
دستور الجزائر ٢٠٢٠.. تعديل جديد فهل يكون الأخير؟
الاقتراب من الجزائر له طابعه الخاص حيث خطوط الطول ودوائر العرض لا تمر فوق فضاءات وهمية فقط، ولكنها تتقاطع مع التاريخ والديموجرافيا والماضي والحاضر في إطار عام لا يتوقف عن صنع المفاجآت. وإذا تفرغنا لقضية الدساتير الجزائرية على حدة فإن تواترها أسس لمنهجية جديدة في عالم التشريع حتى يمكننا أن نقول أن لكل رئيس جزائري دستور.
وقد كان أول دستور تتبناه الجمهورية الجزائرية في عهد الرئيس ” أحمد بن بلة” في عام 1963 وكانت تلك نقطة البدء حيث جرت العادة بعد ذلك أن كل تعديل في الدستور أو حتى تغيير فيه يسير بالتوازي مع التغير في أعلى سلطة في الجزائر. أما “هواري بو مدين” فقد قدم دستوره للاستفتاء في عام 1976 وهو الدستور الذي تم تعديله ثلاث مرات على مدار الأعوام ” 1979- 1980-1988″.
ثم كان هناك دستور 1989 في عهد الشاذلي بن جديد والذي قفز إلى رأس السلطة مستبعدًا بو تفليقة. وكان الدستور الذي مثل الأرضية الأساسية لكل التعديلات التي تلته دستور 1996 والذي كان في عهد الرئيس اليمين زورال والذي وصل إلى السلطة بعد دخول البلاد في دوامة من العنف المسلح في الفترة التي تلت عام 1991.
أما عبد العزيز بو تفليقة فقد انفرد وحده بثلاثة تعديلات دستورية في الفترة من عام 2002 وحتى عام 2016، ولم يشأ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن يخالف أسلافه فقدم مشروعه في التعديلات الدستورية والتي من المقرر أن يُستفتى الشعب على مسودتها في مطلع نوفمبر القادم. وبعد حراك الشعب في فبراير من العام الماضي أصبح مسار التعديل الدستوري يمثل شكلًا من أشكال مجاراة المزاج الشعبي ومحاولة لتوحيد الشارع الجزائري تحت مشروع سياسي موحد.
مع الوضع بالاعتبار أن حاجة أي نظام لإجراء تعديلات على دستوره تستند إلى عدد من المرجعيات منها: التغير في البيئة التي يعمل فيها النظام السياسي إضافة إلى وجود تأثيرات ناجمة عن ممارسة بعض المؤسسات بحيث تكون التأثيرات ناجمة عن ممارسات غير مرغوب فيها. وقد يرغب البعض في دمج المرجعية التالية مع ما سبقها والتي تشمل الآثار التراكمية لقرارات الحكومة والبرلمان.
تعديلات بو تفليقة
خلال الانتخابات الرئاسية التي شهدتها الجزائر في خواتيم العام الماضي، تعهد جميع المرشحين بالعمل على تعديلات دستورية مجدية، وهو ما وعد به بوتفليقة على مدار أعوام قبل ذلك أيضًا، ولكن يشار إلى أن التعديلات التي طرأت في فترة حكمه كانت تهدف بشكل عام إلى توسيع صلاحياته الرئاسية وتمرير صلاحيات جديدة.
دفوع “تبون” في مسار تعديلاته دعمها بالابتعاد نهائيًا عن حكم الفرد للبلاد والذي ضاق به الجزائريون، وتقوم حوله تخوفات من نوعية أنه قد يؤدي إلى أزمات في المستقبل تثير أشباح الفوضى. وعلى أية حال فقد اتضح من المحاور التي ركز عليها “تبون” في التعديلات الدستورية التي سيُستفتى عليها الشعب قريبًا، أنها جاءت متأثرة بالفترة الأخيرة من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة حيث ألقت الأزمات في أواخر حكمه بظلالها على التعديلات الحالية.
انتقادات لاذعة
يمنح الدستور الجزائري القائم بالأساس الحق لرئيس البلاد في المبادرة بطلب التعديل الدستوري، وعلى الرغم من ذلك فإن الطريقة التي جرى بها إعداد مسودة تعديل الدستور استقطبت انتقادات لاذعة من المعارضة الجزائرية.
تيار المعارضة هناك كان يتأمل في فتح نقاش مجتمعي قبل السياسي بحيث تكون المسودة النهائية توافقية بين فئات الشعب ومستندة إلى شرعية شعبية.
لم يكن ذلك مثار الانتقاد الوحيد للآلية التي اختار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون اللجوء إليها، ولكن أيضًا أن لجنة الخبراء الدستوريين التي تم اختيارها للإشراف على عملية إعداد المسودة برمتها ترأسها “أحمد لعرابة” وهو المعين من قبل عن طريق الرئيس بوتفليقة للاضطلاع بمهام تعديلات الدستور إبان رئاسته.
دفوع منطقية
كان الوضع السياسي الذي تسلم فيه عبد المجيد تبون سدة الحكم غاية في التعقيد على المستويين السياسي والاجتماعي، وخلفت فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شرخًا عظيمًا في جدار الثقة بين مؤسسات الدولة والمواطنين بل داخل الطبقة السياسية نفسها.
وقد وصلت الأمور إلى درجة عالية من التعقيد أدى إلى انفجار الأوضاع في فبراير 2019 بعد أن أعلن بوتفليقة عن ترشحه لفترة رئاسية خامسة. علاوة على ذلك فإن الوضع الاقتصادي في الجزائر شهد حالة من التردي السريع والمفاجئ عقب انهيار أسعار النفط؛ إذ تعد المحروقات مصدرًا أساسيًا للدخل في هذا البلد، وزاد تفشي جائحة كورونا الأوضاع صعوبة، فأضاف للوضع الاقتصادي المتردي ارتفاعًا في مستويات البطالة.
محاور سبعة
إذاً، خلفت جائحة كورونا وكون الجزائر الثانية من حيث أعداد الوفيات عربيًا حالة من الإحجام الجماهيري في الجزائر عن المشاركة في الحياة العامة وعلى رأسها عملية تعديل الدستور. وعلى تلك الخلفية ظهرت انتقادات أخرى من المعارضة الجزائرية للتوقيت الذي اختاره عبد المجيد تبون للشروع في العملية.
وقد اشتملت مسودة التعديلات التي لاقت انتقادات من المعارضة وتأييدًا من الأحزاب المحسوبة على الموالاة على سبعة محاور تضمنت مناح عدة:
- المحور الأول: يتعلق بحقوق المواطنين وحرياتهم من خلال تكريس حريات فردية وجماعية جديدة وتدعيم الحقوق الموجودة بالأساس.
- المحور الثاني: يدور حول أخلقة الحياة العامة ومكافحة الفساد عن طريق وضع آليات من شأنها تفادي تضارب المصالح بين الجهات المختلفة وإبعاد نفوذ المال عن الحياة العامة.
- المحور الثالث: ضمان انسجام الأداء بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن طريق تعزيز مبدأ الفصل بينها.
- المحور الرابع: السماح للبرلمان بالقيام بمهامه كاملة فيما يتعلق بمراقبة الحكومة ومحاسبتها.
- المحور الخامس: ضمان الممارسة الاستقلالية للقضاء مع إعلاء مبدأ القانون وعدم السماح لأية محركات بالتأثير في سير العملية القضائية في البلاد.
- المحور السادس: تعزيز مبدأ المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون.
- المحور السابع” إلغاء الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات وإنشاء سلطة جديدة منبثقة عن المجتمع المدني.
رؤية تقييمية
حسب المراقبين فإن المسودة الأولى للتعديلات الدستورية تبدو بعيدة عن الطموحات الأساسية للشعب الجزائري وتطلعاته.
بينما يدفع المؤيدون للعملية أن الرئيس أكد أكثر من مرة أن ما سيطرح على الشعب في مطلع نوفمبر القادم ليس إلا مقترحات تنتظر المزيد من التنقيح والتعديل بل ربما مقترحات جديدة تضاف ومقترحات تحذف، فإن المعارضين يرون أن الغموض الذي يلف الآلية التي تسير بها خطوات تعديل الدستور لن يسفر إلا عن وثيقة نهائية لا تختلف كثيرًا عن المسودة المطروحة الآن بحيث أن كل الزخم الذي سيجري خارج الطبقة السياسية على كثافته لن يكون سوى في إطار الشكليات لإكساب المشروع الأساسي الشرعية المطلوبة.
كما يرى المعارضون أن التعديلات تشير إلى أن عدد المواد في الدستور الجديد سيصل إلى 240 مادة بالمقارنة بـ 182 مادة في دستور 1996، وهو بلا شك إغراق في الإطالة وتبحر في التفاصيل يفقد الدستور المنتظر الكثير من هيبته ويجعله عرضة للتعديل مرة أخرى، الأمر الذي استقر عليه في عرف الدساتير. حتى أن تأكيدات الرئيس عبد المجيد تبون بالحد من حكم الفرد ذهبت أدراج الرياح حيث لم تمس الأجزاء المختصة في مسودة التعديل صلاحيات الرئيس الموسعة في الدستور القائم بل أضافت لها اختصاصات جديدة منها إرسال وحدات من الجيش للخارج كما احتفظت باختلال في موازين القوى لصالح السلطة التنفيذية.
وطالت الانتقادات أيضًا إنشاء محكمة دستورية بصلاحيات المجلس الدستوري بعد حله ولكنها لم تتضمن أي شكل من أشكال الرقابة على رئاسة الجمهورية عدا الإعلان عن شغور المنصب، كما أن لرئيس الجمهورية أن يعين ثلث أعضائها بما فيهم رئيس المحكمة، ويعين رئيس غرفتي البرلمان ثلث آخر وينتخب الثلث الأخير بمعرفة مجلس الدولة، وهو ما يأتي على حساب استقلالية القضاة في المحكمة الدستورية لاسيما أنهم يعينون لمدة محددة سلفًا.
وحسب مراقبين أيضًا فإنه من الأمور الإيجابية في مسودة الدستور استحداث سلطة عليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته، لاسيما أن الجزائر حلت في المركز 105 فيما يتعلق بمؤشر الشفافية وفي المركز 146 فيما يتعلق بحرية الصحافة فضلًا عن استمرار إدراجها في قائمة الدول غير الحرة على مؤشر فريدوم هاوس.
نحن أمام مشهد سياسي في الجزائر مازالت المؤسسات الصلبة والتي تشمل المؤسسة العسكرية ومجتمع الاستخبارات حاضرة فيه، حتى ولو من وراء ستار، لكنها بكل تأكيد لها دور فاعل في رسم شكل الحياة السياسية الجزائرية. فضلًا عن أن التعددية السياسية في الجزائر وعلى رأسها تيار المعارضة تفتقر إلى الفاعلية، وقد أعادت إنتاج خطابها للشارع على مدى عشرين عامًا، مما أضفاها القدر الكافي من الملل الذي أفرغها من مضمونها. ومن ثم فالحالة الجزائرية تشير إلى إغراق في الكلاسيكية عبر ممارسات المعارضة، واستمرار حضور المؤسسات العسكرية في المشهد، وفي تلك الأوضاع فإن أي تعديل دستوري لا يفضي إلى ممارسات سياسية جديدة ولا يخرج عن إطار ” الشكلية”.
باحث أول بالمرصد المصري