
نقطة تحول.. كيف ستنعكس استقالة آبي على مستقبل اليابان؟
بعد ما يقرب من ثماني سنوات في السلطة، أعلن شينزو آبي رئيس وزراء “ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم” أنه سيستقيل من منصبه بمجرد أن يختار الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم (LDP) بديلًا له. لتدخل اليابان بعد هذا الإعلان حالة من عدم اليقين لما ستكون عليه بسبب التقلبات في الحزب الحاكم، والانتخابات الوشيكة والتوتر الجيوسياسي، وتبعات جائحة فيروس كورونا المستجد والركود الاقتصادي، بالإضافة إلى توتر العلاقات الأمريكية الصينية التي انعكس صداها على الداخل الياباني.
قاد آبي حكومة يابانية مستقرة طيلة فترة حكمه، وستؤدي استقالته المفاجئة بسبب تدهور حالته الصحية، إلى تحولات كبيرة في السياسة الداخلية والخارجية، سيجد على إثرها رئيس الوزراء الياباني القادم صعوبة في حشد مستوى القوة التي اكتسبها آبي وسيطرته على الحكومة، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلى أن رئيس الوزراء المستقيل أمضى سنوات في المناورة بحلفائه الداخليين والخارجيين.
وتشابكت استقالة آبي بعدد من العوامل إلى جانب تدهور حالته الصحية، منها تراجع شعبيته والتي وصلت إلى 34% وهي أدنى نسبة على الإطلاق وصل لها خلال فترة حكمه الممتدة منذ عام 2012. وفشله الذريع في إعادة بناء الاقتصاد الياباني كما وعد. بالإضافة إلى فقد حكومته الأغلبية الموالية لها في مجلس الشيوخ لصالح المعارضة في الانتخابات التي جرت في 29 يوليو الماضي.
لذا من المتوقع أن يواجه خليفة آبي عدد من التحديات أبرزها:
تحديات داخلية، سيتعين على رئيس وزراء اليابان القادم التعامل مع معضلة وباء فيروس كورونا المستجد باستراتيجية مختلفة، لأنه سيقابل جمهورًا غير راضٍ عن تعامل إدارة آبي مع الوباء، على الرغم من أن البلاد قد خفضت عدد الإصابات بها إلى أقل من 68 ألف إصابة ووفياتها إلى أقل من 1300، إلا أن عمليات الإغلاق الطارئة قضت على أي مكاسب اقتصادية تحققت في السنوات السبع الماضية. وسيتعين على طوكيو أيضًا مواجهة التحديات الهيكلية الأخرى التي تفرضها الأزمة الديموغرافية المتزايدة في اليابان، ومعدل الشيخوخة السكانية المتزايد، وتضييق شبكة الرعاية الاجتماعية، وتقلص القدرة التنافسية التكنولوجية.
تحديات خارجية، سيتعين على رئيس الوزراء الياباني القادم مواجهة الانتشار المستمر للأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى خارج كوريا الشمالية، فضلًا عن البيئة الجيوسياسية متزايدة التعقيد التي تتميز بالمنافسة بين أكبر شريك تجاري لليابان (الصين) وأقوى حليف أمني (الولايات المتحدة).
في هذا السياق الكئيب، يمثل رحيل آبي أيضًا فرصة لطوكيو لتقييم مدى تحسن علاقاتها الدولية خلال السنوات السبع الماضية. فقد أتت إصلاحات الأمن القومي والدبلوماسية النشطة لآبي ثمارها، فاليابان الآن في وضع أكثر أمانًا. حيث تمنح أمانة الأمن القومي اليابانية التي أُنشئت في عام 2013 على غرار مجلس الأمن القومي الأمريكي لرئيس وزرائها قدرة أكبر على التخطيط الاستراتيجي والتنسيق والتنفيذ وتحقيق مركزية في جمع المعلومات وتسريع اتخاذ القرار خاصة للتعامل مع حالات الطوارئ غير المتوقعة مثل كارثة فوكوشيما النووية عام 2011 والاستجابة الحالية لكوفيد -19.
الخلفاء المحتملون
خروج آبي المبكر من السلطة، على الرغم من أنه فاجأ الكثيرين، إلا أنه لم يشكل صدمة للنظام السياسي الياباني. بل كان بمثابة تسارع لوتيرة الأحداث التي تتحرك بالفعل. حيث كان المسؤولون التنفيذيون في الحزب الليبرالي الديمقراطي يبحثون بالفعل عن خليفة لما بعد شينزو آبي، وذلك في ظل تراجع شعبيته في الفترة الأخيرة، جراء فشله في الاستجابة لوباء كوفيد-19.
وسواء غادر شينزو آبي السلطة مبكرًا أم لا، كان من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية للحزب في سبتمبر 2021، ونفس اللاعبين الذين تم إعدادهم لخلافة آبي في عام 2021 ما زالوا المرشحين لتولي منصبه الآن. ومع ذلك يظل الوقت ضيقًا أمام الحزب الديمقراطي الليبرالي للتوصل إلى إجماع على خليفته، ما قد يعني أن رئيس الوزراء الياباني القادم سيعمل في منصبه بصفة مؤقتة، حتى ينتهي الحزب من وضع خططه طويلة الأجل.
ومن أبرز المرشحين لخلافة شينزو آبي، وزير الخارجية السابق “فوميو كيشيدا”، والأمين العام السابق للحزب الليبرالي الديمقراطي “شيغيرو إيشيبا”، ووزير الدفاع “تارو كونو”، وكبير أمناء مجلس الوزراء “يوشيهيدا سوجا”، ووزير الخارجية “توشيميتسو موتيجي”. ويقوم المسؤولون التنفيذيون في الحزب الحاكم حاليًا بوضع اللمسات الأخيرة على خطط اختيار الزعيم الجديد، والتي من المقرر أن تكون في 14 سبتمبر المقبل. مع وجود مجموعة من الخيارات المتاحة لهم وهي:
- التصويت المعتاد الذي يمكن للمسؤولين الإقليميين في الحزب الديمقراطي الليبرالي المشاركة فيه.
- تصويت محدود يُشارك فيه المشرعين الحاليين للحزب الديمقراطي الليبرالي وحدهم، والمبرر لهذا الخيار يتمثل في مخاطر الإصابة بكوفيد-19.
- دفع آبي للتنحي حتى يتمكن الحزب من تنصيب رئيس وزراء بالإنابة حتى الانتخابات الرئاسية للحزب المقرر إجراؤها في سبتمبر 2021.
وتشير التقديرات إلى أن الانتخابات المحدودة سترجح كفة رئيس أمانة مجلس الوزراء “يوشيهيد سوجا” لكي يتقلد هذا المنصب بسبب دوره الراسخ في إدارة آبي وفي وضع السياسات على المستوى القومي. ومع ذلك فإن اختيار آبي لسوجا ليس مضمونًا بسبب توتر العلاقات بينهما خلال العام الماضي.
انعكاس الاستقالة على سياسة اليابان الخارجية
كان حجر الزاوية في عقيدة آبي الخارجية هو تعزيز الشراكة مع جميع دول العالم، ولم تبرز اليابان فقط كقائد على الساحة الدولية مع تعميق العلاقات الثنائية ولكن أيضًا كمهندس تحالف نشط. على سبيل المثال، وصلت العلاقات الثنائية الوثيقة بين طوكيو ونيودلهي إلى حد تشكيل السياسة الآسيوية في العهود المقبلة. وخارج آسيا، من المقرر أن تكون اليابان أيضًا واحدة من أولى الدول التي توقع اتفاقًا تجاريًا مع المملكة المتحدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. كذلك كانت الشراكة الاقتصادية الشاملة مع أوروبا أحد المميزات الإيجابية لسياسة آبي الخارجية.
كما ظل التعامل مع الجغرافيا والتوازن الجيوسياسي من أهم العوامل التي أثرت على السياسة الخارجية اليابانية. ومع اقتراب نهاية حقبة آبي وسط الوضع الأمني غير المستقر، من الأهمية بمكان النظر إلى المسار الذي قد تنتهجه اليابان حيال الصين والولايات المتحدة في ظل المعضلة التي تواجهها والمتمثلة في اعتمادها على الصين اقتصاديًا، وحاجتها إلى الولايات المتحدة أمنيًا.
الصين:
في أعقاب استقالة شينزو آبي ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “تشاو لي جيان” أن بكين تقف “على استعداد للعمل مع اليابان لمواصلة تحسين وتطوير العلاقات الثنائية”. وبالمثل، نقلت وسائل الإعلام الصينية رسالة مفادها أن من سيخلف آبي يجب أن يستمر إلى حد كبير على خطاه. وهو ما يؤكد أن الصين تراقب عن كثب الوضع السياسي الناشئ في اليابان، وترغب في رؤية رئيس وزراء ينتهج سياسة الصين المعتدلة.
وكثيرًا ما يُنسب إلى شينزو آبي، القدرة على تشكيل سياسة خارجية جريئة وديناميكية بشكل كبير، لا سيما فيما يتعلق بالصين. التي مرت العلاقات معها بواحدة من أسوأ مراحلها في عام 2012 عندما تولى آبي السلطة، والتي تزامنت مع إحياء التوترات المتصاعدة مع الصين بشأن النزاع الإقليمي المتعلق بجزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي. ومن ثم واصل آبي إصلاح الهيكل الأمني لليابان دون الدخول في مواجهة صريحة مع القيادة في بكين، وتحسنت العلاقات بينهما تدريجيًا. ويعود الفضل في ذلك إلى أن التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الصين واليابان ظل إيجابيًا إلى حد كبير على الرغم من نزاعهما المستمر حول جزر سينكاكو وتعزيز القدرات العسكرية لدى الجانبين.
وتعد الصين الآن أحد أهم الشركاء التجاريين لليابان، حيث تمثل حوالي 20٪ من إجمالي تجارتها. لذلك، في ضوء التوترات المتصاعدة مؤخرًا مع الصين والبيئة الأمنية الإقليمية المتزايدة التعقيد، يبدو من غير المرجح أن يكون هناك تحول بعيدًا عن نظرة اليابان الحالية تجاه جيرانها، بما في ذلك الصين.
الولايات المتحدة:
اتسمت العلاقات الأمريكية اليابانية في عهد شينزو آبي، بالتميز من جميع النواحي. وبالتالي سيواصل رئيس الوزراء الياباني القادم الحفاظ على “علاقة خاصة” مع الولايات المتحدة لسبيين. الأول، حاجة اليابان إلى الحماية الأمريكية، بسبب إدراكها لمخاطر النمو المتزايد للصين والذي قد يشكل تهديدا جديا لها، ثانيًا، الاتحاد ضروري للولايات المتحدة في هذه اللحظة التي أعلنت فيها انتهاج مسار نحو صراع عالمي مع الصين.
وقد رسخ آبي علاقته بالولايات المتحدة عندما بدأ ولايته الثانية كرئيس للوزراء في عام 2012، ونال ثقة الرئيس السابق باراك أوباما كحليف موثوق به وملتزم بالتجارة الحرة وأقوى حليف عسكري في آسيا والمحيط الهادئ. ومع تغير الإدارة الامريكية وتولي دونالد ترامب السلطة في 2017، استطاع آبي ترسيخ العلاقات الأمريكية أكثر ووصفه ترامب بأنه أعظم رئيس وزراء في تاريخ اليابان.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب دأبت على انتقاد حلفاء الولايات المتحدة التقليديين، إلا أن اليابان كانت استثناء ملحوظًا. لقد نمّى شينزو آبي علاقة شخصية مع الرئيس ترامب لتصبح الأقرب من أي حليف ديمقراطي آخر، وسَلِمَ في معظم الوقت من مستوى الانتقاد الذي وجهه الرئيس إلى عدد من حلفاء الولايات المتحدة الآخرين. كما تثمن الحكومة اليابانية أيضًا موقف واشنطن الدفاعي القوي في منطقة المحيط الهندي – الهادئ.
وبغض النظر عما إذا كان ترامب سيبقى في منصبه أم لا، فإن نجاح السياسة الخارجية لرئيس الوزراء المقبل ستعتمد بدرجة كبيرة على مدى تكيفه مع الديناميكية الحالية التي يحركها خلفاء آبي المحتملون. وسيكون خليفة آبي بحاجة إلى إيجاد موطئ قدم له بعد توليه السلطة لأنه ليست لديه علاقة العمل الوثيقة وطويلة الأمد التي حظي بها آبي مع البيت الأبيض، والتي ساعدته في التخفيف من الضغوط التجارية وإعادة التركيز على المشاركة الاستراتيجية طويلة الأجل.
ختامًا، إن اليابان عالقة الآن في معضلة الاختيار بين الصين والولايات المتحدة. في حين أن سياستها تتبع نهج متوازن للحفاظ على العلاقات بين البلدين. ولكن ما يؤرقها أنه في حال فوز ترامب بولاية ثانية، ستصعد الولايات المتحدة من سياستها العدوانية تجاه الصين، وبالتالي ستتأثر العلاقات الصينية اليابانية، لأن اليابان، بعد كل شيء، حليف رئيسي للولايات المتحدة. لكن في حال فوز جو بايدن قد يتبنى نهجًا أقل تطرفًا تجاه بكين، مما يساهم في توازن العلاقات.