تركيا

قصة العطش.. لماذا يشكك خبراء ومعارضون في اكتشاف تركيا للغاز في البحر الأسود؟

اتساقًا مع الطلب المحلي المتزايد وتباعًا، ارتفاع فاتورة الاستيراد، واستحواذ قوة دولية بعينها على أكثر من نصف الواردات، أصبحت الجهود المدفوعة لتحقيق أمن الطاقة جزءًا لا يتجزأ من السياسة الخارجية للجمهورية التركية خلال العقدين الماضيين. فالبحث عن مكامن الطاقة الهيدروكربونية أصبح هدفًا استراتيجيًا للجمهورية المتعطشة لآبار النفط والغاز.

تستورد تركيا أكثر من 95% من احتياجاها من الطاقة الهيدروكربونية من الخارج، بواقع 53 مليار متر مكعب من الغاز وقرابة 360 مليون برميل نفط سنويًا، بفاتورة تتراوح ما بين 35 لـ 50 مليار دولار سنويًا. كما تستورد تركيا من روسيا نحو 50% من احتياجها من الغاز. 

ويشير الجدول التالي إلى حجم واردات الغاز الطبيعي لتركيا بالمليار متر مكعب والنسبة المئوية للدول الموردة:

كما يوضح الشكل التالي نسبة الغاز المنقول بالأنابيب إلى الغاز الطبيعي المُسال في واردات تركيا:

ومن الجدولين الأول والثاني تتضح جملة من المؤشرات يمكن إبرازها في الآتي:

  • استحواذ روسيا علي نصيب الأسد من جملة واردات الغاز الطبيعي لتركيا.
  • اتجاه تركيا لتنويع هيكل واردات الغاز والاعتماد أكثر على كل من أذربيجان وإيران، وتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي.
  • تكثيف الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال القادم من قطر والجزائر ونيجيريا، ولاسيما بعد زيادة حجم تجارته عالميًا، بنسبة 13% على أساس سنوي في 2019 ليصل إلى 354 مليون طن، مقارنة بـ 314 مليون طن في 2018.

وعلاوة على المؤشرات السالف ذكرها، فإن الموقع الجغرافي المميز لتركيا والمتحكم والمشرف على مضيقي البوسفور والدردنيل، وإطلالتها على ثلاثة مسارح بحرية (البحر الأبيض المتوسط – بحر إيجه – البحر الأسود)، قد أزكت التعطش لتأمين الوصول لإمدادات الطاقة، وخاصة حينما انحصرت الاكتشافات الغازية في العقد الماضي على كل من (مصر – قبرص – إسرائيل).

حقول الغاز المكتشفة خلال العقد الماضي والحالي جاءت ضمن سياقات تقف في مواضع عند الحد المقبول من الصيغ التعاونية الجاذبة لاستثمارات عملاقة لشركات النفط والغاز بالعالم، هذه الصيغ التعاونية تمثلت في:

  1.  ترسيم الحدود البحرية بين دول حوض شرق المتوسط طبقًا للقانون والشرعية الدولية المتمثلة في قانون البحار. فمثلاً أبرمت مصر وقبرص اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية في العام 2003، فيما قامت لبنان وقبرص بالاتفاق حول المناطق الاقتصادية الخالصة لكليهما في العام 2007، كما أبرمت إسرائيل اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية مع قبرص في العام 2010، وحديثًا أبرمت مصر اتفاقًا تاريخيًا لتعيين المناطق الاقتصادية الخالصة مع اليونان في السادس من أغسطس الجاري، وقد سبقه توقيع اليونان اتفاقًا لترسيم الحدود البحرية مع إيطاليا في التاسع من يونيو الماضي.
  1. بدء مشاريع “الربط الطاقوي” بين دول الحوض، ودفق غاز شرق المتوسط لأوروبا. وفي هذا السياق، وقعت كل من إسرائيل وقبرص واليونان في مطلع يناير الماضي على اتفاق أولي يمهد الطريق لمد خط أنابيب جديد للغاز في شرق المتوسط “إيست ميد”.

وتم التوقيع رسمياً على الاتفاق في العاصمة اليونانية أثينا، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس.

خط الغاز الجديد يمر عبر الثلاثي، كما تتخطي تكلفة إنشاؤه الـ 6 مليار يورو، ويبلغ طوله 2000 كلم تقريباً. ومن المتوقع أن تستغرق أعمال إنشائه من حوالي ستة إلى سبعة أعوام. ويتيح الخط نقل ما بين 9و11 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا من الاحتياطيات البحرية لحوض شرق المتوسط قبالة إسرائيل وقبرص واليونان للسوق الأوروبية.

