مكافحة الإرهاب

نمط العنف الجنسي لدى “داعش”: الأيديولوجيا والمؤسسات والسياسات والممارسات

عرض – تقى النجار

انخرط تنظيم “داعش” الذي سيطر على مساحة واسعة من الأراضي في العراق وسوريا بين عامي 2014 و2017، في ممارسة العنف ضد المدنيين الذين يعيشون في هذه المناطق. وعلى الرغم من التغطية الإعلامية الواسعة والاهتمام الأكاديمي، إلا أن محددات هذا النمط من العنف لا تزال غير واضحة. فعلى عكس الافتراض الشائع بأن “داعش” يمارس العنف بشكل عشوائي، نجد أن التنظيم يعمل بشكل شديد المنهجية في استهداف فئات معينة بالعنف، بما في ذلك العنف الجنسي. وفي هذا السياق جاء تقرير على “شبكة بحوث العلوم الاجتماعية“(SSRN) في يوليو2020 تحت عنوان “نمط العنف الجنسي لدى داعش: الأيديولوجيا والمؤسسات والسياسات والممارسات”، الذي أنطلق من قناعة مفادها أن تنظيم “داعش” تبنى سياسات تنظيمية ذات دوافع إيديولوجية سمحت بأشكال معينة من العنف الجنسي، ونظمت الظروف التي يمكن أن يحدث في ظلها، وحددت الفئات الاجتماعية التي يمكن استهدافها بشكل شرعي.

أولًا: العنف الجنسي من قبل “داعش” في العراق وسوريا (2014-2017)

استعرض التقرير ممارسات العنف الجنسي التي اتبعها تنظيم “داعش”، حيث اتخذ العنف الجنسي ضد المدنيين عدة أشكال، كل منها يستهدف مجموعات اجتماعية معينة، وتنوعت تلك الممارسات ما بين السبي (أسر واسترقاق نساء وأطفال غير السنيات)، والزواج القسري، وزواج القاصرات. فقد قام “داعش” بتنظيم الاتجار بالنساء والأطفال الإيزيديين الذين فصلوا بشكل منهجي عن الرجال. حيث أدار تنظيم العديد من أسواق العبيد في العراق وسوريا. وبالإضافة إلى الإيزيدين، كانت هناك فئة أخرى طبق عليها نظام الاسترقاق وهم “الشيعة”، إذ أعلنت الحكومة العراقية عن قيام تنظيم “داعش” باسترقاق حوالي 100 من النساء الشيعيات المنتميات إلى مجموعة التركمان العرقية.

وأشار التقرير إلى أنه بالرغم من أن عدم خضوع النساء السنيات إلى نظام الاسترقاق والسبي، إلا أنهن تعرضن إلى شكل آخر من أشكال العنف الجنسي: وهو الزواج القسري في مناطق العراق وسوريا التي يسيطر عليها التنظيم، حيث واجهت النساء السنيات ضغوطًا اجتماعية واقتصادية شديدة للزواج من مقاتلي “داعش”. وفي إطار ممارسة التنظيم العنف الجنسي، انخرط في اتباع هذا النهج تجاه الأطفال، وتمثل في إقرار التنظيم زواج القاصرات للفتيات السنيات. 

ثانيًا: تفسيرات متعددة حول ممارسة “داعش” للعنف الجنسي

تناول التقرير عددًا من الرؤى التي حاولت تقديم تفسيرات مختلفة لدوافع انتهاج “داعش” للعنف الجنسي، والتي يمكن إجمالها على النحو التالي:

  1. تعزيز الصورة الجهادية: يمكن القول إن ممارسة التنظيم لأشكال مروعة من العنف، تأتي بدافع جذب انتباه وسائل الإعلام، وتعزيز الصورة الجهادية، والحصول على ميزة تنافسية، ولا سيما في ظل تصاعد التنافس بينه وبين وغيره من التنظيمات الإرهابية.
  2. اجتذاب المجندين: قام “داعش” بالترويج لاستراتيجية الاسترقاق والسبي بهدف جذب المجندين الانتهازيين الذين يسعوا إلى الانضمام للتنظيم من أجل الحصول على الحوافز المادية، مثل الرواتب، والسكن، والاستغلال الجنسي للنساء.
  3. المكون الديموغرافي: جاءت بعض التحليلات التي ترى أن التركيبة السكانية لمجندي “داعش” لعبت دورًا في نمط عنف التنظيم. فقد جادل بعض الخبراء بأن التنظيم قام عمدًا بتجنيد الأفراد الذين لديهم ميل فطري لممارسة العنف أو الأفراد الذين يعانون من الأمراض العقلية.

ثالثًا: أيديولوجية داعش وممارسة العنف الجنسي

لفت التقرير إلى أن تنظيم “داعش” يوظف الأيديولوجيا بشكل فعال لتبرير العنف الذي يرتكبه لتحقيق أهداف استراتيجية أو برجماتية. إذ إنه وضع الأيديولوجية كإطار حاكم لممارسة العنف، في التنظيم مثله مثل المنظمات السلفية الجهادية الأخرى يطمح إلى إعادة بناء المجتمع الإسلامي من خلال استخدام العنف. بعبارة أخرى، يمكن القول إن التنظيم لديه هدفين؛ يتعلق أولهما بإنشاء نظام حكم قائم على الشريعة الإسلامية على أساس “الخلافة”. وينصرف ثانيها إلى استخدام العنف لتحديد الأهداف. وفي هذا الإطار أشار التقرير إلى أن وجود ثلاثة جوانب لأيديولوجية “داعش” انعكست آثارها بوضوح على استخدام التنظيم للعنف، بما في ذلك العنف الجنسي، سوف يتم تناولها على النحو التالي:

  1. العنصر الأول: يزعم “داعش” أنه يُعيد إنشاء “الخلافة”، ويدعو تنظيم إلى القراءة الحرفية للقرآن والسنة، غير أنه يرفض التفسيرات الأكثر اعتدالًا لصالح الأكثر تطرفًا.  بالنظر إلى الأيديولوجية السلفية الجهادية للتنظيم نجد أن عمل على إنشاء نفس المؤسسات والسياسات التي كانت موجودة خلال فترة الخلافة ليس فقط تلك التي تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية، مثل بيت المال، ولكن أيضًا تلك التي تُنظم الاسترقاق والسبي (ملحوظة: عندما جاء الإسلام ضيَّق مصادر الرق وحصر جميع منابعه، وفتح الباب أمام تحرير الرقيق، وجعل ذلك من القربات التي يتقرب بها المسلم إلى الله، ما يؤكد على أن تلك مزاعم لدى التنظيم، وأن تفسيراته للقرآن والسنة قائمة على فصل النص عن سياقه بهدف تحقيق أهدافه ومصالحه)
  2. العنصر الثاني: هو مفهوم “الخلافة”، الذي يفسره السلفيون الجهاديون تفسير خاطئ قائم على أساس أنه نموذج ديني و سلطوي للحكم، حيث تكون حقوق المعارضة معدومة لتعزيز الطاعة. وفي هذا السياق، عمل “داعش” على إنشاء مؤسسات لنشر القواعد الخاصة به. ويمكن القول إن أهم المؤسسات التي عززت أيديولوجية “داعش” كانت قسم الأبحاث والفتاوى. وتألفت هذه الهيئة، التي تم تشكيلها بحلول عام 2014، من علماء الدواعش الذين قاموا بإصدار “فتاوى” حول المسائل الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية. كذلك قام قسم الأبحاث والفتاوى، بتشجيع عناصر “داعش” على استيعاب معتقدات التنظيم والامتثال لسياساته، بما في ذلك سياسات تنظم العنف الجنسي.
  3. العنصر الثالث: يُفسر “داعش”، مثله مثل الجماعات السلفية الجهادية الأخرى الشريعة الإسلامية على أنها تتطلب مجتمعًا أبويًا للغاية حيث يكون الرجال مسؤولين عن الحرب، وتؤدي النساء دورًا داعمًا كزوجات وأمهات. كما تفسر الجماعات السلفية الجهادية أن الشريعة الإسلامية تجيز زواج القاصرات من الفتيات في سن صغير. وعليه، انخرط “داعش” في زواج القاصرات بما يتفق مع الدور الذي تلعبه النساء، حيث يتم إعدادهن ليصبحن زوجات وأمهات.

رابعًا: داعش والعنف الجنسي بين السياسات والممارسات.

أشار التقرير إلى ضرورة التمييز بين مفهوم “الممارسة” ومفهوم “السياسة”. إذ يتناقض مفهوم “الممارسة” مع مفهوم “السياسة”، التي تعنى “أطر تم تبنيها عن قصد من قبل التنظيم لتحقيق أهدافه”. ومع ضعف التنظيم وعدم وجود مؤسسات قادرة على ضبط ممارسات أعضاءه، ينخرط المقاتلون في عنف غير منظم وعشوائي.  وفي هذا السياق، رصد التقرير حالات لعنف جنسي قام به التنظيم. وقد تنوعت تلك الحالات بين ما تم تبنيه كسياسة، وما تم اتباعه كممارسه.

  • سياسة استرقاق الإيزيديات

طبقًا للتقرير، قام تنظيم “داعش” باتباع سياسة منهجية لاسترقاق فئات اجتماعية معينة، في ضوء تفسيره المغلوط للشريعة. إذ تُشير منشورات التنظيم إلى إمكانية استرقاق كل من الرجال والنساء، ولكن في الواقع، جاءت النساء في المقام الأول في إطار سياسة الاسترقاق. ومع ذلك، وجدت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أدلة على استعباد بعض الرجال والصبية الإيزيديين (أولئك الذين لم يتم إعدامهم أثناء الهجوم على جبل سنجار) في شكل عمل قسري.  وقد تم إجبارهم على اعتناق الإسلام وأداء أعمال السخرة بما في ذلك البناء وحفر الخنادق وتنظيف الشوارع.

وأشار التقرير إلى قيام “داعش” بتنظيم تجارة الرقيق من خلال إدارة العديد من أسواق الرقيق الرسمية في العراق وسوريا، حيث تم بيع العبيد في بعض الأحيان بأسعار ثابتة، وفي حالات أخرى كان يتم بالبيع بالمزاد العلني.  وفي هذا السياق، سمح التنظيم بالاستغلال الجنسي للنساء الذين يتم استرقاقهم.  وفيما يخص الفتيات الخاضعين لنظام الاسترقاق. أتاح ممارسة الجنس معهن حتى قبل بلوغهن سن الرشد في حالة صالحيتهن للجماع.

  • سياسة زواج القاصرات

 تناول التقرير أتباع التنظيم لسياسة منهجية قائمة على زواج القاصرات. فعلى النقيض من الاسترقاق الممنهج وواسع النطاق للنساء الإيزيديات، لم يستعبد “داعش” النساء المسلمات السنيات، لكنه تبني سياسات أجازت ونظمت العنف الجنسي ضد النساء السنة، وذلك في إطار اتباع سياسة زواج القاصرات للفتيات. وبالنظر إلى أن الحد الأدنى لسن زواج لدى التنظيم كان (9 سنوات) وهو سن منخفض للغاية. 

  • ممارسة الزواج القسري للسنة

 لفت التقرير إلى شكل آخر من أشكال العنف الجنسي الذي لم يصرح به “داعش” كسياسة ممنهجة، ولكن حدث كممارسة، هو الزواج القسري للنساء السنيات. إذ أن التنظيم لم يسمح رسميًا “بالزواج القسري” للنساء المسلمات، وحظره بشكل ضمني. إلا أن النساء السنيات اللاتي يعشن في المناطق الخاضعة لسيطرة “داعش” واجهن ضغوطًا شديدة للزواج من مقاتلي “داعش”، وصلت في كثيرة من الحالات إلى التهديد بالقتل. ولم يستطيع التقرير التوصل إلى أي وثيقة تُشير إلى معاقبة التنظيم لمن تورط في إجبار النساء على الزواج. وبالتالي كان نهج الزواج القسري للنساء السنة ممارسة يتم غض الطرف عنها.

مجمل القول، استعرض التقرير الجوانب المختلفة لممارسة “داعش” للعنف الجنسي. حيث قام التنظيم بوضع سياسات تبُيح الاسترقاق، وتُشرع جواز القاصرات، و تسمح بالزواج القسري.  ومن أجل شرعنة لتلك الممارسات اعتمد التنظيم على التفسير المغلوطة للشرعية الإسلامية، حيث وظف الإيدلوجية بشكل فعال لتبرير العنف الذي يرتكبه لأسباب استراتيجية أو برجماتية.



+ posts

باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

تقى النجار

باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى