شرق المتوسط

الصعود اليوناني … في ضوء إعادة صياغة ترتيبات الأمن الأوروبي

تتجه الأنظار إلى اليونان لتصبح أحد الفواعل الصاعدين بشكل لافت بمعادلة القوة في شرق البحر المتوسط، والتي بدأت في التحرك سريعًا لتتخطى العقبات التي أعاقت تطوير قدراتها الاستراتيجية وعلاقات الشراكة الإقليمية والدولية ودفعتها للتراجع في خضم صراع متنامي يمس مباشرًة مصالحها الاقتصادية وسيادتها وحقوقها التاريخية، لاسيما في ظل الانتهاكات التركية المهددة لاستقرار دول حوض شرق المتوسط. وتتناول هذه الورقة حالة اليونان ووضعها في معادلة القوة بالوقت الراهن، والتحركات التي تبنتها السلطات في أثينا نحو تعزيز موقعها في الإقليم، بالإضافة إلى نمط الشراكات الإقليمية والدولية التي تسعى لتحقيقها لضمان انجاز هذا المسار، وصولًا لاستشراف المسارات المُرجحة لتطور دور اليونان في معادلة القوة شرق المتوسط.

أثينا … الوضع الراهن والتحديات القائمة

تحتل القوات المسلحة اليونانية المرتبة (33) عالميًا، والرابعة بين دول إقليم شرق المتوسط، يُقدر تعداد الجيش اليوناني بنحو (750.000) عسكري، منهم (200.000) بالخدمة و(550.000) بالاحتياط، ليصبح ثاني أكبر قوة -من حيث العدد- بين دول شرق المتوسط بعد الجيش المصري. وتمتلك اليونان (566) طائرة عسكرية، إلى جانب (1,355) دبابة و(3,691) مدرعة، وتُقدر قوتها المدفعية بـ (1.010) مدفع، بالإضافة إلى (116) قطعة عسكرية بحرية. وتبلغ موازنة الدفاع اليونانية نحو (4,844,000,000) دولار أمريكي. ولا يُلبي حجم القدرات العسكرية الحالي تطلعات أثينا للتعاطي مع التحديات الإقليمية والمتغيرات الدولية التي تهدد أمنها ومصالحها، وتبرز على قائمة تلك التحديات أطماع وسلوك الجارة التركية، وهو ما يرتبط بملفات الطاقة والمهاجرين بشكل كبير.

وتتعاطى أنقرة بشكل مقوض لأمن واستقرار شرق المتوسط بشكل عام، والذي يمس اليونان بشكل مباشر؛ إذ أقدمت تركيا على توقيع مذكرة تعاون بحري مع حكومة الوفاق بليبيا،  في نوفمبر2019، والتي تسمح لها باستكشاف موارد الطاقة في مساحة واسعة من المتوسط، وهي تنتقص من المياه الاقتصادية اليونانية، كما حركت أنقرة سفينة للتنقيب عن الغاز، في يناير2020، داخل الجرف القاري اليوناني -لكن خارج مياهها الإقليمية- وهو ما دفع أثينا لتحريك فرقاطة للتصدي للسفينة إذا ما دخلت إلى مياهها الاقتصادية، أضافة إلى ذلك النزاع القائم بين الدولتين حول السيادة على جزر بحر إيجه والموارد الاقتصادية به، وهي أزمة متكررة تشهد تبادل الاتهامات ومظاهر العسكرة المتفاوتة، وتتعمد المقاتلات التركية اختراق الأجواء اليونانية في تلك المنطقة، وهو ما يدفع القوة الجوية اليونانية لمطاردة المقاتلات التركية خارج أجواءها.

كما تستخدم تركيا ورقة المهاجرين للضغط على اليونان، حيث تُعد الحدود البرية بين الدولتين معبرًا للمهاجرين غير الشرعيين، وكشف تقرير منظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة عن تزايد أعداد اللاجئين عبر تلك المنطقة من 255 شخصا في مايو2019 إلى 1233 شخصا في سبتمبر من العام ذاته. وتصاعدت تلك الضغوط مع إلغاء تركيا لاتفاق الحدود البرية الثنائية مع اليونان بشكل أحادي، والتي كانت تقضي بإعادة المهاجرين بين تركيا واليونان؛ بعد رفض الاخيرة تسليم (8) من الضباط الأتراك الذين فروا إليها بعد انقلاب 2016.

اتجاهات تعزيز قوة اليونان

تسير أثينا في عدة اتجاهات نحو تعزيز موقعها بمعادلة القوة الإقليمية، ومواجهة الأطماع التركية وسلوكها المهدد لمصالحها، وتتنوع بين إعادة تشكيل صورتها في الإقليم وبين بناء تحالفات وشراكات مع الدول الكبرى ودول الجوار، بنمط يدعم خطاها نحو رسم أطر تعاون أكثر تلبيةً لرغباتها التنموية والتطويرية، وفيما يلي نبرز أهم تلك الاتجاهات:

  • الانخراط المبكر في تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط: جاءت أولى تلك الخطوات بانضمامها للدول المؤسسة لمنتدى غاز شرق المتوسط، وهو إطار تعاوني إقليمي -ترى تركيا أنه حرمها من فرض النفوذ والسيطرة على ثروات دول المنطقة- ويُعد أهم الترتيبات الاقتصادية الجارية في الاقليم. وبالتالي سعت اليونان إلى تعظيم تقدمها في ملف الطاقة بشكل أكبر، وهو ما تبلور في اتفاقها مع قبرص وإسرائيل على تدشين خط غاز “ايست ميد” لنقل غاز الدول الثلاث عبر أراضيها الى السوق الأوروبية، ومن شأن هذا الخط أن يعزز من مكانة أثينا كمعبر للطاقة إلى أوروبا، وبالتالي تلعب دور محوري يحاكي الأهمية التي حلت على أراضي تركيا مع تفردها مسبقًا بدور الممر لخطوط الغاز الى أوروبا.
  • بناء تحالف مع باريس: استمرت مساعي اليونان لتدعيم مكانتها عبر الشراكات الاستراتيجية مع القوى الدولية والأوروبية، وأصبحت علاقات التعاون مع فرنسا “أفضل من أي وقت مضى”، وفقًا لتصريحات رئيس الوزراء اليوناني مؤخرًا، وتتقاطع الأهداف اليونانية الفرنسية في عدة ملفات منها الملف الليبي الذي ترغب باريس في وقف تدفق الدعم التركي وتهريب السلاح إلى طرابلس، كما تريد أثينا تحييد حكومة الوفاق وقطع الدعم عنها؛ رغبةً في إسقاط مساعي أردوغان بتوسيع المياه الاقتصادية بما يخالف القانون الدولي للبحار، كما تُعد قبرص قضية أخرى تتقاطع بها مصالح فرنسا واليونان؛ إذ تعطل تركيا أعمال الشركات الفرنسية في المياه القبرصية، وترسل سفن تنقيب إلى تلك المناطق، وهو ما تعتبره أثينا انتهاكًا لحقوق القبارصة اليونانيين الاقتصادية. لذا أشركت اليونان فرقاطة بمهمة مع حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديجول” في شرق المتوسط، وتجري مفاوضات لـشـراء فـرقـاطـتـين فرنسيتين وبناء أجزاء منهما في ترسانتها البحرية. وتتجه فرنسا واليونان لتوقيع اتفاقًا استراتيجيًا؛ رغبةً في اكتساب الدعم الفرنسي بمواجهة تـركـيـا، وجـذب استـثمارات كبرى من باريس تنعش الاقتصاد اليوناني، وتوطين وتقوية صناعتها الدفاعية بعد خفض ميزانية دفاعها لأسباب اقتصادية.
  • تفعيل الشراكة مع واشنطن: وفي مسار موازيٍ للسابق، طورت اليونان من علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وأعادت تـفـعـيـل اتـفاق عسكري معها، وكشفت تقارير حكومية عن رغبة أمريكا في استثمار مبالغ كبرى باليونان بأنشطة دفاعية وأمنية، ويقضي الاتفاق بتوسيع أنشطة الولايات المتحدة في ثلاث قواعد عسكرية باليونان. ويأتي على قائمتها استثمار (12) مليون يورو في قاعدة “لاريسا” الجوية، بالإضافة إلى (6) مليون يورو بقاعدة “سودا” الامريكية بجزيرة كريت، وتكثيف عمليات الجيش الأمريكي بها، ويحقق هذا الأهتمام الأمريكي باليونان تحديث أسطولها الجوي من مقاتلات (إف-16) الأمريكية، والحصول على طائرات بدون طيار متقدمة، إلا أن التطور الأبرز هو إمكانية حصولها على مقاتلات (إف-35) الأمريكية المتطورة، بعد أن أبدت أثينا رغبتها في امتلاكها، والتي قد تتيح لها موازنة القدرات الجوية التركية. 

ودخلت الولايات المتحدة على خط أزمة الغاز في شرق المتوسط بما يتوافق مع مصالح اليونان، وأصبح تجمع (3+1) الذي يضم قبرص واليونان وإسرائيل بالإضافة الى واشنطن هو صيغة جديدة للتعاون في إدارة ملف الطاقة بالمنطقة، ومجددًا تلاقت مصالح الولايات المتحدة الراغبة في خفض الاعتمادية الأوروبية على الغاز الروسي، والطموحات اليونانية المستهدفة لاستغلال مواردها الاقتصادية بالشكل الأمثل، وبذلك تمكنت اليونان من كسب الدعم والتأييد الأمريكي لحماية مصالحها الاقتصادية، وهو ما قد يمكنها من مواجهة أو كف الأنشطة التركية غير الشرعية، وتجلت مظاهر ذلك في مشاركة واشنطن وقبرص واليونان وايطاليا وفرنسا بمناورات موسعة، والتي جاءت في فترة من تصاعد التوتر بمسرح عمليات المتوسط بعد السلوك التركي المزعزع لاستقرار دول المنطقة، وهو مؤشر على تصدر اليونان وأهميتها دوائر صنع السياسات الغربية ويضعها مستقبلًا في قلب الترتيبات الامنية القادمة بالمنطقة.

  • ترسيم المياه الاقتصادية مع مصر وإيطاليا: نجحت أثينا في انجاز ملفي ترسيم الحدود البحرية مع القاهرة وروما، لتقطع بذلك الطريق على الادعاءات التركية التي كانت تسعى للانتقاص من ثرواتها، وأظهر هذا النجاح مدى عودة اليونان كفاعل اقليمي ذا ثقل قادر على تحديد أولوياته، وإقناع شركائه والدول الصديقة بها، كذلك استباق الأطماع التي يقودها نظام العدالة والتنمية التركي ضد مصالحه، وحماية مقدرات الشعب اليوناني وثرواته من أن يتم ممارسة أنشطة قرصنة عليها. ومع ترسيم تلك الحدود وإيداع تلك الاتفاقيات بالأمم المتحدة، فقد وجهت أثينا ضربة قوية لـ “أردوغان”، وأعادت تقديم نفسها للإقليم والقارة الاوروبية، كدولة فاعلة قادرة على مواجهة السلوك التركي غير المسئول، وتمكنت من تثبيت قواعدها وحدودها البحرية وفقًا لقواعد القانون الدولي. 

الحليف البديل … اليونان كخيار استراتيجي للغرب

تتشكل بمرور الوقت صورة أكثر وضوحًا، تبرز منها رغبة وقدرة أثينا على أن تصبح هي الحليف الأكثر قابلية للوثوق به للدول الإقليمية والأوروبية والولايات المتحدة، فعلاقاتها بحوض شرق المتوسط استراتيجية قائمةً على التعاون والتنمية المشتركة، ولم تتورط اليونان في نزاعات إقليمية أو قضايا خلافية تتناقض مع اتجاهات الناتو أو الاتحاد الأوروبي، كما أصبحت الدبلوماسية اليونانية ذات تأثير وقدرة جيدة على توظيف برامجها وما تتعرض له من أنشطة تركية مقوضة لأمنها ومصالحها، وهو ما مكنها من اكتساب دعم دولي كبير قد يمكنها من تصدر قائمة الخيارات الاستراتيجية في علاقات التعاون بمجالات الدفاع والطاقة.

وفي ظل الاضطرابات المستمرة شرق المتوسط، وتورط تركيا في العديد من الصراعات كالنزاع الليبي والسوري واستهداف الأكراد شمال العراق وسوريا، ومناوئة قبرص واليونان، والضغط على أوروبا بورقة المهاجرين، بالإضافة إلى علاقاتها المتشابكة مع روسيا، ومع التمرد التركي على قواعد القانون الدولي، أصبح البحث عن لاعب أوروبي قادر على أداء دورًا فعالًا في تطبيق سياسات الدفاع الاوروبية بنجاح هو الغاية التي تنظرها الدول الاوروبية في الحلف، التي تشعر أن وجود تركيا في الناتو معطل لجهود الاستقرار بجنوب القارة-المتوسط، فمن المُحتمل أن تتجه الولايات المتحدة والدول الأوروبية والناتو وحوض شرق المتوسط للاعتماد على اليونان كبديل استراتيجي للنظام التركي الفاقد لموثوقيته لدى تلك الأطراف، وظهرت العديد من الدعوات الغربية التي تعتبر اليونان خيارًا جذابًا لنقل الأصول العسكرية الأمريكية من تركيا إليها، وتؤكد على أهمية تدعيم وتطوير الوجود العسكري الأمريكي باليونان، بما يشمل نشر البحرية الأمريكية في الموانئ الاستراتيجية، ونشر مستودعات الوقود والطائرات بدون طيار، وتوسيع عمليات التدريب الجوية. 

مُجمل القول، فالصعود اليوناني المتزن بين الأطراف المهتمة بقضايا أمن الشرق الأوسط بشكل عام، والطاقة في شرق المتوسط بشكل خاص، يُمهد إلى مرحلة جديدة من التعاطي الدولي مع المنطقة، وينعكس بهزات كبرى داخل النظام التركي، إذ سيقوده إلى التراجع أمام وجود حليف موثوق إقليميًا غير مستخدم لأوراق ضغط وأنشطة تُصدر المزيد من الأعباء الأمنية والاقتصادية والإنسانية لدول المنطقة، ولكن تظل المعادلة الأصعب للأطراف الأوروبية والولايات المتحدة هي ضبط السلوك التركي حال خفض الاعتمادية التي تبقى على هيكل نظامه الحالي، واحتمالات اتجاه انقرة إلى التشبيك والتحالف بشكل غير محدد التداعيات مع روسيا، في ظل الصعود الروسي واهتمام موسكو المتزايد بالمتوسط وقضاياه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى