أوروبا

انتفاضة بيلاروسيا.. الثورات الملونة تضرب الجوار الروسي

في إطار الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية إبان الحرب الباردة (1945 – 1990)، ابتكر الغرب فكرة الثورات الملونة، أي استغلال رغبة الشعوب في التخلص من الديكتاتورية ودعم هذا التغيير دون التدخل على الأرض، ولكن عبر التحكم في مسارات هذا التغيير، وفى زمن ما بعد الحرب الباردة كان المصطلح حاضرًا في الثورات الشعبية التي ضربت الدول السابقة في الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا.

الثورات الأربع التي أطلق عليها هذا المصطلح هي:

1 – ثورة يوغوسلافيا (29 سبتمبر 2000 – 5 أكتوبر 2000).

2 – ثورة جورجيا (3/23 نوفمبر 2003).

3 – ثورة أوكرانيا (22 نوفمبر 2004 – 23 يناير 2005).

4 – ثورة قيرغيزستان (22 مارس 2005 – 11 ابريل 2005).

ورغم أهمية الثورة اليوغوسلافية في تفكيك يوغوسلافيا واختفاء اسمها وانفصال كوسوفا والجبل الأسود من بلجراد وإعلان قيام دولة صربيا، إلا أن الثورات الثلاث في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان تحمل أهمية استراتيجية أكثر عمقًا.

أتت الثورات الثلاث عقب احتلال أمريكا لأفغانستان ومعها تحالف دولي يضم الدول الرئيسة في الغرب عام 2001، لتصبح أفغانستان هي الولاية الامريكية الـ 51 في قلب آسيا الوسطي وعلى مقربة من روسيا.

هذا الاقتراب سهل للولايات المتحدة أن تدبر الثورات الشعبية في الدول السوفيتية السابقة، وراح زعماء تلك الدول يتساقطون واحدًا تلو الآخر وتلتقطهم المخابرات الروسية على الحدود لتوفير المنفى الآمن، وراح النفوذ الروسي يتقلص في دول الجوار الروسي دولة تلو الأخرى.

الثورات الروسية المضادة

كانت سنوات الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن هي العصر الذهبي للثورات الملونة في دول الجوار الروسي، إضافة إلى الدعاية الأمريكية القوية التي جعلت أعتى خبراء الشؤون الروسية لا يدركون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رد الصاع صاعين، حيث دبرت روسيا ثلاث ثورات شعبية في جورجيا أعوام 2007 و2009 و2011 استطاعت استرداد جزءًا من نفوذها في الجمهورية السوفيتية السابقة، أما في أوكرانيا فقد فشل الثوار في إدارة الدولة وانتخب الشعب الساسة الموالين لموسكو مرة ثانية، فرد الغرب بـ انتفاضة 2013 الأوكرانية الأولى (14 مارس 2013 – 24 اغسطس 2013) والثورة الأوكرانية الثانية/انتفاضة 2013 الثانية (21 نوفمبر 2013 – 23 فبراير 2014)، وردت روسيا بثورة شرق أوكرانيا (23 فبراير 2014 – 6 أبريل 2014) ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الأوكرانية في 6 ابريل 2014 حتى اليوم وتقسيم أوكرانيا إلى ثلاث جمهوريات، اثنتين منهم تحت الحماية العسكرية الروسية.

أما في قيرغيزستان فقد دبرت روسيا ثورة 6 أبريل 2010 واستردت نفوذها، ويمكن القول إن الاتصالات بين بوتين وترامب أدت إلى مرور ثورة أرمينيا (31 مارس 2018 – 8 مايو 2018) دون خسائر حقيقية للطرفين. وفشلت ثورة مقدونيا الشمالية (12 أبريل 2016 – 20 يوليو 2016) وثورة مولدوفا (6/12 أبريل 2009) في إنهاء النفوذ الروسي.

بيلاروسيا.. الصفحة الأخيرة في الكتالوج السوفيتي

الموقف في بيلاروسيا كان مختلفًا عما سبق، ففي بادئ الأمر شكلت بيلاروسيا مع روسيا وأوكرانيا ما يعرف تاريخيًا بـ “روسيا الكبرى” أو “العالم الروسي”، فكانت روسيا هي روسيا الكبرى وأوكرانيا هي روسيا الصغرى وبيلاروسيا هي روسيا البيضاء، وهي الدولة الوحيدة من دول “العالم السوفيتي” التي كانت مرشحة للاندماج في روسيا الفيدرالية.

آخر رؤساء جمهورية بيلاروسيا السوفيتية –كما كان يطلق عليها– فيتشيسلاف كييبيتش Vyacheslav Kebich هو الذي تزعم حركة انفصالها، شغل منصبه ما بين عامي 1990 و1991، وعقب إعلان قيام جمهورية بيلاروسيا، ترأس الوزارة إلى حين إجراء أول انتخابات رئاسية.

وحينما أجريت الانتخابات في 23 يونيو 1994 ثم الجولة الثانية في 10 يوليو 1994، كانت المفاجأة أن الشعب انتخب سياسيًا مواليًا لروسيا وليس الغرب ألا وهو ألكسندر لوكاشينكو، حيث أسدل الأخير الستار السوفيتي الحديدي مرة أخرى على البيلاروسيين، ومنذ أن جلس على سدة الرئاسة يوم 20 يوليو 1994 أعيد انتخابه أربع ولايات أعوام 2001 و2006 و2010 و2015، وسعى للولاية السادسة في انتخابات أغسطس 2020 بعد أن أكمل 26 عامًا في الحكم.

لم يصمت الشعب البيلاروسي على “آخر ديكتاتور في أوروبا” كما يلقبه الإعلام الغربي، فاندلعت الثورة الشعبية الأولى عام 2004 والثانية (19 مارس 2006 – 25 مارس 2006) والثالثة (23 مايو 2011 – 17 أغسطس 2011) والرابعة (17 فبراير 2017 – 1 مايو 2017).

اندلاع الثورة الخامسة

استبقت المعارضة البيلاروسية رغبة الرئيس في الولاية السادسة، ودعت للاحتجاج على سوء إدارته لملف أزمة وباء كورونا، وفى 24 مايو 2020 اندلعت الثورة الخامسة والتي عنونتها الصحف الغربية بلقب “ثورة النعال”.

ألكسندر لوكاشينكو أثبت مجددًا إخلاصه للكتالوج السوفيتي، فأعلن أنه أحبط محاولة انقلاب على السلطة، وتم توقيف الناشط والمدون ورجل الأعمال سيرجي تيخانوسكايا، ثم زعيم المعارضة فيكتار باباريكا، هكذا لم يعد هنالك مرشح بارز للمعارضة عشية الانتخابات الرئاسية.

ولكن بعض النشطاء سجلوا أسماءهم أمام الرئيس المزمن للبلاد، على أمل استثمار الغضب الشعبي، منهم سفيتلانا تيخانوسكايا عقيلة المدون المعتقل.

عقدت الانتخابات في 9 أغسطس 2020، وعقب إعلان فوز الرئيس بالولاية السادسة، اندلعت تظاهرات عارمة، وأعلنت سفيتلانا تيخانوسكايا أنها الفائزة بالانتخابات وهربت إلى ليتوانيا حيث دعت إلى تشكيل مجلس وطني انتقالي على غرار ما فعلته المعارضة السورية والليبية عام 2011 حيث انتهى حكم معمر القذافي وتقليص نفوذ بشار الأسد.

وكما جرى في ميادين الربيع العربي، رفع المتظاهرون منذ ليلة 9 أغسطس أعلام الاستقلال البيلاروسي من الاتحاد السوفيتي، وهو العلم المستخدم ما بين عامي 1991 و1995 قبل أن يقوم لوكاشينكو بإلغائه.

واستمرت فعاليات كتالوج الربيع العربي، السفير إيجور ليشتشينيا سفير بلاروس في سلوفاكيا أعلن انحيازه للثورة وأصدر بيان يؤكد فيه أن الشعب البيلاروسي عانى طويلًا ويتطلع إلى الديمقراطية!

وأمام الموجة الجديدة من ثورة 24 مايو، ألقى لوكاشينكو خطابًا أكد فيه أن “مؤامرة أجنبية دُبّرت للإطاحة به، وأن دبابات وطائرات حلف شمال الأطلسي منتشرة حاليا على بعد 15 دقيقة من حدود بلاده، قوات حلف شمال الأطلسي على أبوابنا. وليتوانيا ولاتفيا وبولندا وأوكرانيا تأمرنا بإجراء انتخابات جديدة”.

وسارع بالاتصال بنظيره الروسي بوتين، حيث أكد الأخير أن موسكو على استعداد للتدخل عسكريًا في بيلاروسيا وفاءً للمعاهدات العسكرية بين البلدين.

أوروبا التي لاذت بالصمت منذ اندلاع الاضطرابات في مايو، تحرك زعماؤها لدعم الحراك الشعبي، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صرح بأنه “على الاتحاد الأوروبي دعم المحتجين السلميين في بيلاروسيا”، أما أولاف شولتس نائب المستشار الألماني ووزير المالية ومرشح الحزب الاشتراكي لخلافة ميركل في انتخابات 2021، فقد صرح بأن “لوكاشينكو دكتاتور فقد دعم شعبه، وحذر موسكو من التدخل لإبقائه في السلطة.

وأمام الثورة الشعبية العارمة، كرت سبحة التنازلات، وصولًا إلى تصريح ألكسندر لوكاشينكو يوم الاثنين 17 أغسطس أنه مستعد لتقاسم السلطة وتعديل الدستور، لكنه لن يفعل ذلك تحت ضغط المحتجين، في اول إشارة منذ 26 عامًا لاستعداد الرجل الحديدي في تقديم تنازل حقيقي.

علامات استفهام

ومهما حاولت المنصات الإعلامية التزام الحياد في تغطية الحراك البيلاروسي، إلا أن هناك علامات استفهام تشير بجلاء إلى تورط غربي في دعم الثورة الشعبية تمامًا كما يجري منذ سنوات ترنح الاتحاد السوفيتي، ففي بادئ الامر يصف الإعلام الغربي سفيتلانا تيخانوسكايا بأنها زعيمة المعارضة رغم أن كل إرثها السياسي أنها زوجة رجل أعمال قرر مناهضة الحاكم.

كما أن تهريبها من بلاروس عبر الحدود إلى ليتوانيا في ظل القبضة الحديدة للدولة يعد اختراقًا أمنيًا لا يمكن لامرأة أن تقوم به وحدها، ولا يمكن لمعارضة مدنية سلمية أن تقوم به بشكل منفرد ما يعني أن هنالك طرفًا أجنبيًا تدخل من أجل سحب المرشح الأبرز في الانتخابات، وخلق شرعية بديلة في المنفى لتكرار سيناريو المعارضة العراقية والسورية والإيرانية في المنفى.

كما أن الإعلام الغربي حاول أن يروج لفكرة أن روسيا على خلاف مع مينسك وأن الثورة تدبير روسي، رغم أن موسكو ليست بالغباء لكي تخلخل النظام في بيلاروسيا بما يسمع لماكرون وشولتس بأن يتدخلا في الفناء الخلفي لروسيا، علمًا بأن الإعلام الأمريكي قد سبق وأن روج مع قيام أول ثورة ملونة بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان بأن روسيا هي التي دبرت ثورة جورجيا بعد خلاف مع رئيسها، وما هي إلا بضعة أسابيع واتضح أن الغرب هو من رتب عملية سيطرة المعارضة على البرلمان وعزل الرئيس وتنصيب رئيسة البرلمان رئيسة مؤقتة.

بلاروسيا اليوم أمام ثلاثة سيناريوهات، إما أن ينجو الرئيس المزمن بمعجزة سياسية، أو يكرر بوتين سيناريو الثورة الأوكرانية الأولى 2004 أو الثانية 2013، ففي الثورة الأوكرانية الأولى راهن بوتين على ضعف النخبة السياسية وأنها سوف تفشل وتعود السلطة إلى التيار الموالي لروسيا، وأسباب تكرار هذا السيناريو متوفرة في بيلاروسيا في ضوء معارضة ضعيفة غير متجانسة بين اليمين المسيحي المحافظ والوسط الليبرالي والخضر واليسار الاشتراكي ونشطاء العالم الافتراضي وعصابات البلاك بلوك.

أما السيناريو الثالث والأخير فهو ما فعله بوتين حيال الثورة الأوكرانية الثانية عام 2013، بالتدخل عسكريًا في بيلاروسيا وإنهاء الثورة والتدخل الأجنبي الغربي أو حتى إنشاء جمهورية في شرق وشمال بيلاروسيا تشكل عازلًا بين “التمرد” في الغرب والجنوب من جهة وبين غرب روسيا من جهة أخرى.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى