أفريقيا

أنقرة ومقديشو.. مصالح متعددة وتأثير متنامٍ

لقد باتت أفريقيا مسرحًا وبيئة خصبة للتفاعل من جانب العديد من القوى الإقليمية، حيث شهدت السنوات الأخيرة تزاحمًا إقليميًا من جانب تركيا للتواجد داخل الأقاليم الأفريقية الكبرى، وخاصة منطقة القرن الأفريقي وعلى رأسها الصومال التي أنهكتها الجماعات المتطرفة وأوجدت مجالًا حيويًا للتحرك التركي داخلها، وذلك من أجل مد نفوذها داخل المناطق الجيوسياسية داخل تلك المناطق، مستخدمة آليات وأدوات متنوعة ما بين النافذة الاقتصادية وضخ المساعدات المالية والاستثمارية وكذا الأداة الصلبة المتمثلة في الأداة العسكرية عبر إقامة قواعد لتلك الدول داخل أفريقية وتشابك المصالح والآليات.

وإذا ما كانت استراتيجية تركيا خارجيًا تقوم على دعم جماعات الإسلام السياسي خاصة في المنطقة العربية والأفريقية بحثًا عن وهم الخلافة العثمانية، والتي أثبتت فشلها عقب التجارب المختلفة التي شهدتها كثير من الدول المنطقة إبان ما يُعرف باسم “الربيع العربي” وسقطت خلالها كافة الأنظمة ذات الإيديولوجية الإسلامية كما هو الحال في مصر وتونس، بات هناك منظور آخر تعتمد عليه السياسة التركية لتوطيد مكانتها خارجيًا تعتمد في الغزو الاقتصادي والثقافي علاوة على التشبيك العسكري سواء أكان على مستوى الجيوش النظامية أو حتى الفصائل والجماعات المسلحة، تحقيقًا للأغراض التركية، التي سنُلقي عليها الضوء في التالي.

دوافع متباينة وأهداف استراتيجية

لقد أظهرت استراتيجية أنقرة المعروفة باسم “الانفتاح على أفريقيا” والتي أُطلقت عام 2005، الأهداف المتعددة لها داخل القارة السمراء، ويعود الانخراط والتغلغل التركي المتنامي داخل الصومال لأسباب ودوافع عدة في الأهمية الاستراتيجية لتلك الدولة في أجندة السياسية التركية، ويمكن توضيح الأهداف في التالي:

  1. الانخراط المتزايد لتركيا داخل منطقة القرن الأفريقي يأتي مدفوعًا جزئيًا بالمنافسة مع الدول الخليجية الأخرى وعلى رأسها السعودية والإمارات.
  2. الرغبة التركية في تحقيق مبارزة استراتيجية أوسع تستهدف كسب النفوذ في الشرق الأوسط والبحر الأحمر وغربي المحيط الهندي.
  3. ترسيخ نفسها كدولة ذات نفوذ أفرو- أوراسي، علاوة على إيجاد سوق للتعاون التجاري التركي في ظل ما يشهده الاقتصادي من أزمة منذ النصف الثاني من عام 2019، لذا تعتبر الصومال الملعب الأكبر لتركيا في منطقة القرن الأفريقي.
  4. الرغبة في الاستحواذ على المصادر الطبيعية المختلفة التي تمتاز بها الصومال خاصة في ظل ما تمتاز به من موارد كما هو الحال بالنسبة للنفط والغاز الطبيعي واليورانيوم، خاصة وأن واردات الطاقة (الوقود والغاز) بلغت في عام 2019 نحو 41.1 مليار دولار أمريكي في ظل ما يعانيه الاقتصاد التركي وتراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، الأمر الذي يُمثل عبئًا اقتصاديًا كبيرًا.

وإذا ما نظرنا إلى الأهداف الاستراتيجية التي تطمح تركيا لتحقيقها على صعيد المستقبل المنظور وطويل الآمد نجد أنها تتمركز في النقاط التالية:

  • صُنع لوبي أفريقي: إن أحد الأهداف الاستراتيجية داخل العقيدة السياسية التركية يتجلى في صناعة لوبي خارجي داعمًا لها، انطلاقًا من الروابط الدينية بين الشعوب المسلمة داخل إطار القارة الأفريقية، خاصة في ظل رفض الاتحاد الأوروبي الطلب المتكرر لتركيا بالانضمام إليه، حيث سعت أنقرة إلى تحقيق تواجد وتعزيز حضورها الدبلوماسي والتجاري والعسكري أيضًا داخل تلك القارة وقد ارتفع نسبة التمثيل الدبلوماسي داخل القارة بموجب 42 سفارة حتى 2019، وكان من بين تلك الدول التي شهدت تقاربًا ملحوظًا على كافة الأصعدة الصومال حيث ترغب تركيا في جعل مقديشو قاعدة انطلاق للعب أدوار استراتيجية على النطاقين الإقليمي والدولي، وذلك للطبيعة الاستراتيجية التي تمتاز بها تلك الدولة.
  • تحقيق تقدم جيوسياسي في البحر الأحمر: إن التمدد التركي في العمق الأفريقي وتحديدًا منطقة القرن الأفريقي نابع من الرغبة في السيطرة على المنافذ البحرية الحيوية في موازنة التحرك المصري في شرق المتوسط خاصة بعدما وجدت أنقرة نفسها خارج معادلة منتدى شرق المتوسط، لذا عملت على التغلغل في الدول المتاخمة للبحر الأحمر ذلك النطاق الاستراتيجي من القارة، وذلك عبر البوابة السودانية من خلال جزيرة وميناء سواكن أو سعيها الراهن واتفاقها الأخير مع الصومال حول التنقيب عن البترول في المياه الإقليمية لمقديشو، واستغلال تواجدها السياسي والعسكري في الصومال للسيطرة على جزيرة “سقطرى” الواقعة جنوب اليمن عبر تدويل ذلك الملف، خاصة وأن الصومال تدعي أحقيتها في تلك الجزيرة  لوقوعها ضمن مياهها الإقليمية، وما تمتاز به تلك الجزيرة من أهمية استراتيجية خاصة وأنها تحتوي على ثروات طبيعية (البترول والغاز الطبيعي).   
  • تجنيد الجماعات المسلحة: إن المتتبع للتحرك التركي في القارة بصفة عامة يجد أنه يتمحور في أماكن تمركز الجماعات الإسلامية المتطرفة/ المُسلحة خاصة في إقليم شرق أفريقيا داخل في الصومال، ومنطقة القرن الأفريقي، ولعل ما تمتاز به الساحة الصومالية من تواجد فصيل مُسلح موازٍ للجيش النظامي والمعروفة باسم “حركة الشباب الصومالية” الأمر الذي كان هدفًا ووسيلة للانخراط الداخلي في الصومال، حيث تمددت العلاقات لتطول مجموعة من القيادات المتطرفة في الصومال وعلى رأسهم “عبدالقادر مؤمن” أحد عناصر حركة الشباب الصومالية وقائد تنظيم “ولاية الصومال” فرع تنظيم داعش الإرهابي في الصومال، حيث تلقى دعمًا ماديًا من تركيا وقطر تحت ستار مساعدات التنمية والإغاثة الإنسانية بلغ نحو 100 مليون دولار، وإذا ما كانت تركيا تمضي في سياساتها وفقًا لمصالحها المباشرة سواء أكان من خلال توظيف الجماعات المسلحة ونقلهم من ساحة إلى أخرى والمراهنة على تلك الجماعات في ساحات محددة، أو من خلال السيطرة على الجيوش النظامية الداخلية كما هو الحال بالنسبة للحالة الصومالية، وتعميق اختراق مؤسسات الدولة الضعيفة على حساب تفاعلها مع الجماعات السنية المتشددة، وهو ما صعّد من هجمات “حركة الشباب الصومالية” بحق المتعاقدين الأتراك في الصومال واستهداف القاعدة العسكرية التركية بالقرب من العاصمة الصومالية خلال الشهر الجاري.

تطويق الجيش الصومالي

إن إحدى الاستراتيجيات التي تتبعها تركيا استغلال الأزمات في داخل الدول الهشة وذلك لتعزيز مصالحها المختلفة، وتعد الصومال إحدى البيئات المناسبة للتغلغل التركي بحثًا عن مصالحها البحرية، وتحقيقًا لذلك فقد دفعت أنقرة بملف الجيش الصومالي كأحد الأوراق التي تستخدمها في تعزيز تواجدها في مقديشو، وذلك من خلال الانخراط المتنامي في تكوين وتدريب الجيش الصومالي وبالتالي التأثير على كافة مفاصله، وقد بدأ ذلك الامر عام 1993 حينما شاركت أنقرة ضمن قوات المهام المشتركة الدولية إلا أن الأمر تطور فيما بعد وتم إنشاء القاعدة العسكرية (Turksom)جنوب غرب العاصمة على ساحل المحيط الهندي والتي تعتبر الأكبر لتركيا خارجيًا والتي تم افتتاحها عام 2017، والتي تضم ثلاثة معسكرات للتدريب ومخاز الأسلحة ومباني للإقامة.

ولم يعد الأمر فقط قاصرًا على ذلك الحد، بل عملت أنقرة على تقديم البرامج التدريبية لقادة الجيش في أكاديميات عسكرية تركية، وهو ما عبر عنه سفير تركيا في الصومال “محمد تلماز” خلال لقائه بوكالة الأناضول التركية في مطلع شهر أغسطس الجاري، وتأتي عملية التدريب مدفوعة بالرغبة في نشر اللغة التركية وسط ضباط وجنود الجيش الملتحقين بالدورات العسكرية المختلفة بما يُعزز من فرص انتشار تلك الثقافة واللغة في أواسط القوات الأمنية والعسكرية الصومالية. 

وإضافة لما سبق فإن تركيا تستهدف في تعميق العلاقات العسكرية مع الصومال ومحيطها الإقليمي رغبة في الدفع بمبيعات السلاح التي تصنعها وغزو الأسواق الأفريقية، وما يساعد أنقرة في تحقيق ذلك الغرض هو انسحاب قوات بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال والتي تم تخفيض عددها بنحو ألفي جندي خلال عام 2019، مما ساهم في تحرك عرضي واختراق مستمر من جانب أنقرة للجيش والشرطة الصومالية.

التغلغل في الحياة العامة

لقد اقتنصت تركيا فرصة انشغال دول المنطقة بتبعات الربيع العربي الممتدة منذ عام 2011، وقامت بالتوغل في المجتمع الصومالي على كافة الأصعدة، وباتت هناك استراتيجية غزو ممنهج من جانب أنقرة للحياة العامة في الصومال، وانطلاقًا من وضعية الصومال في أجندة التحرك التركي فقد عينت تركيا مبعوثًا خاصًا للصومال في عام 2018 والتي تُعد الخطوة الأولى في السياسة الخارجية التركية.

لم تُعد الورقة الإنسانية من خلال المساعدات المباشرة التي تقدمها أنقرة، هي الوحيدة التي تستخدمها تركيا لتحقيق أهدافها داخليًا بل تجاوزت ذلك واستخدمت الورقة الدينية أيضًا عن طريق مدارس “وقف المعارف”  والمساجد والمؤسسات التعليمية المختلفة التي تخضع لإشراف أنقرة والتي ترمي إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية التركية على المدى الطويل حيث أسست معاهد ومراكز لتدريس اللغة التركية بالصومال، الأمر الذي يُعتبر في حد ذاته غزوًا ثقافيًا للصومال، غير أن تلك السياسات باتت تمتد إلى الحياة العامة بكافة قطاعاتها وذلك من خلال ما يُعرف باسم الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا”، والتي نفذت نحو 150 مشروعًا تنمويًا في مجالات البنية التحتية والزراعة والتعليم، بقيمة 60 مليون دولار، وذلك وفقًا لما ذكره منسق الوكالة في الصومال “غالب يلماز” خلال مقابلة مع وكالة الأناضول في الثلاثين من مارس للعام الجاري. 

واتصالًا بالسابق، ظهر مؤخرًا التركيز على الاستثمار في المجالات الحيوية منها على سبيل المثال المطارات والموانئ الرئيسية مثل تطوير مطار مقديشو وجزء من الميناء، فقد حصلت شركة “البيراك” على حق وتشغل وإدارة ميناء مقديشيو لمدة 20 عامًا علاوة على السماح لسفنها بالصيد في مياه الصومال الإقليمية، وكذا النظام الصحي عبر بناء المستشفيات التي تُشرف عليها كوادر طبية تركية كما هو الحال بالنسبة لمستشفي “مقديشو الصومالي التركي” التي تم افتتاحها عام 2015. 

تأثير متنامي

لقد رأينا حجم التدخل التركي في السياسة الداخلية الصومالية في كافة مناحي الحياة، ويُشكل هذا التواجد قوة تدخل خارجية وعبئًا ثقيلًا على الصومال من حيث إمكانية صياغة توجه سياسي خارجي مستقل لها تتوازن فيه بين مصالحها وأهدافها الخارجية بعيدًا عن الإملاءات التركية.

  • تحييد مقديشو في الأزمة الخليجية: جاءت أولى مؤشرات التأثير المتنامي وحالة السيطرة على دوائر صنع القرار في الصومال، في الأزمة الخليجة القطرية أو أزمة “الرباعي العربي” وقطر، على خلفية دعم الأخيرة للجماعات المسلحة والإرهاب، وفي ظل التقارب العربي والأفريقي مع كل من موقف (السعودية – الإمارات –البحرين – مصر) إلا أن مقديشو لم تكن سيدة قرارها وضغطت حينها تركيا عليها، الأمر الذي دفع الصومال لاتخاذ موقف مضطرب يتسم بالحيادية في تلك الأزمة.
  • دعم أنقرة في المحافل الإقليمية: ولعل أحد المؤشرات الأخرى على ذلك التأثير الممتد داخل الصومال، تجلى في اكتساب الصومال لصفها في المحافل الإقليمية والدولية، وقد تجلت في عدد من المواقف منها على سبيل المثال تحفظ الصومال على البيان الختامي للاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في جامعة الدول العربية المنعقد في الثاني عشر من أكتوبر لعام 2019 والذي أدان العدوان التركي على سوريا.
  • تجنيد القوات الصومالية: أحد المؤشرات الأخرى الدالة على حجم التأثير التركي على القرار الصومالي وتحديدًا في أروقة المؤسسة العسكرية، برز مؤخرًا في خضم الصراع الليبي، حيث تم تحريك قرابة 2000 من الصوماليين إلى ليبيا للقتال إلى جانب المليشيات التابعة لتركيا وحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، وذلك منذ مطلع العام الجاري.

مجمل القول؛ إن التواجد التركي في الصومال لم يعد قاصرًا فقط على النمط الإنساني والمساعدات، بل تجاوز هذا الدعم وانخرطت تركيا في مفاصل الدولة الصومالية في تشكيل الهياكل الحكومية وكذا التدريب والتأهيل للجيش الصومالي، فضلًا عن الاستغلال الواضح للثروات الطبيعية التي تمتاز بها الشواطئ الصومالية كما هو النفط والغاز داخل مياهها الإقليمية بالبحر الأحمر، وهو ما يُعزز من فرص توسعاتها الإقليمية خاصة في إطار منطقة البحر الأحمر، الأمر الذي يتطلب تحركًا عربيًا وأفريقيًا مضادًا لإعادة الصومال للحاضنة الأفريقية العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى