
المعلومات المغلوطة والمنتشرة في قضية سد “النهضة”
قد تكون قضية السد الإثيوبي هي الأكثر حصولاً على الاهتمام الشعبي والسياسي والإعلامي في منطقة دول حوض النيل خلال العقد الفائت بأكمله. ويأتي هذا الاهتمام نتيجة لضخامة تأثيرها المستقبلي ومخاطر نتائجها, كما أن الأطراف المعنية بحلها هم الدول الأكبر بالمنطقة سواء اقتصادياً أو من حيث عدد السكان ومن حيث حجم استغلال الموارد أيضاً.
ورغم تداول الحديث عن بناء السد منذ النصف الثاني من القرن العشرين, إلا أنه لم يدخل إطار التنفيذ إلا في أوائل عام 2011. ومن وقتها استمرت المفاوضات بين الجانب المصري والسوداني من جهة والجانب الإثيوبي من جهة أخرى حول ضمان الحصص المائية الكافية للجميع والحفاظ على حقوق الشعوب.
ومع الاهتمام الفائق بتداعيات الموضوع ومحاولات التوصل لحلول دبلوماسية عدة, برزت الشائعات والمعلومات المغلوطة المنتشرة حول السد. بل إن بعض هذه المعلومات الخاطئة أصبحت تستخدم في بعض الأحيان في وسائل الاعلام المحترفة من دول مختلفة، ليتعدى مجال انتشارها للعامة والمتخصصين على حد سواء. وساعد على ذلك عدم وجود ردود موضوعية على هذه المعلومات المغلوطة.
من أوائل المعلومات الخاطئة المنتشرة هو حصر المشكلة في سد النهضة. حيث أن المتعارف عليه أن المشكلة كلها تتعلق بقرار الدولة الإثيوبية ببناء سد النهضة أو سد الألفية كما كان يطلق عليه سابقاً. إلا أن ما لا يذكر في المحافل الإعلامية، هو أن سد النهضة مجرد سد واحد من مشروع مائي إثيوبي ضخم تتكون عناصره من حوالي 13 سدا، وليس سداً واحداً فقط.
وعلى الرغم من أن أشهرها وأكبرها على الإطلاق هو سد النهضة الإثيوبي, إلا أنه مجرد جزء وليس كل من هذا المشروع. إذ أن كل هذه السدود تدخل في معادلة التحكم بمصادر المياه وحصصها من النيل. كما أن المفاوضات الجارية حالياً بصدد سد النهضة خصوصاً ستؤثر في مجرى المفاوضات اللاحقة للسدود الأثيوبية الأخرى.

وكذلك من المعلومات كثيرة التداول والتي أصبح من الصعب إقناع الرأي العام بعدم صحتها، هي الاعتقاد السائد بأن وجود سد على مجرى أي نهر، كنهر النيل في هذه الحالة، يشكل كارثة وجودية لدول المصب. في حين أن وجود السدود في حد ذاتها له فوائد عدة، مثلما كان الوضع عندما قامت الدولة المصرية ببناء السد العالي، والذي لم ينتج عنه مشاكل ضخمة كتلك التي ممكن أن تنتج عن وجود سد النهضة. إذ أن خطورة أي سد على ما يليه من دول ومناطق، تكمن في كيفية إدارة هذا السد وليس وجوده من الأساس. أي أن المفاوضات التي تجري بين الدولة المصرية والسودانية مع أثيوبيا تدور حول خطط ملء الخزانات بالسدود الإثيوبية والتوقيتات الزمنية لها، وكذلك معدلات مرور تصرفات المياه، بما يضمن عدم المساس بالحقوق الأصيلة لسكان دول المصب ولا يضر من قدرتهم على القيام بأنشطتهم الزراعية والصناعية المطلوبة لاتمام تنمية مستدامة حقيقية لأوطانهم. علماً بأن ما أطال المفاوضات حتى الآن هو تضارب الرؤى بين الأطراف المتنازعة. حيث أن الرؤية الأثيوبية الحالية لكيفية إدارة السد تضر قطعاً بالمصالح المائية لدول المصب.
ويبدو أن حقيقة تضرر الحصص المائية لدول المصب في حالة استكمال السد بنفس المنظومة الإدارية، أدت للاعتقاد الخاطئ أن الدولة الأثيوبية تقيم السد بهدف زيادة موارد المياه خاصتها. وهو ليس صحيحاً على الإطلاق. حيث لا تفتقر الدولة الأثيوبية للمياه، كونها غنية بمصادر المياه المتنوعة سواء كانت سطحية أو جوفية، كما أن لديها نصيب وافر من مياه الأمطار أدى لجعلها إحدى أهم مصادر نهر النيل عبر آلاف السنين. ورغم تصنيف أثيوبيا كدولة تعاني من ندرة المياه، فإنها تعاني مما يعرف ب “ندرة المياه الاقتصادية” وليست “ندرة المياه المادية”. وندرة المياه الاقتصادية هي عدم قدرة الدولة على تنقية وتوصيل المياه بصورة سلسة للسكان بسبب غياب القدرات التكنولوجية والخبرات الفنية ورؤوس الأموال، وذلك رغم وجود المياه الكافية لاحتياجاتهم المختلفة. وبناء السدود لا يعالج تلك المشكلة. بل إن ما تحتاجه أثيوبيا هو الاستثمار الجدي في البنية التحتية الخاصة بمحطات المعالجة والرفع وشبكات مواسير تغذية المياه إلى مختلف المدن والقرى. وهو ما لم تقم به بعد.
أما الاحتياج لبناء السد، فيكمن طبقاً للرواية الإثيوبية في 3 نقاط أساسية. وهي تغطية الاحتياجات الكهربية للسكان وتحقيق التنمية المستهدفة وخاصة الصناعية منها، ومن ثم التحول لتصدير الطاقة الكهربائية الفائضة عن تلك الاحتياجات. وأخيراً الاعتماد على الطاقة الكهرومائية كالبديل الأهم للطاقة المتوفر لديهم. ولكن عند التدقيق في هذه النقاط الثلاث، سنجد وفقا لعدة دراسات وأرقام تشير لوجود بعض المغالطات بها. حيث أن القدرة الكهربائية لسد النهضة ورغم كونها تعادل نحو 3 أضعاف تلك الخاصة بالسد العالي بقدرة تكافي 6.45 جيجا وات، فإنها لازالت غير كافية على الإطلاق لسد الاحتياج الأثيوبي للطاقة، والذي تعاني منه منذ عقود. وخاصة عندما نأخد في الاعتبار عدد السكان الضخم الذي يصل إلى ما يتعدى حاجز ال 110 مليون نسمة، مع ملاحظة أن مصر لا تعتمد على السد العالي لتغطية معظم احتياجاتها الكهربائية مقارنة بحالها فترة السبعينات من القرن العشرين مع تضاعف السكان بصورة سريعة وتقدم الأنشطة الزراعية والصناعية والسكانية. ومع عجز الطاقة الحالي بأثيوبيا فإنه من المستبعد تماماً بالأرقام أن تكفي قدرته الكهربائية لمتطلبات الشعب الأثيوبي. بل إن حالة البنية التحتية لشبكات الكهرباء بأثيوبيا لازالت متواضعة المستوى، ولا تغطي معظم أنحاء الدولة. ويلجأ معظم السكان بصورة فردية للحرق الغير منظم هندسياً وإدارياً للمخلفات الزراعية والأخشاب من أجل سد احتياجاتهم من طاقة. وبالتالي حتى في حالة قدرة سد النهضة على توفير تلك المتطلبات، وهو ما ليس صحيحاً، فإن هناك عجزاً كبيراً في الاستثمار الجدي من قبل الدولة الأثيوبية في تطوير شبكات الكهرباء لديها وتوصيلها للسكان. وهو ما يحتاج استثمارات اقتصادية طويلة الأمد لا زالت غير موجودة.
وبنفس المنطق, فإن أي محاولة لتصدير ما سينتجه سد النهضة من كهرباء سيكون على حساب عجز الطاقة الداخلي واحتياجات الشعب الأثيوبي والتنمية الصناعية المزمعة. أما عن النقطة الثالثة الخاصة بكون الطاقة الكهرومائية هي البديل الأهم للطاقة، فإن هذه المعلومة تحتاج هي الأخرى إلى بعض التدقيق. حيث أن هناك العديد من البدائل الأخرى ذات المميزات النوعية مقارنة بتوليد الطاقة من السدود. إذ تشير الدراسات بصورة قاطعة على وجود عدة مناطق غنية بقدرات الطاقة المتجددة خاصة الطاقة الشمسية والرياح. وهي المناطق الحدودية مع الصومال شرقاً وإريتريا شمالاً في حالة الطاقة الشمسية، والمناطق الحدودية ما بين جيبوتي والصومال شرقاً وجنوباً مع كينيا بالنسبة لطاقة الرياح. وتستطيع تلك المناطق إنتاج كهرباء تعادل وتفيض عن قدرة سد النهضة، دون مشاكل سياسية مع الدول المجاورة كما في حالة السد. كما أن الاستثمار فيها هذا النوع من محطات الطاقة المتجددة سيكون أكثر توفيراً عند مد الشبكات الكهربائية لتغذية المدن الحدودية بسبب انتشار تلك المحطات بمناطق عدة، مقارنة بمد الشبكات من موقع سد النهضة إلى كافة أنحاء البلاد الذي لم يحدث بعد رغم صرف ما يقارب ال 20 مليار دولار لبناء السدود ال 13 فقط.
يذكر أن العالم يتجه صوب هذا النوع من الطاقة مبتعداً عن الطاقة الكهرومائية منذ أوائل القرن الحادي والعشرين والتي تعتبر حالياً مسئولية طويلة الأمد مكبلة بالأعباء الاقتصادية والسياسية، بعدما كانت حلاً أكثر جاذبية في منتصف القرن السابق لعدم وجود بدائل أفضل آن ذاك.
شكل (1) المناطق الإثيوبية صاحبة القدرة على توليد الطاقة المتجددة بالألوان المائلة للأحمرار. (الطاقة الشمسية يميناً وطاقة الرياح يساراً)
حتماً إن قضية سد النهضة هي قضية محورية ذات شأن حرج بالنسبة لمصر والسودان وإثيوبيا على حد سواء. ويبقى الوصول لحلول دبلوماسية تفي بطموحات الدول الثلاث وتحافظ على حق التنمية المستدامة للجميع هو المسار الأفضل لضمان التفاهم والتعاون على المنفعة المتبادلة دون ضرر.
إلا أن تداول تلك المعلومات الخاطئة وغيرها من إشاعات أخرى تسبب عبر السنوات الفائتة في إثارة الرأي العام داخل دول حوض النيل. وهو ما تسبب قطعاً في زيادة الضغوط الداخلية على المسئولين المعنيين بدراسة الأزمة وإيجاد حلول لها من خلال المفاوضات المطولة.
باحث ببرنامج السياسات العامة