أوروباتركيا

مساعي فرنسية لتحجيم الطموح التركي في المتوسط

كتب – محمود قاسم

أظهرت أحداث شرق المتوسط الأخيرة أن تركيا بزعامة رجب طيب أردوغان قد أصبحت فى حالة صدام مع مصالح دول المنطقة الحيوية وتهدد الأمن الإقليمي وتساهم فى إنتشار الإرهاب ونشر الأفراد والسلاح خارج مظلة القانون وبالمخالفة لقرارات الحظر وسيادة الدول مما جعلها فى صدام مباشر مع فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون الذي يسعى لبسط نفوذ بلاده على البحر المتوسط وتحجيم الأطماع والنفوذ التركية باستخدام سياسة “الخطوط الحمراء”…

ارتفعت في الآونة الأخيرة حدة التصعيد بين باريس وأنقرة وذلك بسبب خلافات حول عدد من القضايا، إلا أن سلوك تركيا في شرق المتوسط وانتهاكاتها المستمرة للحقوق السيادية لدول المنطقة وبالتحديد اليونان ساهم في رفع مستوى التوتر بين البلدين، حيث تشهد الفترة الحالية حالة من الاحتقان والاستقطاب غير المسبوق بين البلدين وهو ما يمكن ملاحظته عبر سلسلة من الاتهامات المتبادلة والتصريحات العدائية والانتقادات المستمرة من كبار المسؤولين في البلدين.

وقد تسببت التطورات والتفاعلات المتسارعة بشرق المتوسط في انخراط فرنسا بشكل متزايد في هذه المنطقة، لعدد من الاعتبارات سواء ما يرتبط بالحاجة لزيادة نفوذها وتأثيرها أو رغبتها في موازنة النفوذ الدولي علاوة على مجابهة التحديات والحفاظ على مصالحها الاقتصادية، ناهيك عن المساعي المستمرة في تطويق وتحجيم النفوذ التركي. وعليه يمكننا تحديد مستقبل الوجود الفرنسي في المتوسط وما يمكن أن تؤول إليه الاحداث واختبار حدود التشابك الاوسع مع تركيا فيما يلي:

تحركات نشطة ومصالح متعددة

  يدخل البحر الأبيض المتوسط ضمن المجالات الحيوية لفرنسا، وقد زاد هذا التوجه في أعقاب دخول الرئيس “إيمانويل ماكرون” قصر الإليزيه ومساعيه المتزايدة لتبني دبلوماسية وسياسة خارجية نشطة في عدد من الدوائر من بينها الدائرة المتوسطية؛ وفي هذا السياق يمكننا الإشارة إلى حاجة فرنسا المُلحة للانخراط في المتوسط بهدف تحقيق جملة من الأهداف، وهو الأمر الذي يمكن تحديد ملامحه فيما يلي:

  • القيادة المتوسطية، تعمل فرنسا مؤخرًا على استعادة قيادتها للمتوسط، حيث ترى أنها مؤهلة لهذه القيادة نظرًا لكونها الدولة المتوسطية صاحبة المقعد الدائم في مجلس الأمن، إضافة إلى قدراتها العسكرية، وبناء عليه تعمل على تعزيز قيادتها للمنطقة عبر عدد من الركائز والأدوات كتلك المرتبطة بالحوار والدبلوماسية النشطة أو من خلال الانتشار والتواجد العسكري.

وقد ظهر البعد المتوسطي في سياسة “ماكرون” ورغبته في قيادة المنطقة في عدد من المؤشرات كان أخرها زيارته للبنان في أعقاب تفجير مرفأ بيروت وتبنيه زمام المبادرة كأول رئيس دولة يزور بيروت في أعقاب الانفجار، وعاد وكرر ماكرون الزيارة بعد مرور شهر فى بداية سبتمبر ليلتقى بكل القوى السياسية فى لبنان ويفرض رؤيته لشكل ومهام الحكومة اللبنانية الجديدة؛ 

كما اتضحت الرغبة الفرنسية في قيادة المتوسط من خلال استضافة” مارسليا” في يونيو 2019 لقمة ” ضفتي المتوسط”، بهدف تعزيز الحوار والتفاهمات حول قضايا المنطقة، في الوقت ذاته اتضحت الأهمية الجيوسياسية وقيمة البعد المتوسطي في خطاب ” ماكرون” يوليو 2020 – اثناء الاحتفال بالعيد الوطني- حيث يرى أن منطقة المتوسط يجتمع فيها كل مقومات وعناصر الأزمة التي يمكن أن تضر بالمصالح الأوروبية وفي القلب منها فرنسا، 

لذا يرى أن الانخراط في تلك المنطقة وتبني سياسة خارجية ودفاعية نشطة تجاه التحولات في المتوسط بات من أولويات القيادة واعتبارات الأمن القومي، ويعتبر الانتشار العسكري والانخراط المتزايد بشرق المتوسط ترجمه حقيقة لحاجة باريس إلى تعزيز وجودها وقيادتها المتوسطية في ظل تعدد الفواعل الإقليميين والدوليين.

  • موازنة النفوذ الدولي، تعمل باريس على موازنة النفوذ الدولي في المتوسط، حيث ترى أن مثل هذا الانخراط يضمن لها الاحتفاظ بأوراق التأثير ولعب دور يتماشى مع تطلعات فرنسا وسياستها الرامية إلى العودة للساحة الدولية وهو ما يترتب عليه النظر إلى منطقة المتوسط باعتبارها مجالًا حيويًا لاستعادة النفوذ وموازنة القوى، 

إذ تُعد المنطقة ساحة للتنافس الدولي والإقليمي وهو ما يظهر في عدد من المؤشرات من بينها: الانتشار الأمريكي عبر شركات التنقيب أو من خلال الأسطول السادس، فضلَا عن النفوذ الروسي المتنامي عبر بوابة سوريا أو من خلال الانتشار في البحر الأسود، علاوة على مساعي الصين للدخول للمعادلة نظرًا لأهمية المتوسط في استراتيجية بكين وحاجتها لتأمين الطرق الرئيسية تنفيذًا لمشروع طريق الحرير.

في الوقت ذاته تعمل أنقرة على تثبيت حضورها ونفوذها في لبنان بهدف امتلاك أوراق تأثير في الملفات الإقليمية والحصول على أوراق مساومة مع باريس خاصة في ظل اتساع حدة الخلاف بينهما في عدد من الملفات والقضايا، وسط هذا التنافس تبحث باريس عبر انخراطها عن موازنة هذا النفوذ متعدد الأوجه.

  • تأمين المصالح الاقتصادية، تنظر فرنسا لمنطقة شرق المتوسط باعتبارها منطقة اقتصادية واعدة خاصة في أعقاب اكتشافات الغاز، حيث تشير التقديرات إلى أن حجم الاكتشافات في تلك المنطقة يعادل استهلاك فرنسا من الغاز الطبيعي لنحو 50 عامًا، وعليه تعمل فرنسا على تأمين عملية اكتشاف الغاز وأنشطة الإنتاج مدفوعة بحماية مصالحها الاقتصادية سواء المرتبطة بتأمين احتياجها من الغاز ومن ثم تقليل الاعتماد الأوروبي بشكل عام على الغاز الروسي، أو عبر الحفاظ على مصالح شركاتها العاملة في التنقيب، إذ نجحت شركة ” توتال” الفرنسية في سبتمبر 2019 من الحصول على تراخيص للعمل قبالة سواحل قبرص.
  • مجابهة التحديات غير التقليدية، تتحرك فرنسا في المتوسط مدفوعة برغبتها في تقليل المخاطر ومجابهة التحديات التي يمكن أن تؤثر على أمنها القومي واستقرارها، خاصة وأن منطقة المتوسط ذات بعد استراتيجي في تأمين الجزء الجنوبي للبلاد، وعليه فإن باريس تعمل على لعب دور فاعل يضمن لها الحفاظ على أمنها، حيث يمكن أن يؤدي عدم الاستقرار واستمرار النزاعات إلى تفاقم تلك المخاطر والتحديات، خاصة المرتبطة بالهجرة غير الشرعية حيث تتخذ تلك العناصر شرق المتوسط منفذًا للتسلل عبر دول أوروبا، إذ وصلت أعدد المهاجرين لأكثر من 8 آلاف خلال عام2019. 

من ناحية أخرى تعمل فرنسا على الحيلولة دون تفشي مخاطر الجماعات والتنظيمات الإرهابية خاصة في ظل استمرار النزاع في ليبيا وسوريا وهشاشة الأوضاع الأمنية، إذ تهدف المساعي الفرنسية إلى تبني نهج موازي للمسار العسكري التي تقوم به في أفريقيا بهدف منع وصول العناصر الإرهابية إلى أراضيها، إذ أن استمرار الفوضى في ليبيا واتساع نفوذ الميليشيات من شأنه أن يؤثر على أمن دول الجوار الأوروبي ومن ثم فرنسا.

  • ردع التحركات التركية، يستهدف الانخراط الفرنسي المُكثف شرق المتوسط تقديم الدعم لليونان في مواجهة الانتهاكات التركية والأعمال العدائية شرق المتوسط، خاصة في ظل استمرار الاعمال التركية الاستفزازية والتي جاءت أحدث حلقاتها من خلال ما أعلنته البحرية التركية عن القيام بأعمال مسح زلزالي في الفترة من (27 أغسطس حتى أول سبتمبر)، ناهيك عن تواصل أعمال المناورات العسكرية، إذ أعلنت تركيا (29 أغسطس) عن بدء مناورات جديدة شرق المتوسط ضمن نهج تركيا المعتاد لفرض أمر واقع بهدف تغيير معادلة القوة، وفي اليوم ذاته اعترضت القوات الجوية التركية نحو 6 مقاتلات يونانية بزعم أنها كانت تحلق في مناطق تخضع للسيادة التركية.  في هذا الإطار تنظر فرنسا لتركيا باعتبارها مصدرًا للقلق ومحفزًا لإشعال الصراع والمواجهة بين دول المنطقة، وعليه تعمل باريس على وضع حد وردع التحركات التركية الأحادية التي تنال من أمن واستقرار المنطقة.

أدوات الانخراط

  • عسكريًا، تعمل فرنسا على الانخراط في قواعد اللعبة المتوسطية عبر توظيف الأداة العسكرية وذلك من خلال مجموعة من الانماط: الأول، يأتي ضمن التحرك الأوروبي وذلك من خلال المشاركة في عملية ” إيريني” التي تشارك فيها نحو 20 دولة أوروبية بهدف مراقبة عملية حظر نقل وتسليم السلاح إلى ليبيا وفرض رقابة على تحركات تركيا المتنامية في هذا الصدد، وتُعد فرنسا بجانب ألمانيا وإيطاليا واليونان من أكثر الدول المشاركة في العملية. 

من ناحية أخرى شاركت فرنسا بفعالية في مهمة الناتو “حارس البحر” –عملية أمنية بحرية- والتي تعمل على فرض الاستقرار وردع ومكافحة الإرهاب وتخفيف حدة المخاطر وبناء القدرات، إلا أن فرنسا قامت بتعليق عملياتها –مؤقتًا- في هذه المهمة أبان قيام تركيا بالتحرش بفرقاطة فرنسية كانت في مهمة تابعة للناتو. 

جاء النمط الثاني للانتشار العسكري عبر ارسال قطع بحرية وعسكرية لمنطقة شرق المتوسط، حيث أعلنت فرنسا – بشكل مؤقت- عن نشر طائرتين “رافال” بجانب انضمام الفرقاطة ” لافاييت” إلى حاملة المروحيات “تونير” التي كانت تحمل مساعدات إلى لبنان، وعليه يمكن اعتبار أن حشد القطع العسكرية الفرنسية جزء من تحركات باريس لإظهار قوتها ومستوى انخراطها كنوع من الردع المباشر لتحركات تركيا التصعيدية.

كما ارتبط النمط الثالث، بتوقيع اتفاقيات تعاون عسكري وأمني مع الفاعلين الأساسين شرق المتوسط، حيث وقعت فرنسا وقبرص على اتفاقية تعاون دفاعي بين الطرفين (أغسطس)، تضمن لهما مواجهة التحديات والتحركات التركية، ناهيك عن دخول فرنسا منذ فبراير الماضي في تفاهمات مع اليونان بشأن التأسيس لشراكة استراتيجية بين الطرفين تركز في محورها الأهم على دعم وتعزيز التعاون الدفاعي، بالإضافة لهذه الأنماط يمكن ملاحظة الحضور المكثف لباريس عبر المناورات العسكرية والتدريبات البحرية المشتركة شرق المتوسط وكان أخرها 26 أغسطس، وذلك في إطار تحالف ومبادرة رباعية للتعاون شرق المتوسط (اس كيو ايه دي).

  • سياسيًا، تعمل باريس على الانخراط في منطقة المتوسط عبر مجموعة من التحركات ذات الطابع السياسي والدبلوماسي، إذ أعلنت في يناير 2020 رغبتها في الانضمام لمنتدى غاز شرق المتوسط، من ناحية أخرى بدأت سياسة “ماكرون” تتخذ طابعًا متوسطيًا وهو ما برز في عزمه على لعب دور محوري بحيث يصبح الفاعل الأكثر تأثيرًا في الساحة اللبنانية مؤخرًا. في الوقت ذاته تعمل باريس عبر تحركاتها الدبلوماسية على خلق جبهة أوروبية موحدة لعرقلة التحركات التركية ومن ثم فرض عقوبات أوروبية تعمل كورقة ضغط تمنع تركيا من ممارسات سياساتها ومواصلة انتهاكاتها في المتوسط.

حدود الاشتباك

دخلت العلاقات بين باريس وانقرة مرحلة غير مسبوقة من الصدام والشد والجذب، وقد تصاعدت حدة التوتر في اعقاب حادث التحرش البحري الذي وقع بين فرقاطة تركية وسفينة بحرية فرنسية في المتوسط، ولم يكن هذا الحادث سوى قضية من بين عدد من القضايا محل الخلاف بين الجانبين، إذ تقف تركيا وفرنسا على جبهتين متناقضتين في الساحة الليبية، حيث ترى باريس أن سياسات أنقرة هي المسؤولة عن حالة الفوضى وعدم الاستقرار واستمرار الصراع في ليبيا وذلك على خلفية الدعم المستمر التي تقدمه للميليشيات المسلحة غرب ليبيا. 

كما تتباين الرؤى بينهما في الساحة السورية حيث تعارض فرنسا بشكل مستمر التدخلات العسكرية في شمال سوريا والتي تصفها دائمًا بالغزو، ناهيك عن معارضتها للضربات العسكرية التركية شمال العراق خاصة وأن فرنسا ترى أن الهجمات التركية ضد الأكراد باعتبارهم شريك أساسي للتحالف في مواجهة داعش من شأنها أن تضعف فاعلية المواجهة ضد التنظيم، خاصة وأن فرنسا لا تزال تتخوف من وجود داعش في الساحة السورية والعراقية. كما يُرجح أن تصبح بيروت مجالًا للتباين بين الطرفين فيما هو قادم في ظل تقديرات تذهب لمساعي أنقرة لتثبيت وجودها شمال لبنان، الأمر الذي قد يتعارض مع تحركات باريس لامتلاك أوراق اللعبة في لبنان.

علاوة على ذلك يظل التقارب التركي الروسي وابتعادها عن مظلة الناتو ضمن مساحات الاشتباك والاحتكاك بين الطرفين، إذ ترى فرنسا أن تركيا تتصرف بعيدًا عن المصالح الجماعية لحلف الناتو، لدرجة قيام “ماكرون” بوصف الحلف بانه في حالة ” موت دماغي”.  كما يمكن أن يتسبب التسلل والانخراط التركي المتصاعد في افريقيا في مزيد من الاحتقان بين الطرفين، إذ تنظر فرنسا للقارة الافريقية على اعتبار أنها ساحة تقليدية لنفوذها ومن ثم فقد يخصم التواجد التركي المتزايد من رصيد فرنسا، خاصة وأن تركيا بدأت تبحث عن وجود في ساحات قريبة من الحضور الفرنسي، الأمر الذي يمكن الاستدلال عليها من خلال توقيع تركيا والنيجر لاتفاقية التعاون العسكري (يوليو 2020) تسمح بوجود عسكري دائم لتركيا على غرار وجودها في الصومال.

في الأخير، على الرغم من حجم التباين بين الجانبين وارتفاع حدة التصعيد والتي وصلت لمرحلة قيام “ماكرون” برسم خطوط حمراء جديدة لأردوغان في شرق المتوسط على غرار التي رسمتها مصر لتركيا في ليبيا، إلا أن حدود الاشتباك المباشر والتصعيد بينهما يظل محدود ومقيد، خاصة في ظل ارتفاع التكلفة التي يمكن أن تنجم عن المواجهة، فضلًا عن صعوبتها باعتبار الطرفان أعضاء في الناتو، ومن المرجح أن تأخذ العلاقة بين الجانبين حالة من التصعيد والمواجهة الكلامية وقيام كل طرف بالعمل على تحجيم نفوذ الاخر في ميادين الاشتباك، وأن كانت نسب نجاح فرنسا في تحجيم نفوذ تركيا أكبر نظرًا لاقتراب موقف فرنسا مع عدد من الأطراف المؤثرة في المتوسط وفي مقدمتهم مصر، اليونان، قبرص، إسرائيل، ولبنان، كما يمكن أن تعزز فرنسا من فرصها في تطويق تركيا في حالة نجاحها في إنهاء الانقسام الأوروبي فيما يتعلق بالتعامل مع الممارسات التركية.

 كما قد تنعكس هذه الحالة على العلاقة الاقتصادية بين الجانبين والتي تشهد تراجعًا لافتًا سواء فيما يتعلق بالتبادل التجاري أو حجم الاستثمارات المباشرة، حيث تراجعت حجم الاستثمارات الفرنسية في تركيا لتصل إلى 176 مليون دولار عام 2019 مقارنة ب 313 مليون دولار عام 2018، في الوقت ذاته وصل التبادل التجاري لأدنى مستوياتها خلال شهر إبريل 2020 والذي وصل لنحو 279 مليون يورو بعدما سجل نحو 825 مليون يورو خلال شهر فبراير من ذات العام، وهو ما قد يُشير إلى احتمالية تأثر العلاقة بين الجانبين على مختلف الأصعدة وتصاعد حدتها، إلا لأن حدود الاشتباك المفتوح تظل مقيدة.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى