مقالات رأي

داليا يسري تكتب: موسيقى الكيان المصري.. عندما يمتزج التاريخ والجغرافيا والسياسة تحت لواء الفن

في منتصف جَمع –غير مصري- عندما يُصر مواطن مصري على القول إنه حضر من بلاد شديدة التميز و الخصوصية، ويؤكد أن بلاده تستحق بالطبع وعن جدارة أن يُطلق عليها لفظة “أم الدنيا”. قد يظن الحضور أن سبب هذا الإصرار أو هذا الفخر يقتصر فقط على الإرث الذي أُلقى على بطاقة كل مصري بحكم ولادته وانحداره من سلالة فرعونية كانت هي أول من عرف الحضارة في العالم. وقد يظن آخرون، أن السبب هو الموقع الجغرافي المميز فحسب، أو حتى قناة السويس وما قدمته مصر من خلالها الى العالم. فيما قد يذهب آخرون للتفكير في الجوانب الدينية ووجود الأزهر والكنيسة الارثوذكسية في مصر وتأثيرات ما يملكه امتداد كلاً منهم على مستوى النفوذ الديني حول العالم.

إلا أن التفسير الحقيقي وراء هذا الاستفهام، قد يكمن –بالإضافة الى مجموع ما سبق- في الشخصية الثقافية التي تُعد جزء لا يتجزأ من الكيان المصري. أو بمعنى أدق، إنها الهوية المصرية التي يمتزج فيها كل شيء مع بعضه البعض، الفن بالثقافة والأدب بالتاريخ والحضارة القديمة بالحضارة الناشئة وما الى آخره. وفي الحقيقة، قد تكون مسألة الهوية المصرية ومدى تعقيدها وتركيبها تبدو كما لو كأنها أمرًا في غاية الغموض أمام غير المصريون. إنها تركيبة ببساطة يصعب الوصول الى شرح وافي يؤهل أي طرف أن يحقق لنفسه ذات المعادلة.

لكنها في الوقت نفسه ليست أمرًا خفيًا عصي على عيون ومسامع المتابعون. إن الهوية المصرية أمرًا قد تفصح لك الموسيقى –على سبيل المثال- عن جانب ليس باليسير أبدًا منه. الحديث هنا يدور حول الموسيقى الصافية الخالية من أي كلمات، التي بمقدورها أن تستحث النفس وتثير ما بها من شجون أو أفراح، ولكن مع ذلك تجدها وبكل براعة تفتح أمام عينيك صفحات متتالية من الخيال الواسع الممزوج بروح مصرية اصيلة تعرف ماضيها القريب عن يقين، وتحفظ ماضيها البعيد عن ظهر قلب، وترى بوضوح كيف يمتزج الماضي بالحاضر، وكيف يتداخل مجموعهم مع المستقبل في هذه البقعة الجغرافية المميزة افريقيا وعالميًا في نفس الوقت.

حقيقة الأمر إن مصر بلد ليس ينقصها الفخر بالتاريخ ولا بالموقع الجغرافي، ولا ينقصها كذلك الفخر بحصيلتها الزاخرة من الآثار الفرعونية والإسلامية والقبطية والرومانية، تلك التي ما إن ضُرِبت الأقدام الأرض في أي بقعة من بقاع المحروسة إلا وكشفت لك عن المزيد منها. لكن الأرجح أن ما ينقصنا حقيقة هو المزيد والمزيد من الفخر بما نملكه من مكتبة موسيقية زاخرة تحتوي على أسماء مثل “الموسيقار ياسر عبد الرحمن، والموسيقار عمار الشريعي، وأخيرًا وليس آخرًا الموسيقار عُمر خيرت”. وهذه الأسماء بالطبع تعود لثلاثة موسيقيون مصريون حفروا أسمائهم في ذاكرة وجدان وصميم الوعي المصري.

الفضل يعود الى هؤلاء الموسيقيون ليس لمجرد روعة ألحانهم فحسب، لكن بفعل موهبتهم وقدرتهم على ايقاظ الروح والذاكرة المصرية وتنشيط حس الوطنية بمجرد الاستماع الى الحانهم. إذ أنه لا يوجد مواطن مصري لا يمكنه إذا استمع الى مقطوعة “دموع في عيون وقحة” للموسيقار عمار الشريعي، ألا يستعرض في مخيلته تفاصيل قصة الجاسوس المصري البطل أحمد الهوان، الذي عُرف على نطاق واسع باسم جمعة الشوان. وكانت المخابرات المصرية قد جندته على داخل دوائر صنع القرار في إسرائيل، واستطاع خلال مهمته انشاء علاقات صداقة مع كبار رجالات إسرائيل مثل شيمون بيريز ووايزمان. واستقدم لمصر أحدث أجهزة الاستخبارات في العالم.

كما يأخذنا الحديث إلى مقطوعة، “حرس سلاح” للموسيقار ياسر عبد الرحمن، التي ولسبب ما تُنعش في الأذهان ذكريات مذبحة بحر البقر الدموية، التي ارتكبتها القوات الجوية الإسرائيلية في صبيحة الثامن من ابريل عام 1970، عندما قصفت طائراتها مدرسة بحر البقر المشتركة في قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية في مصر. وأسفر الهجوم عن مقتل 30 طفل وإصابة 50 آخرون وتدمير مبنى المدرسة تمامًا. 

ولا ننسى كذلك في ظل هذا الاسترسال العميق من شلال الذكريات الوطنية، الذي يُعد نتاج تفاعلنا مع هذه الألحان البديعة، أن نذكر مقطوعة “بانوراما 6 أكتوبر” للموسيقار عمر خيرت، وتلك بمجرد أن يبدأ المرء في الاستماع الى اللحظات الأولى منها، لا يقدر ذهنه عن مفارقة اللقطات والمشاهد الحية التي وصلت إلينا من حرب 6 أكتوبر المجيدة. تلك الحرب التي تمتزج ذكراها في نفوسنا فيما بين مشاعر النصر العظيمة، وذكريات شهداء الحرب ولقطات وداع كل من بذلوا أرواحهم حتى يتحرر كل شبر من أراضي الوطن من تحت قبضة المُعتدي الغاشم.

وهناك مقطوعات موسيقية أخرى كثيرة، تتفاوت فيما بين موسيقى “ناصر 67” وموسيقى فيلم “أنور السادات” لياسر عبد الرحمن، وموسيقى “إعدام ميت” لعمر خيرت، وإجمالي اسهامات هذان الموسيقيان جنبًا الى جنب مع كل ما قدمه الراحل عمار الشريعي للمكتبة الموسيقية العربية ككل وليست فقط المصرية. وهؤلاء نرى أنه من الجدارة أن يتم توحيد إجمالي أعمالهم المُشرفة تحت عنوان واحد وعبارة واحدة، على غرار “موسيقى الكيان المصري.. أعرف وطنك ولا تنسى اعداءك”.

كما أنه إذا أتيحت لنا الفرصة أن نتحدث اليوم عن مصر باعتبارها بلدَ ثرية، فإنه من العدالة القول إن الثراء المصري يختلف عما عاداه من توصيف لكلمة الثراء داخل الخارطة الجغرافية أو البنكية للدول. إذ أن الثراء المصري –غير- إنها الدولة الوحيدة التي يتحدث عنها كل شيء، وكأن تحكي عنها السماء وتقص اساطيرها الأرض، وتشرح انتصاراتها الموسيقى.

 إن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك هذا التراث الموسيقي الحي المتحرك النابض. وإذا كان التميز المصري يُفرد له التاريخ صفحات، وإذا كانت اللهجة المصرية هي معشوقة كل العرب، فإنه من الأدق أيضًا أن نقول إن بلادنا تمتلك –لغة موسيقية- متفردة تشرح تفاصيل تداخلات الجغرافية بالسياسة والتاريخ بصدق وبشكل غير مسبوق. وأن هذه اللغة الموسيقية سوف تظل دائما موجودة وحاضرة طالما أن انتصارات الكيان المصري لازالت مستمرة على نفس منوالها.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى