ليبيا

بين عزل باشاغا وعودته … أنقرة ترتب أوراقها في الغرب الليبي

لم تكن مجرد زوبعة في فنجان تلك المناوشة القصيرة التي شهدتها العاصمة الليبية طرابلس بين تحالفين يعملان ضمن منظومة واحدة تقودها وتتحكم بها تركيا، التحالف الأول يتزعمه الرئيس الحالي للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج، والتحالف الثاني بات يقوده بحكم الأمر الواقع وزير الداخلية المُقال (سابقًا) فتحي باشاغا. رغم العمر القصير لهذه المواجهة، إلا أن نتائجها والدلالات المستخلصة منها، تعبر بشكل كبير عن واقع ومستقبل الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في الغرب الليبي.

إقالة وعودة … وما بينهما

قرار رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق القاضي بإلغاء قرار (الوقف الاحتياطي) لوزير الداخلية فتحي باشاغا، وإعادته إلى عمله بشكل فوري، كان باكورة سلسلة من التحركات التصعيدية التي شهدتها العاصمة طرابلس ومدن أخرى في الغرب منذ الثالث والعشرين من الشهر الماضي، اختلط فيها الحراك الشعبي المحتج على الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها المواطن الليبي بمحاولات بعض الميليشيات استهداف هذا الحراك، والصراعات المكتومة بين أقطاب ميليشيات طرابلس وبين أقطاب ميليشيات مصراتة ممن يتبارون في تقديم أوراق اعتمادهم لحكومة العدالة والتنمية التركية.

البداية كانت مع حراك الثالث والعشرين من أغسطس، الذي شهد انطلاق موجة مظاهرات شعبية كبيرة شملت العاصمة ومدنًا أخرى منها بني وليد وغات وتراغن والزاوية؛ بهدف المطالبة بالإصلاح المالي والإداري والخدمي في الغرب الليبي، بعد أن طفح كيل المواطن الليبي من التدهور المستمر في الخدمات، خاصة قطاعي الكهرباء والمحروقات. سابقًا، كانت حكومة الوفاق تتمترس خلف حجة (المعارك مع الجيش الوطني) لتبرير فشلها في تحسين الظروف المعيشية للمواطنين في المنطقة الغربية عمومًا، والعاصمة بشكل خاص.

لكن بعد أن ابتعدت المعارك كليًا عن المنطقة الغربية، أصبحت الرؤية أكثر وضوحًا بالنسبة لكافة القطاعات الشعبية في المنطقة الغربية، وظهر بجلاء أن الفساد الحكومي وارتهان حكومة الوفاق للقرار التركي حتى فيما يتعلق بالشؤون المالية والإدارية للدولة الليبية هو المتسبب الأساسي في التدهور الذي وصلت إليه الأحوال المعيشية للمواطن الذي بات في حيرة من أمره، وهو يرى نفسه مجبرًا على أن يتقبل وجود أكثر من ستة عشر آلف مرتزق سوري على أرضه، يعتاشون يوميًا على خيرات بلاده، ويتلقون بانتظام من خزينة الدولة الليبية، رواتب بالعملة الصعبة.

خلفيات التوتر بين باشاغا وميليشيات العاصمة

ردود فعل أقطاب مصراته وطرابلس من هذا الحراك كانت معبرة عن الصراع المكتوم بينهما، وهذا ظهر بشكل أوضح من خلال مواقف بعض الميليشيات المسلحة في العاصمة، مثل تجمع (قوة حماية طرابلس)، من هذا الحراك، حيث انتقد هذا التجمع الميليشياوي اعتقال قادة الحراك الشعبي، وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في الزاوية وفي طرابلس، وهو بهذا الموقف كان يوجه سهام النقد المباشر لوزير الداخلية باشاغا والوحدات التابعة له، في استمرار لنهج هذا التجمع الملحوظ منذ أوائل هذا العام والذي كان يصوب دائمًا على دور باشاغا وجماعة الإخوان من خلفه في الغرب الليبي.

التراشق بين باشاغا وهذا التجمع الميليشاوي بدأ في الظهور بشكل أوضح منذ مايو الماضي، بعد أن بدأت ملامح الخطة التي اقترحها باشاغا على الولايات المتحدة الأمريكية لتفكيك معظم الميليشيات المنضوية تحت لواء (قوة حماية طرابلس)، وقد تبادل الطرفان البيانات المهاجمة للطرف الآخر، حيث أصدر باشاغا في شهر مايو بيانًا هاجم فيه هذا التجمع، واتهمه بمحاولة السيطرة على مفاصل الدولة، وهو ما استدعى ردًا عنيفًا من جانب قياديي هذا التجمع، وعلى رأسهم ميليشيا (النواصي)، التي رد بعض قيادييها ومنهم علي الرملي بالتهديد باستهداف مجموعات المرتزقة السوريين، الذين حسب رأيه يوفرون لباشاغا الحماية والسيطرة بمعاونة ميليشيات مصراته.

الشهر الماضي تزايدت حدة الخلاف بين الطرفين، وذلك من خلال بيانين أصدرهما هذا التجمع الميليشياوي، الأول كان أوائل الشهر هاجم فيه هذا التجمع جماعة الإخوان المسلمين، واصفًا إياها بأنها “ورم خبيث ينخر جسد ليبيا، ويتغلغل في مفاصل الدولة”. البيان الثاني كان في السابع والعشرين من نفس الشهر، وفيها هاجم هذا التجمع بشكل واضح، “جهات أمنية معروفة لدى وزارة الداخلية في حكومة الوفاق”، متهمًا إياها بالمسؤولية عن مهاجمة متظاهري الحراك الشعبي، في 26 و27 أغسطس، في كل من ميدان الشهداء بالعاصمة، ومدينة الزاوية. المفارقة هنا أن إحدى أهم الميليشيات المنضوية تحت لواء هذا التجمع، وهي ميليشيا (النواصي) و(الردع)، كانت مشاركة في عمليات قمع المتظاهرين.

لم تكن (قوة حماية طرابلس) هي الميليشيا الوحيدة التي هاجمت باشاغا، فقد أصدرت ميلشيات أخرى في مدن الزاوية وزوارة ورقدالين وصبراته بيانات مماثلة هاجمت فيها وزير داخلية حكومة الوفاق، ومنها ميليشيا (شهداء أبوصرة)، إحدى ميليشيات مدينة الزاوية التي أصدرت بيانًا اتهمت فيه وزارة الداخلية في حكومة الوفاق بإطلاق النار على المتظاهرين في مدينة الزاوية، كذلك انتقدت الوضع المالي الخاص الذي تم منحه للمرتزقة السوريين على حساب الميليشيات الليبية.

تصاعد هذه الانتقادات وتزامنها مع تزايد حدة الغضب الشعبي من حكومة الوفاق كانت كلها عوامل جعلت رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج يشرع في خطة مضادة لمحاولة الإمساك بزمام المبادرة في العاصمة، وذلك عبر اتجاهين، الأول تم فيه خلق ما يشبه (الحراك المضاد) وذلك بتحريك مسيرات منظمة في اتجاه ساحة الشهداء من منتسبي الميليشيات المنضوية تحت تجمع (بركان الغضب)، تحاول الترويج لفكرة أن المطلوب هو (الحفاظ على الدولة، ومواجهة الفساد)، دون المساس بالسلطة القائمة وقادتها. الاتجاه الثاني، تمثل في جملة من القرارات التي أصدرها فايز السراج وعلى رأسها وقف وزير الداخلية عن العمل بصورة مؤقتة، وإحالته للتحقيق.

تتالت عقب هذا القرار قرارات المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، والتي بدا من طريقة وتوقيت طرحها أن فايز السراج يحاول تمريرها لدعم دائرته المحيطة، مستفيدًا من حالة الجدل التي أثارها قرار تعليق باشاغا عن ممارسة مهامه، من هذه القرارات، تعيين أحد أعضاء المجلس الرئاسي وهو أحمد معيتيق رئيسًا لمجلس أمناء صندوق الإنماء الإقتصادي، الذي تبلغ قيمة أصوله أكثر من تسعة مليار دينار، مع تعديل تشكيل هذا المجلس، ليضم وزراء المالية والاقتصاد والتخطيط. 

يضاف إلى ذلك تعيين نائب السراج عبد السلام كاجمان، رئيسًا للجمعية العمومية الخاصة بالشركة العامة للكهرباء. شملت هذه القرارات أيضًا، إلغاء هيئة الإسكان والمرافق، وضمها إلى وزارة جديدة تمت تسميتها (وزارة الإسكان والتعمير)، وتعيين وزير مفوض لها.

قرارات السراج شملت الجانب العسكري، حيث أصدر قرارًا بتعيين رئيس جديد لأركان القوات التابعة لحكومة الوفاق، وكذا وزير دفاع مفوض جديد هو صلاح النمروش. كما أقال السراج الفيتوري غريبيل، قائد الميليشيا المعروفة باسم (القوة المشتركة)، علمًا بأن هذه القوة تم تشكيلها في يوليو الماضي من وحدات من مختلف مناطق الغرب الليبي، بهدف الحفاظ على أمن العاصمة. 

أقال السراج أيضًا أحد معاوني رئيس الأركان العامة قوات الوفاق، وهو الفريق سالم جحا. لم يغب الجانب الاقتصادي عن هذه القرارات، فقد قرر السراج صرف منحة (الزوجة والأولاد)، التي كانت مقررة منذ سنوات، على أن يتم صرفها بأثر رجعي منذ يناير الماضي وصاعدًا، وهو قرار واضح الهدف منه، وهو امتصاص النقمة الشعبية التي تزايدت في الأسابيع الماضية، لكن بات الجميع في العاصمة على علم بأن تمويل هذا القرار وقرار آخر يقضى بتخصيص نحو 2 مليار دينار ليبي لتغطية مصاريف المجالس البلدية الموجودة في المنطقة الغربية سيتم من خلال الإيرادات المحلية لحكومة الوفاق، وأرباح بيع النقد الأجنبي، وكليهما شبه معدوم في هذه الفترة، وبالتالي يبقى تنفيذ هذه القرارات محل شك شعبي كبير.

انقسام العاصمة … وعودة باشاغا (المظفرة)

لم يكن مستغربًا على الإطلاق الطريقة المسرحية التي عاد بها وزير الداخلية فتحي باشاغا من إسطنبول إلى مطار معيتيقة في العاصمة طرابلس، حيث تمت مواكبته في المطار وأثناء تحركه في اتجاه مقر الحكومة للخضوع إلى (التحقيق)، بعشرات الآليات والمسلحين، منهم من ينتمي إلى تشكيلات ما يعرف بـ(المنطقة الوسطى) التابعة لرئاسة أركان حكومة الوفاق، وتحديدًا الكتيبة 166، وهي تشكيلات شبه عسكرية لا علاقة لوزير الداخلية بها، علمًا بأن الكتيبة المذكورة، كانت قد أصدرت بيانًا رفضت فيه قرار إقالة باشاغا. 

تم (التحقيق) مع باشاغا خلف الأبواب المغلقة (وليس علنًا كما كان يطالب)، وذلك بحراسة المسلحين التابعين له الذين تمركزوا خارج مقر رئاسة الحكومة، في مشهد يعبر بجلاء عن الحيثية التي بات يمتلكها باشاغا في العاصمة، بإيعاز من أنقرة، ودعم من دائرته المقربة، التي تشمل ميليشيات مصراتة، وبعض تشكيلات رئاسة الأركان في حكومة الوفاق، وكذا تشكيلات وزارة الداخلية. ثم كان القرار (المتوقع) بإعادة باشاغا إلى عمله كوزير للداخلية، وهو ما يؤكد أن الخلاف الذي دب بين محور السراج ومحور باشاغا، (إن كان من الجائز أن نعتبره خلافًا) هو اختلاف في التكتيكات وليس في الاستراتيجيات، فكلا الرجلين يُعدّان من أعمدة أنقرة الأساسية في الغرب الليبي، وما حدث خلال الأيام الماضية، هو ترتيب للبيت الداخلي استعدادًا للجولة المقبلة من المباحثات السياسية.

هنا لابد من الإشارة إلى أن إرهاصات الأيام الأخيرة في العاصمة، لم يتم فيها فقط تمرير قرارات السراج الحكومية بالكامل، بل تم فيها أيضًا تمرير مذكرة تفاهم مشبوه تم توقيعها أواخر الشهر الماضي بين الصديق الكبير محافظ مصرف ليبيا المركزي ومسؤولين في البنك المركزي التركي، وهي مذكرة لم يتم عرضها على مجلس إدارة البنك المركزي الليبي. تركيا نشطت خلال هذه الفترة، في استقبال المسئولين الليبيين، من أجل تهيئة الأوضاع في غرب ليبيا، من أجل ما هو قادم، فاستضافت لأيام وزير الداخلية فتحي باشاغا، واستقبل كل من وزيري الخارجية والدفاع التركيين، رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، وكذا استقبل وزير الدفاع التركي، وزير دفاع الوفاق صلاح النمروش.

استعدادات إقليمية ودولية لعودة الزخم إلى المسار السياسي الليبي

رغم هذه التطورات المتلاحقة في غرب ليبيا، وفي ضوء إعلان حراك الثالث والعشرين من أغسطس عن استئناف المظاهرات الشعبية اليوم تبدو في الأفق ملامح عودة الزخم مرة أخرى للمسار السياسي المتعلق بالأزمة الليبية. هذه النتيجة هي حصيلة تحركات إقليمية ودولية حثيثة، تمت منذ أوائل الشهر الماضي، وذلك عبر مسارات عديدة.

إيطاليا من جانبها بعثت وزير خارجيتها لويجي دي مايو، أول الشهر الجاري، إلى ليبيا، بهدف ممارسة بعض التأثير على الأطراف المختلفة في الشرق والغرب الليبي، من أجل الإقلاع مجددًا بطائرة المباحثات السياسية، فتقابل في طرابلس مع أقطاب حكومة الوفاق، مثل فايز السراج ونائبه أحمد معيتيق، ووزير خارجيته محمد سيالة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، ثم طار إلى طبرق لمقابلة المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي.

اللافت في زيارة مايو أنه لم يخفِ تطلع إيطاليا لتنشيط التبادل التجاري مع ليبيا، وذلك بعد أن تحدث عن قرب تدشين لجنة اقتصادية مشتركة بين البلدين، يضاف إلى ذلك إقراره أن عوائد النفط الليبي لابد من أن يتم تجميدها إلى حين تشكيل مجلس رئاسي جديد.

ستيفاني ويليامز، رئيسة بعثة الأمم المتّحدة للدعم في ليبيا، أجرت مؤخرًا جولة مهمة من المباحثات في القاهرة، شملت أيضًا لقاءها وفد من خبراء المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، ثم اتجهت إلى العاصمة التونسية لمقابلة الرئيس قيس سعيد. هذا الجهد من جانب ويليامز تزامن مع زيارة الممثل السامي للاتحاد الأوروبي جوزيف بويل، ولقائه مع رئيس مجلس النواب، المستشار عقيلة صالح، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله.

الجزائر، وفي خطوة غير معلومة الدوافع أو الأهداف، أرسلت وزير خارجيتها صبرى بوقادوم إلى العاصمة التركية، لإجراء مباحثات مع وزير الخارجية التركي، وهناك صرح بوقادوم بأنه واثق من قدرة البلدين على إيجاد حل للأزمة الليبية.

حصيلة كل ما سبق، أفضت إلى ترقب لقاء سيجمع بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري من أجل إطلاق المباحثات بين اللجان الليبية المختلفة، علمًا بأن رئيس مجلس الدولة خالد المشري صرح منذ ساعات حول قرب احتضان الرباط لمباحثات بين أعضاء مجلسي النواب والدولة الليبيين، وشخصيات سياسية أخرى، وقد تتم هذه المباحثات في عواصم أخرى، مثل بروكسل أو جنيف.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى