
“بريكست” يعود مجددا.. الاتفاق التجاري يشعل الأجواء بين لندن وبروكسل قبل محادثاتهما
عاد موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) ليشغل الرأي العام الأوروبي مجددا برغم من أن الأمر يبدو أنه حدث منذ فترة طويلة نسبيا منذ إقرار لندن “الخروج” يناير 2020.
وعلى الرغم من اختفائه من العناوين الرئيسية للصحف مؤخرا إلا أن (بريكست) عاد للواجهة من جديد بالتزامن مع عودة المفاوضات التجارية بين الطرفين والتي تكمن الخلافات في تفاصيلها.
ويسعى الطرفان (الاتحاد الأوروبي وبريطانيا) للحصول على الشروط والتفاصيل التي ترضيه ، فبريطانيا تسعى لاتفاقية تجارة حرة تسمح لها بتمرير البضائع واستيرادها من دول الاتحاد بأي كمية وتوريد منتجاتها دون ضريبة وبأي كمية داخل الأسواق الأوروبية ، وهو الطرح الذي يرفضه الاتحاد الأوروبي برغم من سعيه المماثل لاتفاقية تجارية حرة لكن بقيود وشروط تكمن في التفاصيل التي اختلف عليها الطرفان لكن قبل التعمق في المشكلة وتداعياتها نمر سريعا على ما تم إنجازه ليتسنى للقارئ الفهم الكامل لمجريات الأمور.
كان الجانبان قد اتفقا على عدة أمور منها ما سمي ب “اتفاق الخروج” أو كما عرف في الإعلام البريطاني باتفاقية “الطلاق” وهو الاتفاق الذي يحدد حقوق المواطنين الأوروبيين المقيمين في بريطانيا ، كما يحدد كم الأموال التي ستدفعها بريطانيا للاتحاد الأوروبي نظير خروجها منه ، وأخيرا الاتفاق حول الفترة الانتقالية والتي نمر بها حاليا دون تقدم يلحظ.
أما الأن يركز الطرفان أحاديثهما حول كيف سيكون شكل التجارة فيما بينهما مستقبلا، يرغب الطرفان بروكسل ولندن في اتفاق تجارة حر مما يعني عدم وجود ضرائب أو رسوم دخول للمنتجات بين الطرفين كما لا سقف لكمية المنتجات التي يمكن الإتجار فيها في الأسواق الأوروبية أو البريطانية ، هنا تحديداً وعند الدخول في تفاصيل هذا الأمر ينشب الخلاف بين الطرفين.
تطورات الموقف
الاتحاد الأوروبي قال لبريطانيا يوم الاثنين أن أي محاولة منها للعبث باتفاق الخروج ستؤدي إلى خروج بريطانيا دون اتفاق تجاري، كان ذلك بعد تسرب أخبار عن أن حكومة بوريس جونسون تخطط لتشريع قوانين جديدة لإلغاء أجزاء من اتفاقية الانسحاب التي وقعتها يناير الماضي.
التشريع المخطط له وفقاً للصحف البريطانية قد يغير الاتفاق الجمركي مع أيرلندا الشمالية مما يعني أنه قد لا توجد حدود ونقاط تفتيش للبضائع بين أيرلندا الشمالية وباقي بريطانيا، فالحكومة البريطانية وعلى لسان مسؤوليها قالت إن التشريعات أن أقرت فهي ستكون بمثابة خطة بديلة حال فشل الوصول لاتفاق تجاري نهائي وهو ما كان أكده رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في تصريحاته ” إذا لم نصل لاتفاق تجاري بحلول 15 أكتوبر فعلى الطرفين المضي قدما وهو ما سيؤدي كذلك لنتائج إيجابية”.
وبرغم من أن بريطانيا غادرت الاتحاد رسمياً إلا أنها لا تزال تعمل بالقوانين الأوروبية التجارية خلال الفترة الانتقالية المقرر انتهاؤها في 31 ديسمبر ويتوجب على الطرفين (بروكسيل ولندن) الوصول لاتفاق تجاري قبل هذا الموعد.
وتحجم التسريبات الأخيرة عن تخطيط حكومة جونسون لتشريعات من شروط الخروج وتلغي أجزاء منها تأتي في وقت حرج حيث سيعقد الطرفان جولة المفاوضات الثامنة مما يعرض اتفاق الخروج ككل بالانهيار بسبب الخلافات التجارية، وتهدف الجولة الثامنة من المفاوضات للتركيز على تأمين اتفاق يسمح للشركات بالإتجار دون ضرائب أو المرور بالنقاط الجمركية.
خلال جولات المفاوضات السابقة ظل الطرفان مختلفين حول نقطتين هما مستقبل الصيد وتجارة المنتجات البحرية ودعم الدولة للشركات فيرى الاتحاد أن بريطانيا تعطي لنفسها أفضلية تجارية لشركاتها في مقابل الشركات الأوروبية بسبب عدم إتباعها قواعد الدعم الحكومي للشركات المتبع في الاتحاد الأوروبي ، بينما ترى بريطانيا أن الأمر يخص السيادة الوطنية ولا يحق للاتحاد فرض شروطه سواء على الحكومة أو الشركات البريطانية.
وجهة النظر الأوروبية تأكدت من خلال تصريحات مايكل باريل كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي الذي صرح لشبكة راديو ” فرانس 24″ أن ” البريطانيين يرغبون في الحصول على الأفضل من الطرفين – تصدير منتجاتهم لأوروبا بشروطهم الخاصة “.
مشكلة الحدود الجمركية مع أيرلندا الشمالية
ليس ما سبق فقط هو ما يهدد الوصول لاتفاق تجاري بين بروكسل ولندن فهناك مشكلة الحدود الجمركية مع أيرلندا الشمالية ، فالحكومة البريطانية من المقرر أن تنشر مشروع قانون السوق الداخلي بين الأجزاء الأربعة الرئيسية في المملكة المتحدة يوم الأربعاء المقبل وينتظر الجميع الشكل الذي سيخرج به القانون الذي سيحدد ألية التعامل التجاري مع أيرلندا الشمالية.
يخشى الأوروبيون أن تتعارض الألية التي سيقررها البريطانيون مع البروتوكول الذي تم أنشاؤه لمنع حدود صلبة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا ، الجزء الخاص من اتفاق بريكسيت الخاص بأيرلندا الشمالية المعروف باسم البروتوكول التي تم الموافقة عليه أكتوبر الماضي صمم لمنع وجود حدود حقيقية أو نقاط تفتيش جمركي بين أيرلندا الشمالية وباقي بريطانيا.
البروتكول يفعل ذلك من خلال الإبقاء على أيرلندا الشمالية جزء من السوق الأوروبي الموحد للمنتجات والسلع ، وهو ما يعني أن المنتجات البريطانية الداخلة لأسواق أيرلندا الشمالية ستتعرض للتفحص في نقاط التفتيش الجمركي المسماة ” نقطة الجمرك الحدودية الحرية الأيرلندية” ، لكن لا يزال الأمر يلزم اتفاق الطرفين الأوروبي والبريطاني حول تفاصيل الألية المتبعة في تفتيش المنتجات البريطانية وهو ما يتم التفاوض حوله كذلك بالتزامن مع المفاوضات حول الاتفاق التجاري.
رداً على المزاعم الأخيرة قالت الحكومة البريطانية إنها ملتزمة بالبروتوكول مع أيرلندا الشمالية لكنها قد تتخذ قراراتها الخاصة فيما يتعلق بالتطبيق حال لم تصل لندن وبروكسل إلى اتفاق.
تلك الإشارات والتصريحات قوبلت برفض تام من بلفاست التي ترى في ذلك انتقاصا لسيادتها وضررا بمصالحها التجارية، ميشيل أونيل نائبة رئيس الوزراء الأيرلندي غردت على منصة تويتر بعد صدور التسريبات حول نية الحكومة البريطانية محذرة من عاقبة عدم التزام لندن بالبروتوكول ” أي تراجع عن البرتوكول سيكون بمثابة خيانة غادرة من شأنها إلحاق ضرر لا رجعة فيه للاقتصاد الأيرلندي واتفاقية الجمعة العظيمة”

فيما ترى الوزيرة الأولى بحكومة أسكوتلندا نيكول ستورجيون أن ” خطوة الحكومة البريطانية أن تمت ستزيد من فرص بريكست دون اتفاق” .
ماذا سيحدث إن لم يتفق الطرفان؟
بدوره، عبر الاتحاد الأوروبي عن رفضه للتوجه البريطاني سواء فيما يتعلق بالبرتوكول المفروض اتباعه مع أيرلندا الشمالية بعد انتهاء الفترة الانتقالية في 31 ديسمبر ورفضه لفكرة عدم التزام بريطانيا بمقدار الدعم المحدد من الدولة للشركات المعمول به أوروبيا وهو ما يعطي أفضلية للشركات البريطانية على منافسيها من الشركات الأوروبية.
وهو ما عبرت عنه مايكل بريل كابير المفاوضين كما أشرنا في تصريحاته كما وانضمت له رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير ليين والتي غردت على منصة تويتر تغريدة قالت فيها ” وثقت في الحكومة البريطانية لتنفيذ اتفاق الخروج وهو التزام بموجب القانون الدولي وشرط أساسي لأي شراكة مستقبلية ” وأضافت ” البروتوكول مع أيرلندا الشمالية ضروري لحماية الاستقرار والسلام في الجزيرة وسلامة السوق الموحدة”.

برغم من عدم وجود إجابة واضحة على هذا السؤال ( ماذا سيحدث حال عدم اتفاق الطرفين ؟ ) ألا أنه يمكن توقع الإجابة حيث أشار الاتحاد الأوروبي في وقت سابق إلى أنه في حال كسر بريطانيا لقواعد اتفاق الخروج ستلجأ لمحكمة العدل الأوروبية لكن بريطانيا ترى أن المحكمة الأوروبية لا شأن لها في الأمر لأن بريطانيا ليست في منظومة الاتحاد وهو ما يعني أن محكمته لا يمكنها الحكم على لندن ، وهو ما أكده جونسون في تصريحات سابقة حينما أشار إلى أنه لا يمكن للمحكمة الأوروبية التدخل في الشؤون البريطانية تحت أي ظرف مستقبلا.
وبالرغم من أن الطرفين يرغبان في اتفاق تجاري حر ألا أن كليهما يخطط لمستقبل دون خطة تجارة مشتركة ، وهو ما يعني أن على الطرفين تقديم بعض التنازلات حال رغبتهم حقاً في عقد اتفاق تجاري يضمن لهم استقرار الأوضاع مستقبلاً ، لما لهذا الاتفاق من تبعات عدة ليس فقط على أوروبا وبريطانيا بل العالم ككل.
وفقاً لتقارير صحفية فإن بروكسل تقدم بعضا من التنازلات بخصوص الدعم الحكومي للشركات ومشكلة الصيد في مقابل تنازل بريطاني كذلك والتزام بالبروتوكول مع أيرلندا الشمالية، وهو الطرح الذي يبقى الأكثر قبولاً ، برغم من تلويح بوريس جونسون بإمكانية الخروج دون اتفاق عندما صرح بأن ذلك قد يكون ممكنا حال عدم الوصول لاتفاق تجاري بحلول 15 أكتوبر وهو موعد انعقاد المفوضية الأوروبية ، جونسون صرح بأن الخروج دون اتفاق أمر جيد لبريطانيا ” لأنها ستتحكم بشكل كامل في القوانين والقواعد ومياه الصيد الخاصة بها ”
وبرغم من تلك التصريحات إلا أن الطرفين يرغبان حقاً في الوصول لاتفاق إلا أن كليهما يلعب بأوراقه للضغط على الطرف الأخر ، صحيفة ” فايننشال تايمز” علقت على خطوات الحكومة البريطانية تجاه بريكست ، واصفة إيها بأنها ” تهدف لإلغاء القوة القانونية لاتفاق الانسحاب” .
وبرغم من تصريحات جونسون الأخيرة ألا أنه يعلم جيداً أن تبعات ذلك قد تكون وخيمة على الاقتصاد البريطاني والوضع السياسي في البلاد حيث ووفقاً لهيئة الإذاعة البريطانية ” بي بي سي ” فإن بريكست دون اتفاق قد يعني مضي أسكوتلندا في طلبها باستفتاء للخروج من مظلة المملكة المتحدة حيث يسيطر في دبلن الحزب القومي الأسكتلندي المناهض لبريكست الذي سيستغل فرصة الخروج من الاتحاد دون اتفاق لتنفيذ أجندته وطرح استفتاء لخروج أسكوتلندا من المملكة المتحدة.
لندن تعي جيداً أهمية الوصول لاتفاق سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي لكن حكومة جونسون تسعى للحصول على ما يمكنها من مكتسبات في الاتفاق التجاري وهي تعلم أن البديل للاتفاق سيكون التعامل بقوانين منظمة التجارة العالمية ، كما تسعى للحفاظ على روابطها في أيرلندا الشمالية من خلال رفض وجود حدود والتخطيط لكيفية التحايل على القوانين الأوروبية لإبقائها ضمن منظومة الاقتصاد والسوق البريطاني ، بينما تسعى بروكسل للحفاظ على حقوق أعضائها كما الإبقاء على الصورة الذهنية بأن الخروج من الاتحاد له ثمن باهظ لما لذلك من اعتبارات سياسية مستقبلية .
يبدو أن الحكومة البريطانية أعدت نفسها لسيناريو الخروج دون اتفاق وهو ما تحاول التلويح به للضغط أكثر على الاتحاد الأوروبي برغم من أن مصلحة الطرفين تكمن في أن يتفقا، ربما تكشف جولات التفاوض القادمة مستقبل بريكست الذي يراه الخبراء أحد أهم المتغيرات السياسية في القرن ال21.
مصادر ومراجع:
التغطية الخاصة بهيئة الإذاعة البريطانية ” بي بي سي”
تقرير فاينانشال تايمز
تقرير نيويورك تايمز
تقرير شبكة ” سي أن بي سي ”
حلقة من برنامج قناة ” يورو نيوز ”
تقرير عن ” بريكسيت ” من موقع حزب المحافظين البريطاني
باحث ببرنامج السياسات العامة