ليبيا

حراك 23أغسطس.. لماذا يتظاهر الليبيون في المنطقة الغربية؟

خرج مواطنو مدن الغرب الليبي في lظاهرات مستمرة عُرفت بـ “حراك 23 أغسطس”، وتعالت أصوات المتظاهرين بالشعارات الرافضة لسوء الإدارة وقصور أداء حكومة الوفاق الوطني والمجلس الأعلى للدولة، وتُعدُّ تلك المظاهرات تعبيرًا وكشفًا واضحًا عن تراجع قدرات المؤسسات المسيطرة على الغرب الليبي، وبداية مسارات التمزق والتشطي من جديد، ما قد يعيد إنتاج دورات الصراع الميليشياوية في طرابلس والمدن المجاورة. وتأكد ذلك مع تحول التنافس والصراع الضمني بين القوى السياسية والعسكرية إلى سياق أكثر انكشافًا، فهناك من أراد استثمارها لتمرير التعديل الوزاري التي حالت الضغوط التركية وتوازنات القوى دون تحقيقه، فيما ذهب جناح آخر إلى توظيف تلك المظاهرات لتأجيج المواجهات ضد مليشيات الوفاق ورئيسها “فائز السراج”، واعتبره البعض إحدى مراحل انقلاب كان يجري الإعداد له. ويركز هذا التقرير على دوافع “حراك 23 أغسطس” وخروج الليبيين للتظاهر في المنطقة الغربية.

قصور مستمر وآداء متراجع

تطورت حالة الرفض الشعبي بمناطق الغرب بشكل متصاعد لنمط الإدارة السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، ولم تتوقف مظاهر الاعتراض والتنديد بقصور أداء حكومة الوفاق، والمؤسسات والهيئات والشركات التي يسيطر عليها رجالاتها، وإن انخفضت تلك الاعتراضات بعد قمعها بالقوة، كما حدث في مجزرة غرور أو خلال فترة معارك طرابلس. ويمكن إجمال الدوافع الأساسية لحراك الشارع الليبي في عدد من النقاط، وأبرزها:

  • أزمة السيولة: تعاني الدولة الليبية، ومدن الغرب الليبي بصورة خاصة، من أزمة مالية شديدة تتعلق بعدم قدرة المصرف المركزي على توفير النقد وإدارة السياسات المالية بشكل أمثل، ما قاد إلى تأخير وانقطاع الرواتب والمخصصات المالية، وغياب أية دلالات لتجاوز هذه المعضلة في وقت قريب. رغم استمرار حكومة الوفاق بتدبير مبالغ طائلة لصالح مخصصات المليشيات، وتقاضي المرتزقة الأجانب رواتبهم بالعملات الصعبة، وتقديمها بشكل متواصل لودائع صفرية العائد إلى أنقرة -بلغت 12مليار دولار- لدعم تراجع اقتصادها والانهيار المتواصل لليرة التركية.
  • أزمة الكهرباء: تقبع المنطقة الغربية في حالة من الإظلام المتكرر لفترات طويلة، تراوحت مدته في بعض المناطق من 10 إلى 20 ساعة انقطاع. ويشهد قطاع الكهرباء تراجعًا متواصلًا وعدم قدرة على تلبية الضغوط على الشبكة، والتي يبلغ متوسط طاقتها الإنتاجية 5000 كيلو وات، فيما يتجاوز الضغط في أوقات الذروة 7000 كيلو وات. ورغم أن حجم العجز المقدر بـ(2000ك.و) يمكن توزيعه بطرح الأحمال بين مدن المنطقة، إلا أن مليشيات بعض المدن تتدخل بشكل فج وتجبر العاملين على إعادة التيار لمناطقها ما يسبب إظلام لفترات أطول بالعاصمة، وانقطاع التيار بصور متفاوتة بين مدن بالغرب والجنوب ما أدى إلى حالة من الاحتقان والغليان ضد مثل هذه الممارسات. أضف إلى ذلك تفسير تلك الانقطاعات كونها تمثل مدخلًا لتبرير المخصصات المالية التي يتم اعتمادها لأنقرة، في ضوء دخول العديد من الشركات التركية للاستثمار بقطاع الكهرباء بأثمان مبالغ فيها. وهو ما لا ينفصل عن غياب المؤسسات الأمنية الفاعلة التي تستطيع التصدي لعمليات نهب وسلب المحطات والكابلات الرئيسية، وقد أشار تقرير للشركة العامة للكهرباء إلى أن سرقات الشبكات تجاوزت (550.000) مترًا خلال شهرين، ما يؤكد أن الحالة الأمنية في الغرب الليبي تشهد سيولةً وعدم استقرار كبيرين.
  • الانفلات الأمني: أدى تراجع قدرة السلطات الأمنية بالعاصمة والمدن المحيطة إلى فقدان الثقة بالسلطات، التي داومت على تصدير أنها قادرة على التحكم في المشهد واستنزفت في سبيل ذلك أموالًا طائلة، وشهدت طرابلس عودة الاقتتال بين المجموعات المسلحة كما حدث في مناطق “الظهرة وزاوية الدهماني” بين ميليشيا الردع وميليشيا ثوار طرابلس. كما دارت اشتباكات بحي الجعافرة في منطقة جنزور، بعد نشوب قتال بين مليشيا “فرسان جنزور” ومليشيا “محمد فكار”، والتي سقط على أثرها العديد من القتلى والجرحى. بالإضافة إلى تصفية مليشيا الردع لأحد قيادات سرايا الدفاع عن بنغازي “فرج شكو” على خلفية تخطيطه لتصفية قيادات بميليشيا الردع، ومهاجمة ميليشيات مصراته نظيرتها من الزاوية؛ بعد خلافهما على حصص بيع المحروقات بالسوق السوداء في مدينة الزاوية. وهي حالة من الانفلات والتراجع أدت إلى استشعار المواطنين بالخطر وعدم وجود محددات واضحة لضبط سلوك المجموعات المسلحة والمليشيات ووقف خروقاتها وتجاوزاتها، بل ومعاودة بعضها لممارسة أنشطة الخطف وتجارة النفط المهرب وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، ما يقوض أية فرص لاستقرار المنطقة الغربية.
  • صراع الأجنحة السياسية: أدرك سكان الغرب الليبي أن أزماتهم ستتجه إلى مزيد من التعقيد مع استمرار سيطرة كيانات وأشخاص بعينهم على مفاصل الدولة، فالسراج يستشعر أن تركيا لديها مرحلة جديدة في مشروعها لا يضعه في الترتيبات القادمة، كما يتزايد تغول تنظيم الإخوان المسلمين في أركان ومؤسسات البلاد دعمًا للمجلس الأعلى للدولة، بالإضافة إلى قدرات مدينة مصراته وسيطرة رجالاتها على المؤسسات والوزارات الكبرى. وهي عوامل دفعته للاتجاه نحو إدخال تعديل وزاري على حكومته، ترجح التقديرات أن يقود لتمكين عناصر موالية له بالوفاق، بما يمكنه من الوقوف بوجه نفوذ المدن الأخرى. كما بدت موافقة السراج على وقف إطلاق النار واعتبار (سرت-الجفرة) منطقة منزوعة السلاح، خروجًا عن النسق التركي وتقاربًا -بشكل من الأشكال- مع الفاعلين بالأزمة على الجانب المضاد لسلوكها. 
  • انتهاكات وصراع المليشيات: ترتبط جوانب الصراع السياسي بصراع موازٍ أكثر تعقيدًا، ألا وهو الصراع على السيطرة الميدانية، فوجد مواطنو طرابلس وجوارها تحول مدنهم إلى مناطق نفوذ وسيطرة موزعه فيما بين المليشيات والمجموعات المسلحة. ولكن الإشكالية هنا هي أن الصراع والاحتكاك أصبح يشكل خطورة على أمنهم وممتلكاتهم، لاسيما مع حالة الاستقطاب الجارية بين مجموعات طرابلسية مؤيده لرئيس الرئاسي “السراج” وأخرى تابعة لوزارة الداخلية ووزيرها المصراتي “فتحي باشاغا”، وسعي المجموعات الطرابلسية لطرد مليشيات المدن الأخرى من العاصمة بعد زوال خطر الجيش الوطني، واستشعارها وجود تخطيط ما للإطاحة بها وإنهاء وجودها. وقد تعززت تلك الخلافات مع الإعلان عن تشكيل الحرس الوطني والقوة المشتركة، إذ تولى “باشاغا” إدارة ملف تفكيك المليشيات، وبدأ بالفعل في تهميش قيادات مليشيات طرابلس وتمكين وضم مليشيات مصراته وإلحاقها بوزارته.
  • الوصمة المتعلقة باستجلاب العناصر الأجنبية: يعلم سكان المنطقة الغربية أن تحرك حكومة الوفاق ومجلس الدولة لجلب المرتزقة السوريين والعسكريين الأتراك هي وصمة لن تمحى بمرور الوقت، وأن من على رؤوس تلك الكيانات قد أدخلوا ليبيا في منزلق خطير سيكلفها ثمنًا باهظًا. ومع عودة الجيش وتمركزه شرق ووسط وجنوب البلاد، وتفرغ المرتزقة الأجانب من عمليات القتال، أصبح على مواطني المنطقة التعامل مع مستعمر جديد ينتهك أمنه وحرماته ويستبيح ويقوض حياة الآمنين. ومع كشف تقارير حول وجود مخططات لتوطين هؤلاء المرتزقة ومنحهم الجنسية والحاقهم بالأجهزة الأمنية، لا سيما جهاز الشرطة، بالإضافة إلى استمرار تركيا في اقتطاع القواعد العسكرية ونقل أصولها إليها، وتوقيعها لاتفاقيات تستنزف من خلالها ثروات الدولة الليبية، استشعر الليبيون أنه لا وقت للانتظار وإلا سيكون التقسيم والاستعمار هو مصير بلادهم. 

مما سبق، يمكن القول إن العديد من العوامل المتمايزة بين اقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية قد دفعت الليبيين في المنطقة الغربية للخروج مطالبين بإزالة الأجسام السياسية -المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة- التي فاقمت حالتها الصراعية وسياساتها القاصرة من أزمات المواطن في نطاق سيطرتها. وتجدر الإشارة إلى اتجاه الفاعلين بهذه المنطقة لاستثمار المظاهرات وتوجيهها للخروج بمساحات إضافية أو حفظ وجودهم، فالسراج يتجه لإجهاض الحراك في العاصمة عبر إخلاء الساحات، لاسيما بقرار فرض حظر التجول الكلي، وتمرير التعديل الوزاري الذي تعطل بفعل الضغوط التركية وتوازنات القوى مع حلفائه، إلى جانب تحييد أهم منافسيه ووزير داخليته “باشاغا” الذي قرر تعليق عمله وإحالته للتحقيق فيما نسب إليه من تصريحات. كما سعت الأطراف الأخرى المدعومة من تركيا للتأكيد على مسؤولية مليشيات طرابلس -الموالية للسراج- عن استخدام القوة ضد المتظاهرين، والتأكيد أن سياسات “السراج” وانفراده بقرارات المجلس هو مكمن التدهور الذي تشهده مناطق غرب ليبيا، واضعةً أرضية للإطاحة به في الترتيبات القادمة. وفي ضوء تلك التجاذبات والانقسامات المتصاعدة، يبدو أنها ستنعكس وتلقي بظلالها على المشهد السياسي والميداني في غرب ليبيا، وهو ما يؤكد أن الأيام القادمة ستشهد شيئًا ما قد يحدث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى