
نورديك مونيتور: كيف رشت المخابرات القطرية قياديًا في حزب أردوغان لتسريع الاتفاق العسكري بين البلدين
عرض – محمد منصور
تفاصيل مهمة نشرها موقع (نورديك مونيتور) الاستقصائي السويدي الذي يديره الصحفي التركي البارز عبد الله بوزكورت حول جانب آخر من جوانب الفساد الذي يشوب العلاقة بين الدوحة وأنقرة؛ إذ لم يمنع التحالف التام (الذي يصل إلى درجة التبعية) بين البلدين من تغلغل الفساد المالي والإداري في ثنايا الاتفاقيات الثنائية بينهما بما في ذلك الاتفاقيات العسكرية.
في هذا الصدد تؤكد وثيقة استخباراتية حصل الموقع السويدي على نسخة منها أن أحمد بيرات كونكار العضو البارز في الحزب التركي الحاكم حزب العدالة والتنمية والذي يشغل منصب نائب لجنة الشئون الخارجية في البرلمان التركي قد تلقى رشوة بلغت قيمتها 65 مليون دولار أمريكي من أجهزة الاستخبارات القطرية.
تفاصيل هذا الموضوع تم الكشف عنها خلال شهادة أدلى بها اللواء بحري سنان سورير الذي تولى قيادة الفرع الخارجي للاستخبارات العسكرية التركية، وهو الفرع المعروف رسميًا باسم (إدارة تقييم تحليلات الاستخبارات التابعة لرئاسة الأركان). وقد أفاد اللواء سورير أن كونكار عقد اتصالات سرية مع أحد ضباط المخابرات القطرية من أجل الحصول على مبالغ مالية طائلة قبيل أسبوع واحد من إيعاز كونكار للجنة الشئون الخارجية في البرلمان التركي بتسريع إقرار قانون ينص على نشر عدد من وحدات الجيش التركي في قطر.
وأضاف اللواء سورير في شهادته “أنه بحسب المعلومات التي تحصلت عليها من مصادر استخباراتية اعترضت إحدى الوثائق المهمة تواصل بيرات كونكار مع أحد ضباط الاستخبارات القطرية قبيل عقد إحدى جلسات لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان” بهدف تزكية مشروع القانون الذي يسمح بنشر وحدات عسكرية تركية في قطر. وأفاد اللواء التركي أنه وحسب الوثيقة التي تم اعتراضها فقد تلقى كونكار عقب هذا التواصل مبالغ مالية تقدر بنحو 65 مليون دولار أمريكي.
جدير بالذكر أن كونكار شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي في الفترة ما بين عامي 2014 و2016، وكان يشغل هذا المنصب حين وافقت هذه اللجنة على مشروع القانون الذي يسمح بتمركز وحدات عسكرية تركية في قطر. لم يتم الكشف عن خبايا هذا الملف إلا في الثاني من مارس 2015 حين اعترض جهاز الاستخبارات الوطنية التركي وثيقة تحمل تفاصيل الاتصالات بين كونكار والقطريين، وقد تمت ترجمة هذه الوثيقة للغة التركية ومن ثم إرسالها إلى كافة الجهات الحكومية السيادية والمختصة بالشؤون الأمنية والعسكرية، بما في ذلك هيئة الأركان العامة ووزارتي الداخلية والخارجية ومكتب اللواء سورير نفسه.
ورد ذكر كونكار في تحريات أجهزة الأمن والاستخبارات التركية تحت توصيف أنه قطب سياسي بارز بالغ التأييد لجماعة الإخوان المسلمين، ومقرب لدرجة كبيرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكان عضوًا في الوفد التركي بالجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي. ووفقًا لسيرته الذاتية المنشورة على موقع البرلمان التركي فقد عمل كونكار مستشاراً لأردوغان لشؤون السياسات الخارجية، وشغل منصب رئيس اللجنة البرلمانية المشتركة التركية الأوروبية. وقد حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة ميامي الأمريكية، وعمل لفترة في شركة أميركان أكسبريس لخدمات السفر والسياحة قبل أن يعود إلى تركيا.
جانب من نص شهادة اللواء بحري سنان صرير أمام القضاء التركي والتي كشفت أن المخابرات القطرية قدمت رشوة بقيمة 65 مليون دولار لأحمد بيرات كونكار
مشروع القانون الذي ساهم كونكار بشكل أساسي في تمريره في لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي كان عنوانه (اتفاقية بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة دولة قطر بشأن التعاون في التدريب العسكري والصناعة الدفاعية ونشر وحدات عسكرية تركية على الأراضي القطرية)، وقد تم بالفعل التوقيع على هذه الاتفاقية في التاسع عشر من ديسمبر 2014 خلال زيارة قام بها أمير قطر إلى تركيا. علمًا بأنه هو من قام باقتراح هذه الاتفاقية خلال زيارة الرئيس التركي إلى الدوحة في منتصف سبتمبر 2014. بعد توقيع هذه الاتفاقية تم تقديمها في العاشر من فبراير 2015 إلى البرلمان التركي، ومن ثم تمت إحالتها إلى لجنة الشؤون الخارجية بعد عشرة أيام من ذلك التاريخ لإقرارها.
دور كونكار في إقرار هذه الاتفاقية كان بارزًا، فقد قام بتعديل موعد اجتماع اللجنة لمناقشة هذه الاتفاقية عدة مرات، وأبلغ أعضاء اللجنة بالموعد النهائي لعقد هذا الاجتماع قبل يوم واحد فقط من موعده؛ وذلك كي لا يتوفر لهم الوقت الكافي لدراسة بنود هذه الاتفاقية دراسة وافية. خلال مناقشة أعضاء اللجنة لبنود هذه الاتفاقية اعترض بعضهم على غموض الصياغة الخاصة بمعظم هذه البنود مثل المادة الرابعة التي تتضمن عبارات مطاطة غير واضحة حول موجبات نشر القوات التركية خارج البلاد مثل “لتنفيذ أي مهام أخرى”. وقد فسر بعض أعضاء اللجنة هذا الغموض بأنه محاولة من الحكومة التركية لتوسيع نطاق التفويض الممنوح لها لنشر قوات في الخارج بما يتجاوز ما تم إقراره والاتفاق عليه في البرلمان فعليًا، وهو ما يقوض جزءًا أصيلًا من العملية الديمقراطية التركية، وهو المراقبة البرلمانية.
تم التقاط هذه الصورة عام 2016 ويظهر فيها أحمد بيرات كونكار سائرًا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونائبه متين كولنك
مسألة الصياغة الغامضة لبنود هذه الاتفاقية أثارها عضو اللجنة أوكتاي إكشي الذي رأى أن المحددات والضوابط غير الواضحة الخاصة بنشر القوات التركية خارج البلاد تمثل فرصة للسلطة التنفيذية من أجل إساءة تأويلها واستغلالها، وقال “لقد طالبنا بأخذ هذه المسألة بعين الاعتبار في الاتفاقيات الثنائية، وأن يتم توضيح التزامات البلدين بوضوح فيها”.
نائب وكيل وزارة الخارجية التركية السفير أوميت يالتشين أقر بأن هذه الاتفاقية واسعة النطاق، مشيرًا إلى أن التفاصيل المتعلقة بضوابط وشروط نشر القوات التركية في قطر سيتم وضعها بواسطة عسكريين من كلا البلدين، لكن لم يحز هذا الرد على رضا اوكتاي إكشير الذي سجل اعتراضه على كافة الشروط الغامضة في هذه الاتفاقية.
جزء من نص الاتفاقية العسكرية التركية- القطرية التي سمحت بنشر وحدات عسكرية تركية في قطر
أيد عدد آخر من أعضاء اللجنة وجهة نظر أوكتاي إكشي منهم عثمان تاني كوروتورك الذي رأى أن بنود هذه الاتفاقية تختلف عن كافة البنود المتعارف عليها في اتفاقيات التعاون العسكري مع الدول الأخرى التي رآها خلال السنوات الأربع التي قضاها عضوًا في لجنة الشؤون الخارجية، مضيفًا “يبدو أن الغرض الوحيد من هذه الاتفاقية هو استعراض القوة العسكرية وتوزيعها في الخارج، وهناك محاولات عدة في متن هذه الاتفاقية لإخفاء هذا الهدف”.
علي حيدر أونر عضو آخر في هذه اللجنة تساءل عن هدف رئيس اللجنة أحمد كونكار من زجه بملف هذه الاتفاقية لمناقشته في جلسة استثنائية عاجلة، وقال “اجتماعاتنا تعقد عادة أيام الأربعاء وأحيانًا أيام الخميس وبقدر ما أتذكر هذه هي المرة الأولى التي تجتمع فيها اللجنة يوم الاثنين، ناهيك عن تغيير موعد بدء هذا الاجتماع ثلاث مرات كما لو أننا كنا بصدد مناقشة كيفية تهريب بضائع ما من الجمارك!”.
أحمد كونكار في إحدى المظاهرات أثناء إلقاء الرئيس التركي خطابًا جماهيريًا في يوليو 2018
أشار أونر أيضًا إلى أنه لم يصدر عن الأمم المتحدة أو حلف الناتو أية مؤشرات تفيد أن نشر الوحدات العسكرية التركية في قطر ضروري. كما سأل أونر نائب وكيل وزارة الخارجية التركية السفير أوميت يالتشين عما إذا كانت أنقرة سوف توقع اتفاقية عسكرية مماثلة مع الإمارات العربية المتحدة، وهي دولة وصفها بأنها ذات موقع استراتيجي أكثر في منطقة الخليج، فأجاب يالتشين أنه بالفعل توجد اتفاقية تعاون في مجال الصناعات الدفاعية بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، وأن الحكومة التركية تفكر في توقيع اتفاقيات مماثلة مع دول الخليج الأخرى مستقبلًا.
جانب من محضر اجتماع لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان التركي حول الاتفاقية العسكرية مع قطر
حاول كونكار الدفاع عن موقفه بالقول إن سبب تعجله في عقد هذا الاجتماع يعود إلى ارتباطه برحلة طيران إلى ليتوانيا، وأن البرلمان التركي عمل على هذه الاتفاقية لساعة متأخرة، وادعى أن تغييره المتكرر لموعد بدء الاجتماع لا علاقة له بالاتفاقية العسكرية مع قطر.
في النهاية تمت الموافقة على الاتفاقية في هذه اللجنة بأغلبية أصوات المنتمين لحزب العدالة والتنمية الحاكم، كما تم إقرارها في الجمعية العامة للبرلمان التركي خلال الجلسة المنعقدة بتاريخ التاسع عشر من مارس عام 2015, تحت اسم القانون رقم 6633. وقد وقع الرئيس التركي على هذا القانون في السابع والعشرين من نفس الشهر وتم نشره في الجريدة الرسمية في اليوم التالي مباشرة ليدخل بذلك حيز التنفيذ.
بالعودة إلى شهادة اللواء بحري سنان سورير تضمنت هذه الشهادة التأكيد أن أجهزة الاستخبارات التركية لم تستخدم في تقاريرها حول مسألة الرشوة ألفاظًا غير دقيقة مثل (يقال) و(يشاع)، لكنها استخدمت تعبير (حسب المعلومات التي وردت من مصادر موثوقة) مما يؤكد مسألة الرشوة ولا يجعلها خاضعة للتأويل أو للتشكيك. كشف اللواء سورير عن وثيقة الاستخبارات المتعلقة بهذا الملف خلال شهادته ضمن جلسة استماع عقدتها في الواحد والعشرين من مارس 2019 الدائرة السابعة عشر في المحكمة الجنائية العليا في العاصمة التركية أنقرة.
هذه الوثيقة التي تتألف من تسعة عشر صفحة هي نسخة مترجمة للتركية من تقرير أعده ما يُعتقد أنه عميل استخبارات أجنبي حول نقاط الضعف في تركيا قبيل انتخابات عام 2015. كما تضمن تقرير العميل الأجنبي خلاصات تتبعه للصلات بين الرئيس التركي وعدة شبكات جهادية مسلحة بما في ذلك تنظيم داعش الإرهابي، وكذا خفايا تورط أردوغان في النفط السوري والعراقي مع هذا التنظيم وارتباطاته بتنظيم الإخوان المسلمين ومنظمات إجرامية أخرى.
وثيقة المدعي العام في المحكمة الجنائية العليا الصادرة في الأول من أغسطس عام 2016 والتي تضمنت بعض التفاصيل الواردة في الوثيقة المتعلقة بملف الرشوة وبصلات أردوغان بجماعات جهادية
السبب الأساسي وراء كشف اللواء سورير عن هذه الوثيقة أن وسائل الإعلام الحكومية كانت قد ادعت أنه هو من قام بإعداد هذه الوثيقة، مع أن حقيقة الأمر أن من قام بإرسالها هو جهاز الاستخبارات الوطنية التركي بعد اعتراضه رسائل عميل الاستخبارات الأجنبي. وسائل الأعلام الحكومية في تركيا تناولت هذه الوثيقة بشكل مجتزأ؛ إذ عرضت فقط البنود التي تتناول التطورات السياسية مثل محاولة حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد بناء تحالفات مع الأحزاب اليسارية لإضعاف الحزب التركي الحاكم، وتجاهلت وسائل الإعلام الموالية لحكومة العدالة والتنمية كافة التفاصيل المتعلقة بقضية الرشوة وعلاقة أردوغان بجماعات أصولية وجهادية مسلحة.
اللواء سورير في شهادته أكد صحة هذه الوثيقة وقانونية تداولها؛ نظرًا لأنها مرسلة من هيئة استخباراتية رفيعة وهي وكالة الاستخبارات الوطنية. وأضاف “على ما أذكر وصلت هذه الوثيقة إلى مكتبي في نهاية شهر مارس أو بدايات شهر أبريل أي قبل شهرين أو ثلاثة أشهر من الانتخابات التشريعية. لم يكن لي أدنى دور في إعداد هذه الوثيقة وقمت بتقديم تقريري حولها إلى رئيس الاستخبارات العسكرية الفريق محمد دايزال ونائب رئيس الأركان العامة الجنرال ياسر جولر ورئيس الأركان العامة الجنرال نجدت أوزيل كجزء من الأعمال الورقية الروتينية، وقد اطلع الضباط الثلاثة على كامل بنود هذه الوثيقة وقام بعضهم مثل الجنرال ياسر جولر بالتأشير على بعض الأسطر المهمة في هذه الوثيقة”.
رغم كل ما سبق تم الحكم على اللواء سورير في يونيو 2019 ب 141 بالسجن المؤبد، وهي أحكام مغلظة مبنية على أدلة مشكوك فيها في ظل محاكمة تفتقر للإجراءات القانونية الصحيحة وحتى الآن لم يتم البت في طلبه استئناف هذه الأحكام.
باحث أول بالمرصد المصري



