلى قدرة هذه الدول على الوصول إلى الأسواق العالمية، سنجد أن لهم القدرة الأكبر على بيع منتجاتهم بشكلٍ أكبرَ وأسرعَ من السوق الإيراني الذي يواجه العقوبات الاقتصادية. كما أنه ينبغي الأخذ في الحسبان أن تقليد السجاد الأصلي يضر بالأخير بالأساس، مما يفقد المشترين الثقة به، فمن المؤكد أن المقلد ليس كالأصلي، ولكن من الصعب التمييز بينهما. إلى جانب ذلك، هناك دولٌ من بين المذكورة وغيرهم ينتجون فرشاً جيداً وذا ميزة تنافسية حقيقية، مما يزيد شعبيته وسهولة الوصول إليه ويزيد المنافسة مع نظيره الإيراني.

غلاء أسعار المواد الخام واليد العاملة في الداخل

   تسببت المشكلات الاقتصادية المختلفة داخل إيران في غلاء أسعار بعض المواد الخام الخاصة بهذه الصناعة، إلى جانب ارتفاع أجور العاملين فيها؛ ذلك لأنه عادة ما يتم نسجه يدوياً. ويفضل كثيرٌ من التجار الإيرانيين توظيف اللاجئين أو المواطنين الأفغان في هذه الوظائف؛ ذلك لأنهم يتقاضون راتباً أقل نسبياً، وأخذاً في الحسبان موجة الهجرة العكسية الأفغانية من إيران، نجد أن هذه الصناعة فقدت جزءاً من محركيها في الداخل.

  وأدى ارتفاع أسعار المواد الخام إلى ارتفاع تكاليف السلعة نفسها، مما قلل من فرص بيعها، خاصة في ظل وجود نوع آخرَ من السجاد المصنوع آلياً وليس يدوياً، وهو ما يُعد رائجاً بكثرة خلال الوقت الراهن. فهذا النوع يمكن بسهولة تلوينه أو تصميمه بأشكال مختلفة لا تسهل يدوياً. وأدت هذه الأخيرة إلى عدول الكثير من الإيرانيين أو الأفغان عن العمل في صناعة السجاد داخل إيران، بالإضافة إلى تدني رواتبها، فهجرها أهلها بغية وظائف ذات رواتب أعلى. ومن ناحية أخرى، أدى ارتفاع أسعر المواد الخام في صناعة السجاد الإيراني إلى استخدام البعض لصوف أو أصباغ رديئة، بالإضافة إلى النقص فيهما بالأساس.

وبشكل عام، فإن الأوضاع الاقتصادية المحلية داخل إيران لم تعد تشجع على الاستثمار في هذه الصناعة، ولم يعد هناك طلبٌ عالمي كبير كما كان في الماضي على السجاد اليدوي الإيراني؛ لارتفاع ثمنه.

العقوبات الأمريكية … أكبر العوامل تأثيراً

  كان من أبرز الأسباب التي أدت إلى التراجع الكبير في صناعة السجاد داخل إيران هو إعادة فرض العقوبات الخارجية والأمريكية منذ عدة سنوات، فحينما أعيد فرضُ العقوبات الأمريكية على النظام الإيراني أواخر العام 2018، كان السجاد على رأس قائمة السلع التي حُظر استيرادُها من إيران. وقد ألغى مكتب الممتلكات الأجنبية الأمريكي بوزارة الخزانة في يونيو 2018 عملية استيراد السجاد القادم من إيران إلى الولايات المتحدة. وتبلغ نسبة الصادرات الإيرانية من السجاد إلى الولايات المتحدة حوالي 30% في المتوسط، تكبر أو تصغر قليلاً، أي ما يعادل حوالي 120 مليون دولار سنوياً. ولذا أعلنت رابطة تجار السجاد الإيرانيين أن هذا القطاع خسر سوقاً مهماً، وهو الولايات المتحدة بعد إعادة فرض العقوبات الأمريكية.

  وليس هذا فحسب، بل إن العقوبات أدت إلى صعوبة في نقل الأموال الإيرانية إلى الخارج أو العكس، مما أثر على هذه الصناعة التي يتخذ بعض تجارها الإيرانيين مراكز كبيرة لهم في الخارج للانطلاق منها. وإلى جانب ذلك، أدت العقوبات إلى تبعات اقتصادية أخرى كانهيار العملة وارتفاع أسعار منتجاتٍ وصعوبة استيراد أخرى، مما جعل من الصعب استمرار صناعة السجاد الإيرانية كما كانت عليه خلال فترة ما بعد التوصل إلى الاتفاق النووي وحتى عام 2018 على سبيل المثال.

 وبهذا الصدد، قالت وكالة أنباء “فارس” الإيرانية الشهر الماضي إن صادرات السجاد الإيراني اليدوي بلغت قيمتها حوالي 6 ملايين دولار خلال الربع الأول من العام الإيراني الجاري (الذي بدأ في مارس الماضي)، ما يمثل انخفاضاً كبيراً عن مثيلاته في الأعوام السابقة. وقال مركز الإحصاء الأمريكي إن واشنطن استوردت بحوالي 3 ملايين دولار من إيران خلال النصف الأول من العام الجاري.(7)

  الاستنتاج:

  لا يمكن إرجاع ما يمكن أن نطلق عليه “انهيار” صناعة السجاد في إيران إلى عامل واحد فقط، حيث إن جميع الأسباب السابقة ذات تأثيرٍ في تراجع إنتاجه في الداخل أو بيعه إلى الخارج، إلا أن طبيعة العلاقات السياسية التي ينتهجها النظام الإيراني الحالي مع الخارج، والعزلة الدولية التي تلتها، والعقوبات الاقتصادية التي نتجت عنها كانت لها أكبر الأثر في الركود الكبير الذي تشهده هذه الصناعة داخل إيران. فعدم قدرة إيران على الوصول إلى الأسواق الدولية، والتي من بينها الولايات المتحدة،  نتيجة لما سبق، أعطى على سبيل المثال، ميزة نوعية للمنافسين الأقوياء أو حتى بعض الشركات التي تقلد السجاد الإيراني وتصنعه بمواد خام أقل تكلفة.

  وإضافة إلى ذلك، تتفاعل عدة أسباب أخرى مع العوامل المذكورة لتؤدي في النهاية إلى المشهد الذي نراه اليوم حيال هذه الصناعة داخل إيران، كان من بينها استخدام الأطفال وتوظيفهم فيها، ما دفع المجتمع والجماعات المعنية إلى مناهضة هذا النشاط، وكذلك انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الذي قلل من النشاط الصناعي وعمليات النقل والتجارة بين إيران والدول الأخرى. وعليه، فإن مستقبل هذه الصناعة داخل إيران يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمو الاقتصاد الإيراني وسهولة وصوله إلى الأسواق الخارجية.

المصادر والمراجع:

  1. مهين انتظار، “سقوط آزاد فرش از عرش صادرات“،  خبرگزاری صداوسیما، 21 يوليو 2020.    
https://cutt.us/5HD3R
  • 2-     “کاهش صادرات فرش دستباف ایران“، بى بى سى فارسى، 1 يوليو 2007.
https://cutt.us/FQV3l
  • السجاد المصنوع آلياً ينافس السجاد الإيراني التقليدي بقوة“، الشرق الأوسط، 29 ديسمبر 2011. 
https://cutt.us/kgmTK
  • 4-        “بازار فرش ایران در آمریکا در تصاحب رقبای هندی“، دویچه وله فارسی، 7 فبراير 2016.
https://cutt.us/cDbtm
  • 5-        “ما سر حظر أمريكا استيراد السجاد الإيراني؟“، سي إن إن، 25 أغسطس 2018.
https://cutt.us/kCCgJ
  • 6-        مهين انتظار، “سقوط آزاد فرش از عرش صادرات“،  مصدر سابق.
  • 7-        ” صادرات السجاد اليدوي الإيراني تفقد أكثر من مليار دولار سنويًا بسبب العقوبات“، إيران انترناشيونال، 31 أغسطس 2020.
https://cutt.us/pkXpu
+ posts

باحث بالمرصد المصري

علي عاطف

باحث بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى