مقالات رأي

د. صبحي عسيلة يكتب .. بيروت: أتكون ست الدنيا منكوبة!!

“نعترف أمام الله الواحد بأنا جرحناك واتعبناك.. بأنا أحرقناك وأبكيناك.. وحملناك أيا بيروت معاصينا”، كلمات ليس كالكلمات تغنت بها الرائعة ماجدة الرومي رغم ما فيها من تخفيف عما كتب المبدع نزار قباني. كلمات ليست كأي كلمات حملتها أغنية للوطن الجريح الذي كان ينزف أمام أهله ومحبيه وأيضا أمام جلاديه سنوات وعقود طويلة دون أن تأخذهم به الرحمة أو يهتز لهم جفن. بيروت لم تحترق في الرابع من أغسطس 2020 ولم تحل به النكبة فيه. بيروت تحترق منذ عقود تحت وطأة الفساد والسلاح ونار الارتهان للقوى الإقليمية والدولية. احترقت تحت وطأة القوى التي اتخذت من لبنان بأسره مسرحا لحروبها وورقة يتلاعبون بها خدمة لمصالحهم. ما حدث من انفجار في بيروت في الرابع من أغسطس كان كاشفا للعطب والسرطان الذي ينهش في جسد بيروت. كان رفعا للستار عن اللاعبين الذي يؤدون أدوارهم على المسرح بينما الستار مسدلا، فالجماهير تشعر بهم وتتأكد من وجودهم ولا يرونهم رؤى العين. الأن رفع الستار وانهار المسرح واستدعي الجميع رائعة نزار قباني متى سترحلون.. المسرح انهار على رؤوسكم.. متى سترحلون؟والناس في القاعة.. يشتمون يبصقون…. احترق المسرح من أركانه… ولم يمت بعد الممثلون”. الأن لا صوت في بيروت يعلو على صوت المطالبة بموت الممثلين أو على الأقل رحيلهم، فالمسرح انهار والجماهير لم يعد لديها ما تدفعه لكي تشاهد المزيد من العروض الرخيصة. حتى ترميم المسرح وإعادة إسدال الستار لن يكون مبررا مقنعا للجماهير للعودة إليه مرة أخرى والقبول بمشاهدة عروض من خلف الستار، أو بالأحرى من خلف الدولة.
نكبة بيروت تؤكد مجددا أهمية وجود دولة بلا دول داخلها، بلا قوى تدين بولائها جهارا نهارا لدول أخرى. نكبة بيروت لابد أن يكون ما بعدها لا يمت بصلة لما كان قبلها حتى لا تطال النكبة لبنان بأكملها. احتراق المدن الكبرى بهذا الشكل لا يمر مرور الكرام . حريق القاهرة في يناير 1952 كان مقدمة لتغيرات تاريخية في مصر وكتابة فصل جديد في حياة المصريين منبت الصلة عن الفصل الذي كان قبل الحريق. انفجار بيروت لابد أن يكون المشهد الأخير في تلك المسرحية السخيفة التي فرضت على اللبنانيين وفرض عليهم تمويلها من قوت يومهم وأمنهم واستقرارهم. لا بديل عن رحيل كل الممثلين “كلن يعني كلن”. كلن فاسدون ومسئولون ولو بالصمت العاجز. كلن سحقوا مستقبل لبنان. كلن ضاجعوا الفساد فتكاثر لقاء مصالح شخصية طائفية. كلن سهلوا بصمتهم مهمة استيلاء فصيل مسلح على لبنان. كلن مرروا لحظة اقتحامه بيروت بالسلاح عام 2008. كلن تساهلوا مع انفجار موكب رفيق الحريري وقبلوا بغياب الحقيقة خمسة عشر عاما. وقبل ثلاثة ايام من إصدار الحكم في القضية كان قرار احراق بيروت جاهزا للتنفيذ. فهل هي مصادقة! المؤكد حتى الان ان المواد المتفجرة كانت مخزنة في المرفأ منذ ست سنوات، فلماذا وكيف انفجرت الان! هل كان المطلوب هو إشغال اللبنانيين عن الحكم في القضية وتحذيرهم من أي رد فعل تجاه كل مسئول عن الاغتيال!
لقد وصل لبنان الآن إلى مفترق طرق حقيقي.أنها لحظة الحقيقة ومواجهة النفس واختيار الطريق للغد. اختاروا الدولة أو اللادولة فجبن ألا تختاروا، فلا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار. ليكن الانفجار إيذانا بعودة الدولة الحبيبة المفقودة. الدولة التي طالما حلم بها اللبنانيون وتغنوا لها. فلا معنى لاستمرار الواضع الراهن في لبنان. وضع يجعل من الدولة على ضعفها مشجب للفصائل والطوائف والسياسيين يعلقون عليه فشلهم ويستخدمونه لتحقيق كل مصالحهم فإذا وقعت المصيبة صوب الجميع سهامه على الدولة وغسلوا أيديهم من المصيبة. وإذا كان نزار قد خاطب عشاق بيروت سائلا إياهم عن الملاذ لو ضاعت بيروت بقوله ” آه ياعشاق بيروت القدامى.. هل وجدتم بعد بيروت بديلا”، فإن النداء الذي يدوي الأن بعد انفجار واحتراق بيروت هو هل من عشاق لبيروت جدد اليوم وماذا هم فاعلون ومعشوقتهم تحترق وتضيع.
وأيا كان ما ستسفر عنه التحقيقات، إن أريد لها أن تكتمل، فالمؤكد أن الواجب فعله من كل اللبنانيين ومحبيه الأن هو تحرير لبنان من القابضين على مقدراته وهيبته. تحرير لبنان من أغلال الفساد وأغلال مطامع الطبقة السياسية في كل الطوائف الدينية منها والسياسية، وتحريره من قبضة حزب الله وتوجهاته وارتباطاته الخارجية. فلبنان ليست رهينة ولا يجب أن تبقى صورتها هكذا. حزب الله كان حاضرا بصرف النظر عن طبيعة وحجم ذلك الحضور في كل المصائب السياسية والاقتصادية وأيضا الاجتماعية التي حلت بلبنان، وسوف يكون حاضرا بشكل أو بآخر في مصيبة انفجار أو احتراق بيروت، فمعظم خيوط اللعبة اللبنانية تبدأ من عنده وتنتهي. ومع ذلك أيضا فإن خروج نتيجة التحقيقات ومعرفة المسئول عما حدث يظل مؤشرا قويا لحجم التغيرات التي ستمر بها لبنان، بل مؤشرا لعودة الدولة اللبنانية من عدمه. عودة الدولة اللبنانية تعني عودة لبنان وطنا لكل اللبنانيين الذين يشهد كل منهم الله والزمن اليوم أن “حلمي كلمة واحده أن يظل عندي وطن. لا حروب ولا خراب لا مصايب . .لا محن… خذوا المناصب والمكاسب. لكن خلّولي الوطن”، فالوطن حبيب وعز وتاج للرؤوس لكل ذو عقل وقلب. كل ما طلبه نزار قباني من اللبنانيين ليعود لبنان جميلا هو أن يحبوه قليلا، فـ “إن يموت لبنان متم معه.. كل من يقتله كان القتيلا.. كل قبح فيه قبح فيكم.. فأعيدوه كما كان جميلا…. كل ما يطلبه لبنان منكم.. أن تحبوه تحبوه قليلا”. وحب لبنان وعشقه واجب، فـ “لقد علمكوا لبنان أن تعشقوا.. لم يكن لبنان في العشق بخيلا”. لقد آن لأسر لبنان ينتهي، فاللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرج لبنان واللبنانيين من بينهم سالمين.

د.صبحي عسيلة

رئيس وحدة دراسات الرأي العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى