مقالات رأي

داليا يسري تكتب: الوسطية والعلم في كتابات “أحمد بهجت”

أحمد شفيق بهجت، هو كاتب ومُفكر مصري فذ عاش في الفترة ما بين 1932 -2011. وفي توقيت رحيل ابن الثلاثينات من القرن الماضي عن عالمنا، كانت الدنيا في مصر قد تغيرت بالفعل وعصفت بالبلاد أحداث كثيرة، غيرت وبدلت في الكثير من معالمها، إلا أن هذا التغييرات الكثيرة المتتالية لم تمس أبدًا الإرث الذي تركه خلفه “بهجت” من قريب أو من بعيد. الحقيقة أن إرثه لايزال باقيًا حتى اللحظة وبعد مرور 9 سنوات على رحيله، كما أنه سوف يظل مستمرًا في ذاكرة ووجدان الأمة العربية، باعتباره مفكر مصري ترك بصمة واضحة على طبيعة الكتابات الإسلامية. تلك الكتابات التي نقول عنها اليوم إنها –إسلامية- خالصة، كُتبت بروح إسلامية رحيمة وفزة. وعندما نستخدم لفظة –كتابات إسلامية- لأجل الإشارة الى مؤلفات أحمد بهجت، فإننا لا نعني هنا الاستخدام “المُسيء” للكلمة، الذي أطلقته الجماعات المتطرفة على نفسها. وأصبغت من خلاله بصبغة الشرعية المزيفة على كل ما ترتكبه من جرائم فكرية وفعلية.

جدير بالذكر أيضًا، أن أحمد بهجت عرف في حياته الحافلة محطات مشهودة في تطوراته بصفته صحفيا وبصفته كاتِبا اولاً وأخيرًا. إذ أنه التحق بكلية الحقوق، وتخرج منها حتى يتدرب في مجلة الجيل الجديد، والأخبار، ثم مجلة آخر ساعة، وظل يتنقل بعد ذلك وصولاً إلى صحيفة الأهرام، التي انضم اليها بعد أن انتقى الكاتب الكبير حسنين هيكل عددا من المواهب الصحفية الشابة من عدة مؤسسات واستقدامها لأجل العمل بالأهرام، وظل يكتب بها في العمود الشهير تحت عنوان “صندوق الدنيا” حتى لحظة وفاته.

كما أنه عكف على كتابة، عدة مؤلفات في أفرع عدة من الأدب. بالإضافة الى مؤلفاته ذات الصبغة الدينية التي يُعد من أبرزها كتابه الشهير “أنبياء الله”، الذي لا يزل المُتابع لأسواق الكُتب، يُطالع أسمه على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا حتى الآن. ومن ضمنها أيضًا، كتاب “الطريق الى الله”، “بحار الحب عند الصوفية”، “والله في العقيدة الإسلامية”، و”قصص الحيوان في القرآن”.  

وبالحديث عن “أحمد بهجت”، هناك سؤال مُلح يطرح نفسه. لماذا يجب على الشباب أن يُقبل على قراءة مؤلفاته؟! الجواب باختصار شديد يتجلى بوضوح أمام كل من تسنى له الاطلاع على إحدى كتاباته الدينية أو المحظوظ الذي نجح في قراءتها كلها. عندما يتردد الحديث أن هناك رغبة في تجديد الخطاب الديني، أظن أن هذا التجديد سيأتي على صفحات “أحمد بهجت”، الذي يفيض علينا بكتابات تمتلئ بروح المسلم الوسطي، الذي لا يميل الى تشدد زائف ولا إلى تسيب مُقلَد. إنه يخبرنا عن الإسلام، ولكن ليس في صورته المشوهة التي نجح ارهابيو هذا العصر والعصور الماضية في تثبيت وترسيخها عبر أذهان التائهين من الناشئة والشباب في داخل الأوطان العربية وخارجها.

ولكنه يصف الإسلام في تفاصيله، كدين رحمة وحب وتسامح. إنه يتحدث عن “الله”، ويتحدث عن تفاصيل الإسلام، ويقوم بتفسير قصص الأنبياء ويقدمها في شكل قصصي أدبي رائع للكبار. وكل هذا يجري عبر سيمفونية كاملة متكاملة ومتصلة من ايقاعات الحب الإلهي، التي تفيض الي قلبك مباشرة عبر صفحات “احمد بهجت”، وتجعلك مشدوهًا بكل ما تملك من حواس داخل صفحات هذا الكتاب، الذي تتفاجئي وأنت على أعتاب آخر صفحاته، بأن عيونك وصلت الى آخر صفحة في الكتاب بنفس اللحظة التي صعد بها قلبك إلى أقصى عنان السماء. وسوف تدرك عندها أن قلبك قد بلغ درجة ما في الأعال أنت نفسك لا تدري كنهها. المُهم في نهاية الكتاب، أنك تكون قد سافرت عبر جنبات السماء، وأن “بهجت” قد نجح في دفعك إلى هناك حيثما أراد منذ البداية.

والمهم أيضًا أن كل ما سوف تكتشفه بنهاية كتابات أحمد بهجت –الدينية- منها على وجه التحديد، وليكن الحديث عن رائعته “أنبياء الله”، هو أن تعرف أنك قد مررت بتجربة روحية. تقوم على المبدأ الشهير الذي ينص على أن الحديث الذي يخرج من “القلب يصل الى القلب بدون رسول”. وهذا ما يحدث تمامًا في حالة “بهجت” الذي يستهل كتابه المذكور بروح العالم الصوفي الجليل، ويكتب ليخبرنا “أن هناك كتبا يحس الكاتب أنه يكتبها بقلمه.. وهناك كتب يحس أنها أمليت عليه من أنقى عمق في قلبه، وليس له فضل فيها سوى فضل الأداة..  وليس له من حمد لأن الله هو من طهر القلب ابتداء، وهو الذي شاء أن يكون أداة في النهاية.. وأحسب أن كتاب أنبياء الله من النوع الأخير“.

لم يكن بهجت مجرد كاتب عادي، لكن الأجدر أن يتم وصفه بأنه عالِم. وأجمل ما في علمه هو أنه لم يكن يتحدث عن علمه بلغة المُتباهي المُتفاخر. لكنه كان يعرف ويعترف بصوت المتواضع أن هذا العلم المُهدى اليه، هو في الحقيقة ليس أكثر من مجرد علم مُلقى عليه من الله. بحيث كان “بهجت” بكل ما وصل اليه من نجاحات، يدرك يقينًا أنه عبارة عن وعاء انساني يفيض الله عليه بروح المعرفة التي ليست مملوكة لذاته البشرية ولكنها ممنوحة اليه من العطف الإلهي.  كما أن لغة “بهجت” في كتاباته مميزة وأنيقة ومبسطة، إنه لا يتحدث إلا بسلاسة. ولا يخبرنا عن الله إلا بالحب وبكل حب وبالمزيد والمزيد من الحب.

وبما أننا نعرف يقينًا أن الجهل هو أكبر الخطايا، ولا شك أنه هو نفسه المجرم الأول، الذي أفرز لنا جيلاً من الشباب الذي من فرط جهله بقواعد الدين القويم، انصرف إما الى أقصى التطرف أو الى اقصى الانحلال، وكاد يختفي فيما بينهما التيار الوسطي الذي يعرف سماحة الإسلام. وبناء عليه، إذا جاز اعتبار الجهل –فِكرا- فإن الفكر لا يُحارب إلا بفكر أقوى منه وأكثر ثباتًا ورسوخًا.

والجهل لا يُقابل إلا بالعلم، وكُتب أحمد بهجت الدينية تُمهد الطريق بشكل غير مسبوق نحو هذا العلم المحمود، وتمنح للقراء رؤية واضحة للذات، وانعكاس قويم للهوية الوطنية، التي تُعتبر الهوية الدينية الثابتة جزء لا يتجزأ منها.  

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى