أوروبا

ثورة إسقاط التماثيل تضرب إرث التنوير الفرنسي

دخلت الحرب الثقافية العالمية مرحلة جديدة مع مصرع الأمريكي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض في 25 مايو 2020، واندلاع الانتفاضات الشعبية في الولايات الأمريكية في اليوم التالي قبل أن تمتد إلى الدول الأوروبية ضد ثقافة هيمنة الرجل الأبيض على الحضارة الإنسانية.

انتفاضة 26 مايو 2020 دخلت مرحلة جديدة يوم 7 يونيو 2020 يوم أسقط المحتجون بمدينة برستول الإنجليزية تمثال إدوارد كولستون، على نفس شاكلة إسقاط تماثيل أوروبا الشرقية عقب انهيار جدار برلين وتفكيك الاتحاد السوفيتي، وتمثال العراق عقب الاحتلال الأمريكي، وحتى بعض تماثيل الدول التي شهدت اضطرابات الربيع العربي.

وذهب المحتجون ومؤيدو الحراك الحالي بالقول إلى أنه يجب تمشيط الثقافة العالمية من “العنصرية”، وأن تلك العنصرية تشمل تجارة العبيد وازدراء السود، وهو ما ينطبق على الكثير من رموز الثقافة الغربية. ولكن المعترضين على هذا التوجه الثقافي الجديد يشيرون إلى أن الجانب العنصري لرموز التنوير والثقافة العالمية معروف منذ مئات السنين، وأن ما يجري اليوم ليس ثورة ضد العنصرية، ولكنها ضربة استباقية ثقافية من النظام العالمي ودوائر العولمة ضد صعود التيار القومي، على ضوء حقيقة أن تشكيل رأى عام مناهض للعنصرية ضد السود واليهود والأقليات بوجه عام هو توجه يخدم أجندة الإعلام الدولي الذي يحاول ربط التيار القومي بتلك الأفكار.

وللمفارقة فإن النظام العالمي الذي استخدم رموز التنوير والثقافة الغربية لمئات السنين في تشكيل العلمانية والليبرالية الغربية وتصعيد فكرة تفوق الحضارة الغربية على الشعوب الأفريقية والآسيوية هو الذي يقدم اليوم تلك الرموز بل إرث التنوير والعلمانية الغربية على مذبح الأقليات في الدول الأوروبية والأمريكية من أجل أن يشكل بهم كتلًا انتخابية واقتصادية وثقافية يناهض بها التكتلات القومية الصاعدة.

إن الاتهام الذي يجب أن يوجه في هذا المضمار، ليس للتيار القومي، بل لتيار العولمة الذي يعتبر رموز التنوير والعلمانية هم المرجعية الثقافية لصعوده وصعود شبكات المصالح الغربية التي تدير المعسكر الغربي منذ مئات السنين، ولكن على ما يبدو أن المرجعيات القديمة للتنوير والليبرالية اليوم يتم استبدالها بقواميس الصوابية السياسية في أوروبا؛ من أجل إرضاء الأقليات في أوروبا وأمريكا الذين وإن اجتمعوا في بوتقة واحدة فإنهم يشكلون جبهة أوسع من جبهة القوميين، فما يمكن عنونته تحالف النيوليبراليين بوجه التيار القومي.

اليمين القومي في أمريكا وأوروبا اتهم الرأسمالية الدولية والإرهاب الليبرالي علنًا بأنه من يدير هذا الحراك، وطرح السؤال المهم حول مدي ثقافة الجماهير الغاضبة، ولماذا تذكرت فجأة الماضي العنصري لأصحاب تماثيل موجودة في ميادين أوروبا وأمريكا منذ عشرات وربما مئات السنين.

ويتهم القوميون الحراك الجاري بأنه يستخدم أجندة مكافحة العنصرية وإعلاء القيم الإنسانية، بينما في واقع الأمر هو حراك انتخابي مسيس، الغرض منه تثبيت أركان النظام العالمي بوجه القوة السياسية الصاعدة ممثلة في القوميين. 

وذلك على ضوء الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الولايات المتحدة خلال نوفمبر 2020، وما يوكبها من انتخابات مجلسي الكونجرس وحكام بعض الولايات، إضافة إلى تخوف دوائر العولمة من نتائج الانتخابات البرلمانية الألمانية سبتمبر 2021 ومدي مكاسب حزب البديل الألماني –ممثل اليمين القومي الألماني الجديد– الانتخابية على ضوء تنحي ميركل وانخفاض شعبية الاشتراكيين، كذا عدم استقرار الحكومات الائتلافية اليسارية في إيطاليا وإسبانيا بوجه المد القومي الصاعد في أوروبا، وأخيرًا سيطرة القوميين برئاسة بوريس جونسون على الحكومة البريطانية، وممارسة التعنت في مفاوضات ما بعد بريكست مع الاتحاد الأوروبي.

ولكن الجدال الثقافي حول الحراك العالمي ضد العنصرية اتخذ منحى جديدًا حينما وصل إلى فرنسا، الدولة الأوروبية ذات الخصوصية الثقافية المختلفة عن الدول الأوروبية، وفى نفس الوقت تكتظ ضواحي عاصمتها بالسكان السود من أصول أفريقية الذين سارع نشطاؤهم في تشكيل النسخة الفرنسية من حركة Stand Up to Racism وحركة Black Lives Matter.

تمت إزالة تمثال لـ “فرانسوا ماري أرويه” من خارج الأكاديمية الفرنسية في باريس خلال أغسطس 2020، ولم يكن الغضب من نصيب اليمين القومي فحسب، ولكن من التيار الليبرالي الفرنسي أيضًا.

فرانسوا ماري أرويه الذي نعرفه باسم “فولتير” هو أهم رمز للتنوير الفرنسي، عاش في القرن الثامن عشر وكان كاتبًا غزير الإنتاج، شكلت كتاباته وأفكاره مرجعية ليس للتنوير الفرنسي فحسب، بل لتأسيس عصر التنوير ذاته في أوروبا خلال القرن الـ 18، وكانت أفكاره الليبرالية عن الحريات المدنية وحرية العقيدة والرأي والإنسان، وفصل الكنيسة/الدين عن الدولة، هي مرجعية الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية.

ورغم أنه لم يكن ملحدًا بل وبنى كنيسة في القرية التي اشتراها بمدينة فيرني الفرنسية، إلا أن عداءه لما أسماه الخرافات التي تروج لها الكنيسة الكاثوليكية جعلت الكنيسة ترفض دفنه وفقًا للشعائر الكاثوليكية.

فولتير (1694 – 1778) لم يؤمن بالديمقراطية ورأى أنها تروج لحماقات العامة والدهماء، وأن نموذج الملك المستنير الذي يضم بلاطه وحاشيته الفلاسفة هو الأكثر احترامًا لحقوق الإنسان، ورأى فولتير أن البرجوازية (طبقة المحتكرين للعمل السياسي والحكم) الفرنسية هشة، بينما الأرستقراطية (طبقة النبلاء) الفرنسية فاسدة، وأن النظام الأرستقراطي غير عادل، ونظر إلى اليهود باعتبارهم شعب جاهل وهمجي.

نقد الحراك العالمي لفولتير

ينتقد مثقفو الحراك الجديد أن فولتير قد استثمر في شركة الهند الشرقية الفرنسية، التي تأسست عام 1664 لاستغلال منتجات العالم الجديد، بما في ذلك الأفارقة الذين تم شراؤهم وبيعهم كسلع من أجل الربح.

بالإضافة إلى امتلاك أسهم شركات العبيد، تم تسجيل فولتير على أنه وضع أمواله الخاصة مباشرة في مغامرات نقل الرقيق بواسطة سفن مثل Le Saint-Georges، التي غادرت إسبانيا في ديسمبر 1751 متجهة إلى غينيا الواقعة في القارة الافريقية.

دفاع الليبراليين الفرنسيين عن فولتير

رد الليبراليون الفرنسيون بأن ما يجري بحق فولتير هو حرب الإلغاء أو ثقافة الإلغاء مرفوضة، وأن الرجل في نهاية المطاف ينتمي إلى عصره؛ إذ كانت تجارة العبيد أمرًا مربحًا لرجال الأعمال والتنافس الإمبريالي ما بين بريطانيا وفرنسا. ولكن محاولة الليبراليين لوضع تجارة فولتير في العبيد السود في الإطار التاريخي لزمنه تسقط أمام نصوص فولتير التي بها استحقار واضح للسود وحتى اليهود.، فالمسألة لم تكن تجارية واقتصاد بل استحقار خالص للإنسان الأسود.

في كتابه Les Lettres d’Amabed عام 1769 صوّر فولتير الأفارقة على أنهم “حيوانات” مع “أنف أسود مسطح مع ذكاء ضئيل أو معدوم” و”أن هناك تدرجات لأشكال الحياة وأن السود جاؤوا في مكان ما بالقرب من القاع، بعيدًا عن القرود”. وكتب فولتير عن اليهود عام 1771 قائلًا: “لقد ولدوا جميعًا في قلوبهم تعصب شديد، تمامًا كما ولد البريطانيون والألمان بشعر أشقر”.

فاشية الرموز الليبرالية الغربية

النقاش الثقافي الجاري فتح الباب أمام المسكوت عنه تاريخيًا، ألا وهو أن رموز الليبرالية الغربية امتلكوا جانبًا فاشيًا وعنصريًا يتناقض مع الأفكار الليبرالية التي أصبحوا رموزًا لها، ما يعني عمليًا أن المرجعية العلمانية والليبرالية للغرب والتي استند عليها ثقافيًا وفلسفيًا كانت متطرفة وعنصرية واستعمارية، ولم تكن تنويرًا في وجه همجية العالم كما يسوق بها البعض.

امتلك الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية توماس جيفرسون مئات العبيد بفضل وراثة المزارع في فيرجينيا من والده، أما ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا فقد كتب ذات مرة: “أنا أكره الهنود، إنهم أناس متوحشين مع دين وحشي” ومن هنا تم رش تمثاله في ساحة البرلمان بلندن في يونيو 2020.

وبعيدًا عن الساسة، هناك في دروب الفلاسفة والتنويريين نجد ديفيد هيوم يكتب: “أنا على استعداد للاشتباه في أن الزنوج هم بطبيعة الحال أدنى من البيض.” بينما نعت إيمانويل كانت اليهود بشكل جماعي بأنهم “أمة الغشاشين”.

اليوم ينظر المثقفون في الغرب الموالون للحراك الجاري إلى كتابات فولتير التنويرية بحق فصل الكنيسة عن السياسة أو الدين عن الدولة باعتبارها كتابات حرضت على العنف ضد الجماعات الدينية

التنوير والنازية

ويربط هؤلاء ما بين أفكار فولتير والأفكار النازية الألمانية، على ضوء أن فولتير بأفكاره المناوئة لليهود قد أصبح مستشارًا للملك فريدريك الثاني ملك بروسيا (ألمانيا الان)، حيث روّج فريدريك الثاني ظاهريًا للأفكار الكامنة وراء أعمال مثل أطروحة فولتير 1763 حول التسامح أثناء إصدار المراسيم المعادية لليهود في بروسيا.

وهناك سجلات لمحادثات المستشار الألماني أدولف هتلر الخاصة التي أكد فيها دراسة المراسلات والاجتماعات بين فولتير وبطله فريدريك الثاني، الذي كانت صورته مبني Führerbunker في برلين حيث توفي هتلر في أبريل 1945.

كانت خطابات هتلر مليئة بالعبارات التي انتحلت أدبيات فولتير واقتباسات مطولة من أعمال رائد عصر التنوير ورمز التنوير الفرنسي، ما يجعل خطيئة فولتير ليست عدم قدرته فكريًا على دمج الجماعات المضطهدة مثل السود واليهود، فيما يسمى بالتفكير التقدمي فحسب بل أنه كرس للعنصرية البيولوجية وتفرق الرجل الأبيض الغربي بنصوص لا تزال يتم تسويقها بين المتطرفين في الغرب.

ولكن في كل مقال أو تقرير أو ورقة بحثية أو حتى برنامج تلفزيوني أو إذاعي يتناول نقد الليبراليين أو الثوريين لفولتير، وما أسموه “عنصرية رموز التنوير”، يتضح أن هذا الخطاب مسيس، وذلك في ظل محاولات كل ما سبق ربط هذا الإرث بالتيار القومي واليمين القومي الفرنسي وليس حقيقة أن هذا هو ارث الليبرالية الغربية والفرنسية ومرجعية العولمة والتيار النيوليبرالي وليس مرجعية أو أيدولوجيا التيار القومي الصاعد عالميًا.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى