ليبيا

ثورة الغرب الليبي على حكم الميليشيات والمرتزقة

ربما لم يدر بخلد أشد المتشائمين حيال مستقبل ليبيا بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي أن يأتي يوم يعلو فيه مرة أخرى هتاف (الشعب يريد إسقاط النظام) في ميدان الشهداء وسط العاصمة الليبية طرابلس، لكن هذا بالفعل ما حدث خلال الأيام الماضية، حيث اندلعت تظاهرات حاشدة طالت معظم المدن الرئيسية في الغرب الليبي، ومنها العاصمة ومدن الزاوية وصبراتةومصراته. مسببات هذه التظاهرات، وأهدافها، والنتائج التي ستترتب عليها، ربما تشكل جوهر المشكلة القائمة حاليًا في غرب ليبيا.

تدهور الظروف المعيشية وتغول الميليشيات يطلق شرارة غضب الغرب الليبي

تراكمات عديدة تكثفت على مدار الأشهر الماضية في الغرب الليبي، وأدت إلى هذا التصاعد الملحوظ في الغضب الشعبي من الأداء الضعيف لحكومة الوفاق، التي فشلت منذ عام 2018، في تقديم نفسها للمواطن، كحكومة رشيدة تحافظ على الأمن، وتقدم الخدمات المطلوبة للقطاعات الشعبية في غرب ليبيا.

حكومة الوفاق عوضًا عن ذلك، دخلت في صراعات سياسية وأمنية داخلية، فتحت فيها الأبواب على مصراعيها للميليشيات بمختلف أنواعها كي تستقر في مواقعها الحالية، وتثبت أقدامها أكبر، وسط اللاعبين السياسيين والاقتصاديين والعسكريين في العاصمة وحولها، ثم انبرت هذه الحكومة، منذ أبريل 2019، في استدعاء قوى أجنبية، كي تحميها من السقوط الوشيك تحت قبضة الجيش الوطني الليبي، ومن ثم حين خرج هذا الأخير من حدود العاصمة طرابلس، سلمت الوفاق كافة مفاتيح العاصمة للأتراك، وللمرتزقة السوريين الذين جاءوا معهم، وتقدر أعدادهم حالياً بأكثر من ستة عشر ألف مرتزق.

يمكن حصر أسباب تصاعد الغضب الشعبي في الغرب الليبي في النقاط التالية، وهي للمفارقة نقاط يؤدي كل منها للأخر:

  • تدهور الأوضاع المعيشية: في بلد يعد من أهم البلدان النفطية في الوطن العربي وجد أهالي الغرب الليبي أنفسهم مؤخرًا في طوابير طويلة تقف منتظرة وصول المحروقات إلى محطات الوقود من أجل التزود بها لتموين سياراتهم. تفاقمت هذه المعضلة أكثر بسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي في كافة أنحاء المنطقة الغربية، وبسبب هذا حاول أهالي الغرب التغلب على هذه المشكلة باللجوء إلى تشغيل مولدات خارجية خاصة بكل منطقة، فاصطدموا بمشكلة شح المحروقات اللازمة لتشغيل هذه المولدات.

يضاف إلى هذه المشاكل، نقص السيولة في البنوك، وهي مشكلة أثارت غضب أهالي العاصمة بشكل خاص، نظرًا لأنهم يشاهدون المرتزقة السوريين المتواجدين في العاصمة وجوارها وهم يتفاخرون بتسلم رواتبهم الشهرية بالعملة الصعبة، في وقت لا يتمكن فيه أهالي الغرب الليبي من سحب رواتبهم من البنوك، أو حتى سحب جزء من مدخراتهم المودعة في حساباتهم الشخصية، لهذا كان شعار (من حقنا نخلصوا بالدولار)، من ضمن أهم الشعارات التي تم رفعها في مظاهرات الغرب الليبي.

  • التدهور الأمني الملحوظ في الغرب الليبي، والذي أشار المرصد المصري له في مواد سابقة، يعد من أهم أسباب تصاعد الغضب الشعبي، فقد تراجع دور قوات إنفاذ القانون والقضاء في المنطقة الغربية، وأصبح السلاح هو الأداة الوحيدة التي يحتكم إليها الجميع من أجل بسط سيطرتهم ونفوذهم، وقد عزز وصول المرتزقة السوريين إلى العاصمة هذا الوضع بشكل أكبر، بعد أن رأى أهالي ترهونة ومدن أخرى هؤلاء المرتزقة يعيثون فسادًا في بيوتهم وأرزاقهم، ويتخذونها مقار لهم، ناهيك عن ترويجهم للمخدرات، واشتباكهم الدائم مع بعضهم البعض، ومع بعض الميليشيات الليبية. لهذا كان التخلص من حكم الميليشيات والمرتزقة من أهم المطالب التي تم رفعها في تظاهرات الغرب الليبي التي بدأت منذ أربعة أيام، في مدينة الزاوية غربي العاصمة.

الزاوية تطلق شرارة الاحتجاجات الشعبية

بداية الحراك الشعبي ضد حكم الميليشيات كانت في 20 أغسطس الجاري، وذلك في مدينة الزاوية غربي العاصمة التي تعد من المدن المحورية في الغرب الليبي. اللافت أن الاحتجاجات التي شهدتها المدينة منذ ذلك اليوم وحتى الآن، لم تكن فقط مقتصرة على التظاهرات الشعبية المطالبة بتحسين الأحوال المعيشية، بل تضمنت أيضًا في جوانب أخرى تظاهرات لأعداد من منتسبي الميليشيات الذين يطالبون بتلقي رواتبهم، أسوة بالمرتزقة السوريين.

هذا كان واضحًا من خلال بيان أصدرته ميليشيا (شهداء أبوصرة)، هي إحدى ميليشيات مدينة الزاوية، اتهمت فيه وزارة الداخلية في حكومة الوفاق بإطلاق النار على المتظاهرين في مدينة الزاوية، وانتقدت الوضع المالي الخاص الذي تم منحه للمرتزقة السوريين على حساب الميليشيات الليبية. وقد أصدرت ميليشيات من مدن أخرى، منها زوارة وصبراتة ورقدالين بيانات تتهم وزارة الداخلية في حكومة الوفاق، بتهم مماثلة.

الاحتجاجات الشعبية في الزاوية، طالت معظم مناطق المدينة، مثل جزيرة الريحانة وقمودة والسيدة زينب، بجانب مناطق عدة على الطريق الساحلي. وقد تصاعد الغضب بشكل أكبر، بعد تعرض هذه التظاهرات، لإطلاق النار المباشر، من جانب ميليشيات تتبع لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق، حيث أطلق عناصر يتبعون (السرية الأولى) النار على المتظاهرين في شارع جمال عبد الناصر وسط المدينة.

جدير بالذكر، أن القائد المباشر لهذه السرية، هو محمد سالم بحرون، الذي تم تعيينه مديراً لمباحث مدينة الزاوية الشهر الماضي، وقد سبق وأصدر النائب العام الليبي، قراراً بالتحقيق معه، على خلفية صلاته بتنظيم داعش الإرهابي، إبان سيطرته على مدينة سرت.

العاصمة ومدن الغرب الليبي تدخل على خط الاحتجاجات الشعبية

عقب أحداث الزاوية، تسارعت المظاهرات وامتدت لتشمل مدنًا عديدة في الغرب الليبي، على رأسها العاصمة طرابلس، التي شهدت أمس واليوم موجة كبيرة من المظاهرات، رفعت شعارات تناهض الفساد المستشري في حكومة الوفاق، وتطالب بإنهاء الامتيازات المالية الممنوحة للمرتزقة السوريين، وتوجيه هذه الأموال لخدمة الليبيين، ورفع مستوى معيشتهم.

مظاهرات العاصمة شملت معظم مناطقها، وعلى رأسها محيط مقر حكومة الوفاق الذي اعتلى المتظاهرون أسواره، وكذلك مناطق أخرى مثل حي الدريبي ومناطق المنصورة والسراج وقرجي، وشارع النصر، بجانب مظاهرة كبرى في ميدان الشهداء، رفع فيها المتظاهرون شعارات مثل (فلوسنا عن السوريين – فلوسنا عند الأتراك).

تدهورت الأوضاع بشكل أكبر، عقب استهداف عناصر سورية تابعة للميليشيات المنضوية تحت لواء ميليشيا الردع، التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الوفاق، النار بشكل مباشر على المتظاهرين في عدة مناطق، منها قبالة فندق المهاري في منطقة الظهرة وسط العاصمة، ومنطقة طريق الشط، التي تم فيها إطلاق النار بشكل مكثف على المتظاهرين، الذين حاولوا الوصول إلى قاعدة أبو ستة البحرية، للتظاهر أمامها.

عمليات إطلاق النار هذه، تمت تحت إشراف عدة ميليشيات ليبية، تحاول إنهاء هذا الحراك، الذي إن نجحت مقاصده سيكون بمثابة نهاية للمشروع الميليشياوي في العاصمة. لذلك شهدت العاصمة اليوم موجة واسعة من الاعتقالات طالت قادة الحراك الشعبي في العاصمة.

في ردود الفعل على هذه التطورات، انتقدت عدة أطراف محلية، تعرض المتظاهرين إلى إطلاق النار المباشر، وكذلك التبريرات التي ساقها وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، حول قيام (مندسين)، بإطلاق النار على المتظاهرين، علمًا بأن كافة التسجيلات المتاحة، تؤكد أن وحدات (نظامية) هي التي قامت بإطلاق النار على المتظاهرين.

البعثة الأممية في ليبيا، تناولت في بيان أصدرته اليوم، تطورات التظاهرات في العاصمة، وطالبت بالتحقيق في عمليات إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وهنا لابد من الإشارة إلى أن بيان البعثة، أكد أن من أطلق النار على المتظاهرين، هم (أفراد الأمن الموالين لحكومة الوفاق). كذلك أشار البيان إلى الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها العاصمة حاليًا.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى