
منذ أن بدأت موجات ما يُسمي بـ “الربيع العربي” أواخر العام 2010، انتهي على ما يبدو طور السياسة الناعمة التركية في دوائر محيطها العربي والإسلامي والأوروبي، وانتقلت تركيا لمرحلة الاشتباك المباشر مع الجغرافيا السياسية حولها جراء تبنيها مشروعًا أمميًا توسعيًا يقوم على توظيف مختلف أدوات الإسلام السياسي بنسخته السنية، مستندًا على إرث الدولة العثمانية البائدة. ما دفع أنقرة بالاصطدام مع محيطها والانتقال من مستوي “صفر مشاكل” قبيل العام 2010، لمستوي عالٍ من التوترات مع غالبية دول جوارها، أحالت بعضه دون اكتمال شراكات استراتيجية وعمّقت الأخرى الخلافات التاريخية المتجذرة مع تركيا.
وكان الشرق الأوسط ومسارحه البحرية ومنطقتا شمال إفريقيا والساحل والصحراء ميادين مبارزة استراتيجية واسعة النطاق بين تركيا والعديد من الفواعل الدولية العربية والغربية، حيث باتت المواجهة بين مشروع “الأممية” و”الدولة الوطنية”.
وفي هذا السياق وفّر المرصد المصري وفريقه البحثي جهوداً صحافية وأكاديمية لرصد وتحليل وقائع تلك المبارزات الاستراتيجية ومآلات الاصطدام التركي العنيف مع الجغرافيا السياسية، إذ خلصت الجهود البحثية لتفنيد مرتكزات السياسة الخارجية التركية لفهم ذهنية صانع القرار في أنقرة، فكانت أبرز تلك المرتكزات: “بروز تركيا كقوة إقليمية ذات تأثير عالمي”. إي أن تأثيرات النشاطات التركية التوسعية لا تنحصر فقط بالمنطقة الشرق أوسطية، بل تطال المناطق البعيدة عن العواصم العربية والأوروبية عبر أذرع جديدة ومختلفة تمامًا كما طالت أذرع الاستخبارات التركية ساحات العواصم الأوروبية للتجسس وخطف المعارضين.
من هذه التأثيرات العالمية لوقع التحركات التركية والمشروع الأممي التوسعي، حلت الهند هذه المرة في الواجهة. حيث تحدثت تقارير استخباراتية حصلت عليها عدة وكالات محلية ودولية عن تعاظم نشاط أنقرة في الساحة الهندية، وهو نشاط ابتعد عن الشكل الإنمائي ومساعدات الإغاثة المعهودة لأنماط وأشكال التغلغل التركي، وذهب مباشرةً لمحاولة “تطويع” الكتلة المسلمة في الهند، وإشباعها بأفكار متطرفة تنحرف بها بعيدًا عن الهند كدولة، وتستقر بهذه الكتلة ضمن أدبيات المشروع الأممي التركي الذي يقوم بالأساس على هدم الدولة الوطنية مفهوماً وعملياً.
حيث أشار تقرير صادر عن صحيفة “هندوستان تايمز”، باتهام وكالة الاستخبارات الهندية لتركيا وسفارتها في نيودلهي بإقامة تحالفات وشراكات مع منظمات غير حكومية تعمل على انتقاء نشطاء هنود ودمجهم في الأجندة التركية وتسفيرهم لتركيا وتشجيعهم للتحدث ضد الهند وحكومتها.
وتابعت الصحيفة التي اطلعت على وثيقة الاستخبارات الهندية، بأن تركيا تعمل ضد الهند من خلال تجنيد الكثير من مسلمي الهند للعمل ضد مصالح الدولة. كما حدد التقييم الاستخباري أفرادًا وجماعات يشتبه بعضهم بالاتصال مع الاستخبارات الباكستانية، الذين تم استدراجهم للعمل مع كيانات في تركيا لها صلات قوية بنظام الرئيس أردوغان.
قضية كشمير.. بوابة التجنيد
مركز “نورديك مونيتور” المعني بدراسة الإرهاب والاستخبارات، تناول الانخراط التركي داخل الهند، وأشار لتقرير وتقييم الاستخبارات الهندية الشهر الماضي الذي أدان الحكومة التركية بمحاولة ترسيخ التطرف والأصولية في الكتلة الهندية المسلمة، عن طريق منظمات تركية غير ربحية على صلات وثيقة بأفراد من عائلة الرئيس التركي.
دخلت تركيا على خط النزاع المحتدم بين الهند وباكستان على إقليم كشمير، وقدمت أنقرة الدعم للأخيرة دبلوماسيًا وحتى في محافل الأمم المتحدة. إذ انتهجت خطابًا شعبويًا يؤجج الصراع ويثير مشاعر المسلمين في الإقليم المتنازع عليه. فمثلاً انتقدت الخارجية التركية الأربعاء الماضي الوضع الجديد لولاية كشمير في الدستور الهندي.
وتقول الصحيفة الهندية إن بيان الخارجية التركية جاء بالتنسيق مع رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان وحكومته، ونوهت الصحيفة بأن حكومة الرئيس التركي لم تشر لخريطة باكستان الجديدة التي صدرت قبل ساعات من البيان، وقد ضمت أراضٍ تقع ضمن السيادة الهندية. في إشارة واضحة للدعم السياسي بين أنقرة وإسلام آباد.
يُذكر أن الرئيس التركي قد زار باكستان فبراير الماضي، وقال في جلسة مشتركة أمام البرلمان، أن كشمير تعني لتركيا بالضبط ما كانت تعنيه لباكستان على مر السنين، وأكد أن بلاده ستواصل دعم باكستان والوقوف معها في وجه الضغوط السياسية التي تتعرض لها، وقال: “لن ننسى تقاسمهم رغيف الخبز معنا في حرب استقلالنا”.
الاستخبارات الهندية قدمت تقريرًا ثانيًا الأسبوع الماضي، وسلمته لمسؤولي ومخططي الأمني القومي في البلاد حسبما أعلنت الصحيفة الهندية. واشتمل التقرير على قائمة من الجهات والمنظمات غير الحكومية التي تحتفظ بصلات خفية وثيقة بالحكومة التركية وأفراد من عائلة الرئيس أردوغان. وأوضح تقرير الاستخبارات الهندية أن الاختراق التركي حقق نجاحات أعمق في الهند مما تم تقييمه سابقًا. كما يتم توجيه الكثير من هذا الجهد عبر ثلاثة قطاعات: وسائل الإعلام الحكومية التركية، والمعاهد التعليمية والقطاع غير الربحي، أو المنظمات غير الحكومية.
وعلى وجه الخصوص، ذكر التقرير المنظمات التي بدأت في تسريع ما وصفه بـ “المنح الدراسية المربحة” للهنود للدراسة في تركيا. وقال إن قائمة الجماعات التي ترعى المنح طويلة. وهي تشمل مؤسسة الشباب التركي (TUGVA)، ورئاسة الأتراك في الخارج والمجتمعات ذات الصلة ((YTB، والخطوط الجوية التركية، ومعهد يونوس إمري ((YEI، ومؤسسة ديانت التركية ((TDF، ووكالة التعاون والتنسيق التركية ((TIKA. وصرح مسؤول هندي مختص بمكافحة الإرهاب بأن هذه المنظمات لديها قنوات اتصال مباشرة مع الحكومة التركية وأفراد عائلة الرئيس أردوغان.
وقال تقرير الاستخبارات الهندية إن TUGVA، التي تعمل تحت رعاية نجل الرئيس أردوغان، “بلال” طورت روابط قوية داخل الهند من خلال إقامة علاقات مع الجماعات الإسلامية في الهند بما في ذلك الجناح الطلابي للجماعة الإسلامية الإسلامية (SIO). حيث باتت أنقرة تستضيف الطلاب الهنود المسلمين وتعمل على تسليمهم لعملاء باكستانيين يتولون إعدادهم لتصدير خطاب عدائي تجاه الحكومة الهندية.
وبعيدًا عن تقرير وتقييم الاستخبارات الهندية الذي أصدر عدة تحذيرات من توغل “المخلب” التركي في العمق وتأليبه لمسلمي الهند، يذهب نورديك مونيتور بالإشارة إلى أنشطة السفارة التركية في الهند التي تقوم بالتجسس على ممثلي مؤسسة Indialogue، التي تجمع أعضاء من ديانات وثقافات مختلفة وتنظم المهرجان الدولي للغة والثقافة في البلاد؛ وتتجسس أيضًا على مديري غرف التجارة والصناعة التركية الهندية؛ وعلى المعلمين ورجال الأعمال البارزين الذين يعيشون في البلاد منذ أكثر من 20 عامًا.
وبدأ مكتب المدعي العام في أنقرة تحقيقًا منفصلًا (ملف رقم 2018/230240) مع 12 مواطنًا تركيًا في الهند تم إدراجهم في ملفات التجسس التي أرسلها دبلوماسيون أتراك في نيودلهي دون أي دليل ملموس على ارتكاب مخالفات. استند التحقيق إلى ملفات التجسس المحفوظة في السفارة التركية في نيودلهي في عامي 2016 و2018.