وقد تطرق المرصد المصري في ورقة سابقة منشورة، حول إشكالية ومزاعم تأثير خط “إيست ميد” على المصالح المصرية المرتبطة بصناعة وتداول الطاقة.

كما وقعت مصر وقبرص على اتفاق إنشاء خط أنابيب بحري لنقل الغاز من الحقول القبرصية لمصر، وذلك في يوليو من العام 2019. في إطار خطة القاهرة الرامية للتحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة.

  1. تدشين منتدي غاز شرق المتوسط في يناير من العام 2019، وضم المنتدى الذي يقع مقره في القاهرة، عضوية سبع دول (مصر – قبرص – اليونان – فلسطين – الأردن – إسرائيل – إيطاليا) مع تمثيل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بعضوية مراقب. ولاحقًا تقدمت فرنسا بطلب رسمي للانضمام للمنتدى الذي يهدف إلى العمل على إنشاء سوق إقليمية للغاز وترشيد تكلفة البنية التحتية وتقديم أسعار تنافسية.

دفعت جملة التطورات السالف ذكرها في حوض المتوسط، إلى تهميش تركيا ضمن التغييرات الديناميكية المتسارعة في خريطة الطاقة الناشئة بالمنطقة، وما عزز ذلك انتهاج أنقرة لسياسات حادة، ترمي للتموضع الأحادي وترسيخ فرض وقائع ميدانية معينة تصب في صالح الجمهورية التركية المتعطشة للطاقة، ولاسيما بعد خروجها من معترك الحرب السورية بدون مكاسب حقيقية في خريطة الطاقة بعدما عقدت آمالاً واسعة على انخراطها العسكري في الصراع السوري. وعليه؛ جاء توقيع تركيا في نوفمبر الماضي لاتفاقية ترسيم حدود بحرية “غير شرعية” مع حكومة الوفاق الليبية، متجاهلة لجزيرة كريت ومخالفة لمبادئ القانون الأممي “قانون البحار” المنظم لأعمال الترسيم في مختلف المسطحات المائية الدولية. 

وتراوحت السياسات التركية في شرق المتوسط ما بين تكثيف الانتهاكات الدورية للمجالي البحري والجوي لكل من قبرص واليونان، وإرسال سفن المسح الزلزلي والحفر لنقاط تقع ضمن المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من قبرص واليونان أعضاء الاتحاد الأوروبي.

ما فتح الاحتمالات أمام اندلاع مواجهات عسكرية، وصلت إحداها لشفا حرب بين تركيا واليونان في يوليو الماضي، لولا وساطة ألمانية منعت الاشتباك المباشر قبالة جزيرة كاستيلوريزو.  

من شرق المتوسط للبحر الأسود

على نقيض التطورات المتسارعة في حوض شرق المتوسط وعسكرة تفاعلاته جراء السياسات التركية النشطة، المدفوعة بضرورة ملحة لتأمين الوصول لإمدادات الطاقة ولاسيما بعد العزلة المتنامية التي باتت تعاني منها تركيا؛ فإن مسرح البحر الأسود كان الأكثر هدوءاً. وذلك لعدة اعتبارات أبرزها:

1- قلة الاحتياطات المكتشفة حتى الآن.

2- ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وجيرانها (بلغاريا – جورجيا – روسيا – رومانيا)، وذلك في الفترة الممتدة بين (1970 -1999)، والتي بموجبها حُددت المناطق الاقتصادية لكل دول مطلة علي البحر. 

3- أهمية البحر الأسود لتركيا كونه معبر مرور الغاز الروسي لأراضيها. حيث يُنقَل عبره خط أنابيب بلو ستريم، وخط أنابيب ترك ستريم، المنشأ حديثاً.

وبالتزامن مع إرسال تركيا لسفينتي “يافووز” و “أوروتش رئيس” لشرق المتوسط بين المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من قبرص واليونان، أرسلت تركيا في يوليو الماضي سفينة التنقيب والمسح الزلزالي “فاتح” للبحر الأسود للمرة الأولى. وبعد أقل من شهر أعلن الرئيس التركي يوم الجمعة الماضية ما أسماه “بشرى” للشعب التركي وتمثل في الإعلان عن أكبر اكتشاف غازي في تاريخ تركيا بواسطة سفينة “الفاتح”. وأضاف الرئيس أردوغان في كلمة متلفزة من إسطنبول “إن سفينة فاتح التركية التي تنقب في البحر الأسود عن الطاقة اكتشفت حقل غاز يبلغ احتياطيه 320 مليار متر مكعب في بئر تونة -1 وأن الاكتشاف يحمل عهدًا جديدًا لتركيا وأبنائها، ويمكن من خلاله إزالة مشاكل تركيا الاقتصادية، وحل مشكلة العجز الاحتياطي”.
https://twitter.com/RTErdogan/status/1296801559989366785?s=20

وكانت التوقعات، بحسب التقارير الإعلامية التي نقلت عن مصادر تركية، قبل إعلان الرئيس التركي بنحو يومين، أن الاحتياطي من الغاز في الحقل المكتشف سيبلغ 26 تريليون قدم مكعبة أو 800 مليار متر مكعب من الغاز، لكن الإعلان جاء مخيبا للآمال العريضة تلك. وتابع الرئيس التركي: “”تركيا تنوي البدء في إيصال الغاز إلى المستهلكين في عام 2023، وإنها ستصبح في نهاية المطاف دولة مصدرة للطاقة”.

منطقة الاكتشاف، تقع ضمن البلوك “تونة-1″، وتبعد عن الساحل التركي حوالي 150 كلم. 


 تصريحات الرئيس التركي ووزير الطاقة “فاتح دونماز”، أثارت موجة من التشكيك في إعلان الاكتشاف، وكذا في الخطة التركية لاستخراجه والتي بدت سريعة، واستند التشكيك على أسانيد ووقائع منها:

1- لجوء النظام التركي لإعلان اكتشافات مزيفة قبيل بدء الاستحقاقات الانتخابية، وذلك منذ العام 2004 وحتي العام 2013.

الصحفي التركي “يلمز أوزيل” نوّه لتاريخ حكومة الحرية والعدالة وصحفها في الإعلانات المزيفة لاكتشافات النفط والغاز ضمن الأراضي والمياه التركية.

2- وجود كبريات شركات الطاقة في منطقة الاكتشاف ذاتها دون الوصول للحقل، حيث أقر الرئيس أردوغان بصعوبة عمليات البحث والتنقيب وتكلفتها المادية المرتفعة، مشيرا إلى أن شركات طاقة عالمية شهيرة مثل “شل” و”بي بي” قامت بعمليات بحث تراوح بين 100 و150 عملية على نفقتها الخاصة، لكنها لم تعثر على مصادر للطاقة في المنطقة برمتها. ورغم فشل كبريات شركات الطاقة العالمية، مثل بي بي، ثالث أكبر شركة طاقة في العالم، وشركة شل، عملاق شركات البتروكيماويات العالمية، في اكتشاف أي مصادر للطاقة في البحر الأسود في أكثر من 100 عملية بحث، لكن سفينة الفاتح الوليدة تمكنت من اكتشاف الغاز في البحر الأسود في أقل من شهر.

3- قصر المدة الزمنية المقررة لاستخراج الغاز، حيث قال الرئيس أردوغان أن بلاده تنوي البدء في إيصال الغاز إلى المستهلكين في عام 2023، وأنها ستُصبح في نهاية المطاف دولة مُصدِّرة للطاقة. وهو ما يتعارض مع آراء خبراء صناعة الطاقة، وكذلك الوقائع التي تمت مع اكتشافات مماثلة منها على سبيل المثال حقل ظهر المصري. حيث نقلت صحيفة زمان التركية عن رئيس مجموعة دراسات الطاقة في غرفة مهندسي الماكينات في إسطنبول، “أوغوز ترك يلماز”، قوله إن “استخراج الغاز الطبيعي من الحقل الجديد المُعلن اكتشافه، سيحتاج إلى ما بين خمس وعشر سنوات على الأقل من أجل مدِّ الأنابيب لنقل الغاز”. ونوّه أن الحقل في حال بدء الإنتاج فيه بعد اكتمال تشييد أعمال البنى التحتية ومد الأنابيب من الممكن أن يصل لـ 16 مليار متر مكعب من الغاز سنويّاً، أي إنه يُعادل 25 في المئة كحد أقصى من احتياجات تركيا السنوية من الغاز الطبيعي“. وهو ما يتعارض مع ما أعلنه الرئيس التركي ومسؤولي وزارة الطاقة عن تصدير تركيا للغاز، فمازالت لا تستطيع تأمين كفايتها محليًا. كما يؤكد الخبراء في صناعة النفط والغاز أنّه لا يمكن الوصول إلى مثل معلومات الاحتياطيات بهذه الدقّة، من حفر بئر واحدة، وخلال شهر واحد. كبير محللي النفط والغاز في بنك وود أند كومباني يقول لموقع بلومبيرغ: “السؤال الآن هو مقدار الغاز القابل للاستخراج. هذا ليس واضحا بعد. ما يريد السوق حقا معرفته أيضا هو مقدار ما يمكنهم إنتاجه سنويًا، لكنني لا أعتقد أنهم في وضع يسمح لهم بقول ذلك حتى الآن”. وفي حالة حقل ظهر المصري، استغرق الأمر نحو أربعة سنوات للوصول بالحقل الذي تبلغ احتياطاته 30 ترليون قدم مكعب، لمعدل إنتاج قدره 2.7 مليار قدم مكعب يوميًا. وذلك بعدما وصلت الاستثمارات في الحقل لـ 12 مليار دولار، وأُعِدت له بنى تحتية لربط الغاز بمحطات المعالجة الأرضية.

4- لا يمكن لتركيا أن تكون دولة مصدرة للغاز، ففاتورة الغاز الطبيعي لتركيا وصلت العام الماضي 41 مليار دولار، وهي الأعلى ضمن دول المنطقة، كما لا تمتلك تركيا أيًا من منشآت البنى التحتية الخاصة بتسييل الغاز. حيث تعتبر مصر الدولة الوحيدة في حوض شرق المتوسط التي تمتلك منشآت لتسييل الغاز، مع الأخذ في الاعتبار مجمع مرسي البريقة وقد خرجت من الخدمة في العام 2011. مساهمة الحقل التركي في البحر الأسود لن تتعدى الـ 25% من احتياجات السوق المحلية، علاوة على ارتفاع حجم صادرات الغاز المسال جراء الإنتاج الأمريكي الضخم ورغبة واشنطن في تحجيم حجم تجارة الغاز الطبيعي الروسية للقارة الأوروبية. متخصص آخر في مجال الطاقة، وهو “أوزجور جوربوز”، ذكر أنه حسب المُعلن فإن استهلاك تركيا من الغاز في عام 2017 كان 53 مليار متر مكعب، وهذا يعني أن الاحتياطي المُعلن رسميّاً يكفي أنقرة لنحو ست سنوات فقط، وبهذا الحجم لا يمكن لتركيا أن تكون دولة مُصدِّرة للغاز بأي شكل من الأشكال”. وهو ما يتعارض مع ما ذكره الرئيس التركي بأن الاكتشاف سيكفي تركيا لنحو 20 عامًا من الغاز. لكن من المرجح أن يخفف الحقل التركي من ميزانية الإنفاق على الطاقة، في وقتِ يشهد فيه الاقتصاد التركي أزمة كبيرة، خفضت تصنيفه الائتماني لدي “فيتش”، وتراجع الاحتياطي النقدي للبلاد حيث تراجع إلى 45.5 مليار دولار في الـ14 من أغسطس الحالي، بينما كان عند مستوى 81.2 مليار دولار في نهاية السنة الماضية، وضعف الثقة في سياسة أنقرة المالية، فبحسب شبكة “بلومبيرغ”، فإن الوضع في تركيا يُثير قلقاً بشأن الحصول على تمويل من الخارج، ولذلك تم خفض تصنيف البلاد إلى “-BB”ويقلُّ هذا التصنيف بثلاث درجات عن المعدل المطلوب للاستثمار، وهو المستوى الممنوح لدول تُعاني صعوبات اقتصادية، مثل البرازيل وأرمينيا.

وفي مادة سابقة نشرها المرصد المصري، “نضوب الطاقة والتقنية التركية” تناول فيها قدرة تركيا التقنية على اكتشاف واستخراج الغاز، تطرق المرصد إلى أن التقنية المحلية التركية للتنقيب لم تسجل اكتشافًا منذ عقود، كما لم تنجح الإدارة التركية في جذب استثمارات الشركات الكبرى للعمل ضمن مياهها في شرق المتوسط جراء ما تنتهجه من سياسات حادة، مزعزعة للاستقرار وتباعًا طاردة للاستثمارات، إلا أن البيئة الأمنية في البحر الأسود قد تدفع بإحدى شركات الطاقة العالمية للاستثمار في الحقل التركي حال التأكد منه، حيث تنشط في مياه البحر الأسود شركتا بيتروم وإكسون، وغازبروم. إلا أن الآمال في بنية أمن الطاقة الإقليمية تتراوح ما بين محاولات خفض فاتورة الاستهلاك، وتنويع هياكل الواردات، دون تحقيق خطوات ملموسة على صعيد التحول لمركز إقليمي لتداول الطاقة رغم مرور الغاز الروسي المتدفق للسوق الأوروبية عبر أراضيها، إذ مازالت تفتقر أنقرة للبيئة الأمنية المواتية لجذب استثمارات الطاقة في مسارح البحار الثلاثة، علاوةً على البنى التحتية اللازمة لتسييل الغاز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى