
احتمالات قائمة .. مسارات تطور الصراع بين قوى غرب ليبيا
يشهد الغرب الليبي حالة من تصاعد الانقسام وتزايد الاستقطاب، نظرًا لطبيعة المكونات التي تحالفت في أعقاب إعلان الجيش الوطني الليبي عن عملية “طوفان الكرامة”، والصراع الكامن على السلطة بين أقطاب السلطة المسيطرة هناك، من مجلس رئاسي ومجلس أعلى للدولة وغيرها من المكونات الاجتماعية والجهوية، وتُعد الأحداث التي شهدتها مدن المنطقة الغربية، لا سيما بعد تظاهرات 23أغسطس2020، دليلًا دامغًا على أن الصراع بين تلك الأطراف مازال قائمًا، وأن الغرب الليبي يتجه نحو مزيد من التوتر والمواجهات.
وتتعدد مظاهر الانقسام والاستقطاب المتصاعد بين القوى المسيطرة على المنطقة، والتي شملت مسيرات لاستعراض آليات الميليشيات بمواكب عسكرية، وتبادل الأطراف للاتهامات بالفساد والانفراد بالقرار وقصور أداء الحكومة، كذلك تحميل بعض الميليشيات التابعة للمجلس الرئاسي مسئولية التعامل بالقوة مع المتظاهرين، وهي كلها رسائل مؤشرة على حجم الانشقاق الحادث داخل الجبهة المسيطرة على غرب ليبيا.
النفوذ السياسي والسيطرة الميدانية
تشير المعطيات الجارية على ساحتي السياسة والميدان العسكري على إعادة إنتاج مشهد صراعي على النفوذ والسيطرة بين تلك الأطراف، ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى طبيعة الوضع الراهن بمدن غرب ليبيا، وكيف قادت سياسات تلك القوى إلى تمهيد الأرض لبدء نزاع داخل المنطقة الغربية، وهو ما يتحدد في مجموعة الملاحظات التالية:
أولًا: النفوذ السياسي: تنقسم السلطة داخل المنطقة الغربية -استنادًا إلى الاتفاق السياسي- بين المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني برئاسة “فائز السراج”، وبين المجلس الأعلى للدولة برئاسة “خالد المشري”، وكلاهما يضم في عضويته طيفًا متنوعًا من ممثلي مدن الغرب استنادًا لاعتبارات جهوية وعسكرية، فيما يتمتع وزير الداخلية “فتحي باشاغا” بنفوذ متصاعد مدعومًا بميليشيات مدينته، فيما يحظى “المشري” بإسناد كبير من جماعة الاخوان وميليشيات مدينة الزاوية، واستحوذ “السراج” على دعم ميليشيات طرابلس بعد إظهاره موقفًا مساندًا لها بوجه مساعي تصفيتها، ويدير كل طرف منهم منظومة الولاءات الخاصة به في الوقت الحالي تبعًا للاعتبارات السابقة، ووفقًا للنهج التركي تجاه الأطراف الأخرى.
ثانيًا: السيطرة الميدانية: تتوزع السيطرة العسكرية على مدن غرب ليبيا بين عدد من المجموعات المسلحة، فتتمركز ميليشيات طرابلس بالعاصمة، فيما نجحت ميليشيات مصراته في حصد مناطق انتشار بطرابلس، مع احتفاظها بانتشار موازٍ على خطوط التماس شرق مدينتها مع الجيش الوطني، وأبقت المجموعات المسلحة من مدن أخرى على تمركزاتها بالساحل الغربي ومدنها، واحتفظت بانتشارها داخل العاصمة الذي وصلت إليه هي الأخرى في خضم معارك طرابلس، وفي إطار مساعي تقنين أوضاع تلك الميليشيات، جرى إدراج بعضها تحت سلطة وزارتي الداخلية والدفاع، كما دمج البعض الاخر بكيانات مستحدثة كالقوة المشتركة والحرس الوطني، ويتمركز المرتزقة السوريين والعسكريون الأتراك بمدن مصراته وطرابلس، لاسيما معسكرات الشرطة والجيش على تخوم طرابلس، وقاعدة معيتيقة وميناء مصراته وكليتها الجوية.
وبخروج تظاهرات المواطنين إلى ساحات مدن المنطقة الغربية، اعتراضًا على قصور أداء حكومة الوفاق والأزمات المتكررة بالسيولة والكهرباء وغياب الأمن، سارعت أطراف المعادلة إلى توظيف تلك الاحتجاجات لتحقيق مكاسب سريعة، وقد أدت محاولات التوظيف إلى تنامي مؤشرات الصدام والمواجهة بين الطرفين، فعلى صعيد المجلس الرئاسي، أصدر قرارًا للقوة المشتركة، برئاسة “أسامة الجويلي” الموالي للسراج، بتأمين العاصمة والتصدي للتظاهرات، كما أصدر المجلس قرارًا بفرض حظر التجول بشكل كلي بالعاصمة، فيما خرجت ميليشيات العاصمة للاحتفال بقرار وقف “باشاغا عن العمل، وطالبت بخروج ميليشيات المدن الأخرى من العاصمة.
وعلى صعيد التيار المصراتي، جاء بيان “فتحي باشاغا” متهمًا حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي بوجود فساد كبير داخل كيانات وأروقة السلطة، وفي اليوم التالي خرجت أرتال من ميليشيات مصراته ووزارة الداخلية لاستقباله بمطار معيتيقة، وقامت باستعراض لآلياتها ومعداتها ومركباتها فيما كان يشبه استعراضًا للقوة العسكرية بوجه المجلس الرئاسي وميليشيات العاصمة، وهددت بعض الميليشيات كـ “الكتيبة 166” بالخروج عن قرارات المجلس الرئاسي، إذا تم تحييد مواطنها “باشاغا” من حقيبة الداخلية.
بين الهدنة والتصعيد .. بدائل القوى المتصارعة
تستنزف الصراعات -سياسية وميدانية- القائمة بين قوى المنطقة الغربية رصيدها لدى الشارع الليبي والمجتمع الدولي، وتؤكد أن الرعاية التركية لتلك الأطراف غير المنضبطة تجربة محكومة بالفشل، وتتمحور مسارات تطور حالة التنافس في نطاق طرابلس ومحيطها حول ثلاثة خيارات وهي:
1- اندلاع مواجهات شاملة: يرتبط هذا المسار بوقوع مواجهات وصدامات تعيد غرب ليبيا إلى ما قبل الصخيرات، حيث يسعى “السراج” لإقصاء رجالات مصراته والإخوان المسلمين من الوزارات السيادية والمؤسسات الهامة، فيما سيضغط “المشري” عبر بوابة مجلس الدولة وسلطته القادرة على تعطيل قرارات الرئاسي، ورغم تصريحات “السراج” حول الاتجاه نحو تعديل وزاري ووقف “باشاغا” عن مهامه وإحالته للتحقيق، وتفويض صلاح الدين النمروش بحقيبة الدفاع، إلى جانب ما تواتر عن سحب مفوضية مكافحة الفساد من أيدي “الصديق الكبير” محافظ المصرف المركزي، فإن هذا المسار غير مُرجح بدرجة كبيرة؛ كونه يأخذ قوى المنطقة الغربية لمعارك تكسير عظام ستضعف قدراتها، وستفقد شرعيتها المأزومة بدرجة أو بأخرى، كما أن انتهاء حالة التنافس وحسمها لصالح أحد الأطراف يؤثر على المصالح التركية بشكل كبير، وستظهر النموذج الذي ترعاه في غرب ليبيا على هيئته الميليشياوية الحقيقية، بل وستتصاعد احتمالات خروج الأمور عن النسق الذي تريده أنقرة إذا ما انتصر طرف لم ير أنها كانت تدعمه بشكل كاف.
2- العودة إلى التنافس غير المعلن: يُعد نموذج الصراع الكامن حتى اكتمال الأرضية الملائمة لدعم طرف للانفراد بالمشهد وفقًا للنسق المحدد له سلفًا أحد منظورات التعاطي التركي الحالي مع الأطراف المتنافسة في غرب ليبيا، وحيث يؤجل هذا النموذج من التفاعل المواجهات -المقبلة لا محالة- فإن هذا المسار هو الذي تسعى القوى بالمنطقة الغربية لتحقيقه، مع استمرار كل منها في تعطيل خطى الطرف الاخر للتمدد واكتساب التأييد، واستكمالها لهيكلة حشد مضاد يسهل من مساعيها للهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة، وتظل احتمالات تطبيق هذا المسار مُرجحة وبقوة، كونها ستعطي مساحة للتعاطي مع الحراك والاحتجاجات الشعبية، ويمكن أن ينتج عنها خضوع أحد الأطراف للأخر عبر الضغوط الخارجية أو تأزم المواقف السياسية والميليشياوية ضده، وقد كشفت بعض التقارير عن وجود بعض المساعي التركية لتقريب وجهات النظر بين تلك الأطراف، والتي لاقت قبولًا، وأن “السراج” و”باشاغا” بصدد الاجتماع قبيل التحقيق المقرر معه؛ لتنسيق التوترات المتصاعدة بينهما، والعمل على إيجاد أرضية مشتركة للتحرك خلال الفترة القادمة.
3- تسوية قضايا الصراع: يذهب هذا المسار لوجود روابط مصلحية ونفعية واسعة بين الأطراف المتصارعة بالغرب الليبي، وأنهم قادرون على صيغة ثوابت جديدة لعلاقاتهم وتوظيف كل منهم للأخر للوصول إليها، وأنها نجحت فيما سبق بتعطيل جهود الجيش الوطني في تحرير العاصمة، وأنها حققت لأشخاصهم مكاسب وامتيازات لم تكن لتتحقق لأي منهم بشكل فردي. ويظل هذا المسار غير مُرجح على الاطلاق؛ لاعتبارات تتعلق بطبيعة المكون الليبي القائم على الجهوية، وكون الميليشيات الطرابلسية لن تقبل بأي مسمى لحلها واستمرار سيطرة قيادات مصراته على المشهد والترتيبات الأمنية في مناطقهم، بالإضافة إلى الدور الذي ترى جماعة الإخوان وراعيتها العثمانية أن “السراج” أصبح حليفًا غير مأمون الجانب، بعد بيانه لوقف إطلاق النار الذي مثل تقاربًا لرؤية مضادة لتحركاتها، وارتباطه بميليشيات طرابلس التي أعلنت في عدة مناسبات رفضها لتحركات الاخوان وللتدخلات التركية.
ومما سبق، يمكن القول إن صراع السيطرة الميدانية والنفوذ السياسي بالغرب الليبي لن يسهل على أحد الأطراف حسمه دون الإطاحة بالطرف الاخر، وأن ذلك سيعمق من الانتقادات الدولية لسلوكيات تلك القوى، بالإضافة إلى تعطيل وتهديد المصالح التركية، فضلًا عن فتح مساحات لتحول بعض القوى والمدن المتضررة للاتجاه نحو التحالف مع قوى الشرق، ورغم مساعي “فايز السراج” و”فتحي باشاغا” و”خالد المشري” لتوظيف حراك 23 أغسطس ضد بعضهم البعض، إلا أنهم -وتركيا بالتبعية- يعلمون جيدًا أن نيران الاحتجاج إذا ما خرجت عن السيطرة قد تلحق بهم جميعًا، لذا فمن المُرجح أن تلعب أنقرة دورًا كبيرًا لخفض التوترات والوصول لتسوية، لا يشترط أن تكون شاملة بقدر كونها مهدئة للمواجهات المُحتملة بالوقت الحالي، وبعد احتواء التظاهرات سيجري إعادة تقييم لتلك الأطراف تمهيدًا لتصعيد أحداها على الباقين، بما يضمن نفاذ تركيا واستقرار مصالحها في ليبيا.