دول المشرق العربي

سيناريوهات واشنطن للتعامل مع لبنان كبوابة لصياغة معادلة جديدة في المنطقة

أكد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” مشاركته في المؤتمر الدولي الذي عُقد بدعوة من الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لدعم لبنان في أعقاب كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس الجاري، مغردًا أن “الجميع يريد المساعدة”. كما قال وزير الخارجية الأمريكية “مايك بومبيو” في بيان لوزارته “لا توجد دولة أكثر عطاءً أو تعاطفًا من الولايات المتحدة، وسنواصل دعمنا للشعب اللبناني للتعافي من هذه المأساة”. وارتباطًا بذلك، قام “ديفيد هيل” مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية  بزيارة لبنان في 13 أغسطس الجاري، حاملًا معه رؤية أمريكية للتعاطي مع المشكلات التي تضرب الساحة اللبنانية. الأمر الذي يبرهن على وجود رغبة أمريكية للعب دور نشط ومؤثر على الساحة اللبنانية. وعليه، أُثيرت التساؤلات بشأن فحوى أو مضمون هذا الدور ومستقبله.

تعاطٍ نشط

شهدت العاصمة اللبنانية كارثة ضخمة تمثلت في انفجار مرفأ بيروت الذي تسبب في تدمير هائل وخسائر فادحة. ويأتي هذا الانفجار في وقت تواجه فيه الساحة اللبنانية أزمات متداخلة ومركبة لاسيما الوضع الاقتصادي المتردي،  فقد تخلفت عن سداد الديون السيادية، وتراجعت العملة اللبنانية واتسع نطاق الفقر. وفي أعقاب وقوع الانفجار المدمر لمرفأ بيروت، قام الرئيس “ماكرون” بزيارة تضامنية إلى لبنان في 6 أغسطس الجاري، داعيًا إلى عقد مؤتمر دولي لدعم لبنان. 

ثم دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة مبكرًا، فقد أعلن الرئيس “ترامب” في اليوم التالي لزيارة ماكرون  أنه سيشارك في المؤتمر الدولي لدعم لبنان. وفي هذا الإطار أكد “ترامب” على إرسال ثلاث طائرات إغاثية أمريكية. كما أصدر البيت الأبيض بيانًا لمستشار الأمن القومي “روبرت أوبراين” أوضح فيه أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) نشرت “فريق الاستجابة للمساعدة في حالات الكوارث” (DART) في بيروت للتنسيق وتقديم المساعدة الإنسانية.

وفي السياق ذاته، تبلورت ملامح التعاطي السياسي الأمريكي مع الأزمة عبر دعوة “بومبيو” إلى فتح تحقيق “معمق يتسم بالشفافية” في أسباب وقوع الانفجار. لافتًا إلى حق الشعب اللبناني في محاسبة المسؤولين. مؤكدًا مواصلة الولايات المتحدة لجهود دعم الشعب اللبناني. ومشيرًا إلى أن واشنطن تعهدت بتقديم أكثر من 17 مليون دولار لإغاثة لبنان، مضافة إلى 403 ملايين دولار التي وفرتها الإدارة الأمريكية، منذ سبتمبر 2019.

ويُعدُّ الحدث الأبرز المدلل على الدعم الأمريكي هى الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية “ديفيد هيل” للبنان في 13 أغسطس الجاري، كونها تبرهن على وجود رغبة أمريكية في أن تلعب دورًا مؤثرًا في الساحة اللبنانية. حمل “هيل” معه تسوية جديدة لحل الكثير من الأزمات كتشكيل الحكومة، والتحقيق في كارثة انفجار مرفأ بيروت، وكذا مسألة ترسيم الحدود البحرية التي ظلت معلقة لفترة طويلة. لفت “هيل” إلى مشاركة مكتب التحقيقات الفيدرالية في التحقيق بشأن الانفجار. مشددًا على ضرورة التعاون من أجل إنقاذ لبنان، وتشكيل حكومة مستقلة تلبي رغبة الشعب اللبناني.

السيناريوهات المحتملة

تدلل التحركات الأمريكية خلال الفترة الأخيرة على وجود رغبة أمريكية في لعب دورٍ مؤثرٍ في الساحة اللبنانية انطلاقًا من عدد من الدوافع، على رأسها تعزيز أمن إسرائيل، وتحجيم الدور الإيراني، والاحتفاظ بمجال رحب للنفوذ الغربي…وغيرها. لذا، يتضح أن فحوى الدور الأمريكي ومستقبله سيدور بشكل أساسي في 3 سيناريوهات، يمكن توضيحها على النحو التالي:

السيناريو الأول: الدور الدبلوماسي

ينطلق هذا السيناريو من فكرة قائمة على انحسار التحركات الأمريكية في الدور الدبلوماسي، انطلاقًا من عدم وجود رغبة حقيقية للإدارة الأمريكية للتأثير في الساحة اللبنانية. يستند هذا السيناريو إلى وجود رغبة أمريكية في عدم الانخراط الواسع في ملفات الشرق الأوسط، ومن بينها لبنان. فضلًا عن عدم وقوع لبنان داخل الدائرة المباشرة للاهتمام الأمريكي، بسبب كونها ساحة مباشرة للنفوذ الفرنسي. ومن الدلائل على ذلك، زيارة الرئيس الفرنسي “ماكرون” إلى لبنان في أعقاب الانفجار، ودعوات عودة الانتداب الفرنسي على لبنان.

لذا، قد ترى واشنطن عدم جدوى تدخلاتها الواسعة في الساحة اللبنانية في مقابل ترك الملف اللبناني لأطراف أخرى كفرنسا. وقد يحقق ترك الساحة اللبنانية لفرنسا أمرين، الأول: تقليل الجهود والموارد الأمريكية المنفقة في الساحة اللبنانية. الثاني: أن فرنسا تقع في المعسكر الغربي وتحمل أجندة شبيهة –إلى حد ما- بالأجندة الأمريكية. وعليه ووفقًا لهذا السيناريو تستطيع واشنطن أن تحقق مصالحها وأهدافها عبر التحركات الدبلوماسية فقط، مع إعطاء الفرصة لأطراف أخرى من أجل لعب دور أكثر نشاطًا. يحمل هذا السيناريو فرصًا محدودة للتحقق انطلاقًا من أن التحركات الأمريكية خلال الفترة الأخيرة تبرهن على وجود رغبة أمريكية حقيقية للعب دور نشط ومؤثر، وليس مجرد دور دبلوماسي محدود.

السيناريو الثاني: دعم الدولة ومحاصرة “حزب الله”

ينطلق هذا السيناريو من افتراض أساسي مؤداه أن الهدف الرئيس للولايات المتحدة داخل لبنان يكمن في تحجيم دور “حزب الله”، وتعزيز مؤسسات الدولة اللبنانية. تقوم السياسة الأمريكية تجاه لبنان على اعتبار “حزب الله” منظمة إرهابية تهدد استقرار لبنان كونه يعمل لصالح إيران وليس لمصلحة الشعب اللبناني. وارتباطًا بذلك، أعربت الولايات المتحدة –في أكثر من مناسبة- عن مخاوفها الكبيرة بشأن سلوك “حزب الله” وتحركاته في المنطقة. ويستند هذا السيناريو إلى التحركات التي قامت بها واشنطن فعليًا في هذا الصدد، حيث عمدت إلى تعزيز وصيانة الدولة اللبنانية عبر تقوية الجيش اللبناني في مقابل إضعاف قوة “حزب الله”. 

لم تتوقف واشنطن عند اعتبار “حزب الله” جماعة إرهابية فحسب، وإنما قامت بالعديد من الأنشطة لتجفيف منابع تمويل “حزب الله”. في ديسمبر الماضي، عقدت مجموعة تنسيق إنفاذ القانون المشتركة بين الولايات المتحدة ودول أخرى والتي تركز على مكافحة أنشطته “الإرهابية وغير المشروعة” اجتماعها الثامن في مقر يوروبول في هولندا، وركز الاجتماع على شبكات حزب الله المالية والتجارية والمشتريات وارتباطها بالنشاط الإرهابي للحزب. وفي المقابل، عملت واشنطن على ترسيخ قنوات تواصل مفتوحة مع الدولة عبر الجيش بوصفها مؤسسة محايدة لم يطلها التأثير الإيراني.

خلال ديسمبر الماضي، وافق مكتب الإدارة والموازنة في البيت الأبيض على استئناف تقديم المساعدات العسكرية للجيش اللبناني. الأمر الذي يعني –وفقًا لهذا السيناريو- أن جل الاهتمام الأمريكي بالساحة اللبنانية ينصب في محاصرة “حزب الله”، لذا سيظل الدول الأمريكي معلقًا بهذه المسألة بشكل رئيس. وارتباطًا بذلك، سيصبح تحجيم دور “حزب الله” هو المسألة البارزة في التحركات الأمريكية القادمة، وسيصبح هو الشرط الرئيس لأي مسألة دعم أمريكي للدولة اللبنانية.

السيناريو الثالث: صياغة معادلة جديدة

يستند هذا السيناريو إلى فكرة أساسية مفادها استغلال الإدارة الأمريكية للساحة اللبنانية من أجل صياغة معادلة جديدة للمنطقة. إذ إن انفجار مرفأ بيروت لم يكن نقطة البدء بالنسبة لدور واشنطن النشط على الساحة اللبنانية، لكنه مثّل المسوغ المناسب لدور أمريكي متزايد، ومهد أرضية لقبول الشروط والضغوط الأمريكية. وعليه، تدرك واشنطن أن كون لبنان ساحة مفتوحة للاعبين –الإقليميين والدوليين- يتطلب منها لعب دور مؤثر من أجل قطع الطريق على خصومها، بل أنها قد تذهب إلى أبعد من ذلك وترى أن الساحة اللبنانية هى الساحة المناسبة لتشكيل مشهد اقليمي جديد. 

فقد تسعى واشنطن إلى العمل على بناء قاعدة من الوجود المستمر، حتى تكون على مقربة من روسيا في سوريا. بعبارة أوضح، إيجاد وضع أمريكي موازن للوضع الروسي في سوريا. وكذا لتضييق الخناق على نظام الأسد عبر غلق قنوات التهريب الذي مازالت تمثل له متنفسًا مهمًا. وقد يرتبط بهذين الأمرين مسألة التوترات في شرق المتوسط ووضع مؤانيء سوريا ولبنان. 

وعلى الجانب الآخر، قد تتجه إلى تبني سياسة مختلفة مع “حزب الله” قائمة على درجة من المناورة بالاستناد إلى قبول وجوده على الساحة السياسية ودعمه –إذا دعت الظروف-  في مقابل الحد من تقاربه مع طهران. وهذا ليس بالأمر الاستثنائي فقد سبق أن تقارب الطرفان في وجه التهديد الإرهابي، إذ أشار تقرير لنيويورك تايمز عام 2014، إلى أن “حزب الله” استفاد من الأسلحة الأمريكية المقدمة للجيش اللبناني، ومن المعطيات الاستخبارية التي تقدمها واشنطن لبيروت، من أجل قيام قوات الحزب بحماية الحدود اللبنانية ومنع تسلل إرهابيي “داعش” إلى لبنان. 

ويأتي هذا التقارب مع حزب الله كمحاولة لإعادة هندسة مشهد الأزمة الخليجية. وتكمن الأسباب وراء الموافقة المحتملة لـــ”حزب الله” على هذه المساومة، هى رغبته في إعادة تجميع أوراقه، لا سيما مع تزايد الغضب الشعبي ضده. وفي حالة عدم موافقته، قد تتجه واشنطن إلى تفتيته وإخراجه من المشهد تمامًا، وتعزيز دور فصائل أخرى. ويرتبط بهذا السيناريو بعد آخر يتعلق بعملية التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، والعمل على إدماجها بشكل فعلي في المنطقة.

إجمالاً، يتضح من العرض السابق وجود رغبة أمريكية للعب دور أكثر تأثيرًا على الساحة اللبنانية بطريقة لا تحجم دور خصومها على الساحة اللبنانية فقط، وإنما لتحقيق مصالح واشنطن وحلفائها، وبل وإعادة هندسة المشهد في المنطقة برمتها. وعليه، وبالاستناد إلى نظرة أولية يتضح أن السيناريو الثاني هو المرجح، ولكن مع النظر إلى تعقيدات المشهد في المنطقة ورغبة الإدارة الأمريكية في تحقيق إنجازات أوسع لا سيما مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية، يتضح أن هناك فرص معقولة – بقدر ما – لحدوث السيناريو الثالث. 

+ posts

رئيس وحدة الدراسات الأمريكية

د. مها علام

رئيس وحدة الدراسات الأمريكية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى