مقالات رأي

د.جهاد عامر تكتب :مجلس الشيوخ .. ومشروع الدولة المصرية

عندما توافق المصريون على مشروع بناء الدولة عقب ثورة 30 يونيو، كانوا يعلمون بأن الطريق طويل وصعب ويحتاج إلى جهد كبير وإرادة قوية، فى مواجهة تحديات غير مسبوقة أمنيا واقتصاديا وسياسيا، وجماعة إرهابية مدعومة خارجيا من أهل الشر حاولت اختطاف الوطن وتغيير الهوية المصرية.
وخلف زعامة سياسية وطنية قديرة احتشد المصريون للمشاركة فى مشروع بناء الدولة بدعم كبير من المؤسسة العسكرية قلب الدولة الصلب وعمودها الفقرى، وكانت البداية المنطقية وضع دستور جديد يحدد خريطة الدولة المطلوبة وتنظيمها المأمول بشكل يكفل سرعة الإنطلاق، على أن يتم مراجعة مايلزم من مواد هذا الدستور بعد ذلك على ضوء تطورات الأوضاع على الأرض، وما سوف يظهر من احتياجات جديدة وإعادة تنظيم للأنساق الموجودة.
وفى هذا السياق كان الإجماع على ضرورة وجود غرفة برلمانية ثانية تقوم بعدة مهام يستلزمها البناء الصحيح لمؤسسات الدولة، وتضيف إلى الحياة الديمقراطية والنيابية زخما كبيرا يساعد فى التعبير عن الإرادة الشعبية وترجمتها فى صورة تشريعات وسياسات تلبى احتياجات الجماهير.
وقد ظهر واضحا من خلال النشاط الكبير الذى قام به مجلس النواب الحالى، بإقرار عدد ٨٠٤ قوانين و٢٨٠ إتفاقية حتى الآن فى مختلف المجالات إلى جانب دوره الرقابى، والأهم المساهمة فى العبور بالدولة بفترة من أدق وأصعب الفترات فى تاريخ مصر، أننا بحاجة إلى غرفة نيابية ثانية تساعد فى هذه المهام وفقا للتصور الذى وضعه الدستور لمجلس الشيوخ ويتمثل فى: إبداء الرأى فى الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، ومشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة، ومشروعات القوانين ومشروعات القوانين المكملة للدستور التى تحال إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب، وما يحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها فى الشئون العربية أو الخارجية.
إن المرحلة التى نعيشها الآن من خلال انتخابات مجلس الشيوخ، تمثل نقلة نوعية مهمة فى تاريخ المجالس النيابية المصرية وحركة التطور الديمقراطى، وتعكس أهمية تكاتف العقول والخبرات المصرية المعبرة عن الإرادة الشعبية لبناء مشروع الدولة، والمساهمة فى معركة البناء والتنمية، فإذا كان لدينا الآن أكثر من مائة حزب سياسى، فإن الإنتخابات العامة هى دائما المقياس الأساسى لمدى جماهيرية كل حزب وارتباطه بالشارع، وبالتالى التعرف على حجمه السياسى الحقيقى، وهو أمر نحتاجه الآن لنفتح الطريق نحو تجربة حزبية أكثر رسوخا، تتجمع فيها الأحزاب المتشابهة على أسس وطنية، ويتكاتف الجميع لتحقيق المصالح العليا للوطن، ويمثل مجلس الشيوخ مضماراً هاماً لعمل هذه الأحزاب ولتتمكن من طرح رؤاها فى مختلف القضايا والإتجاهات، بما تشكله من مخزون خبرات وطنية وما تمثله من تيارات فكرية وسياسية وما تحمله من برامج لتنمية مصر.
إن التاريخ سيذكر أن مشروع بناء الدولة فى مصر خاض مجموعة من المعارك المصيرية على جبهات مختلفة فى وقت واحد، ابتداء من معركة استعادة الأمن والاستقرار التى واجهنا فيها تنظيم إرهابى دموى، كان يظن أنه تمكن فى غفلة من الزمن من السيطرة على مقاليد الحكم وبدأ مرحلة التمكين ليحاول خطف الوطن وتغيير الهوية، لكن الشعب المصرى الذى خرج بالملايين فى 30 يونيو لَقَنه درساً تاريخياً أطاح فيه بأحلامه الواهية، وإنحازت القوات المسلحة إلى إرادة الشعب فى مواجهة جنون التنظيم الإرهابى الذى حاول إشعال النيران فى جَنَبات الوطن عبر حوادث التفجير والإغتيال والتخريب انتقاما من الشعب، وتطبيقا لمبدأ (يانحكمكم يانقتلكم)، ودفع المصريون دماء كثير من الشهداء ثمناً لمواجهة هذا الإرهاب الغادر واستعادة الأمن والإستقرار.
ثم جاءت معركة الإصلاح الإقتصادى التى تطلبت إتخاذ إجراءات جذرية ليس فقط للخروج من الأزمات الإقتصادية الخانقة التى كان تعرقل تقدمنا وتستنزف مواردنا، ولكن من أجل الإنطلاق فى حركة تنمية مستدامة تحقق لمصر مستقبلا حافلاً، ونجحت معركة الإصلاح الإقتصادى بفضل إيمان الشعب المصرى بها وإدراكه لأهميتها وتحمل بعض الأعباء من أجلها، وعادت ثقة المؤسسات المالية الدولية فى الإقتصاد المصرى لدرجة ان وكالة FDI Intelligence المتخصصة فى نشر الاستثمار الأجنبي المباشر، أوضحت ان مصر الأولى في الإستثمار الاجنبي المباشر بالشرق الأوسط وإفريقيا ، كما أشارت مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني تثبيت تصنيف الاقتصاد المصري عند +B ، وأبقت على رؤيتها المستقبلية مستقرة، ويرجع ذلك حسب التقرير الذى أصدرته وزارة التخطيط مؤخرا إلى الانجازات التى حققتها الدولة المصرية فى مجال الإصلاح المالي والاقتصادى والتزام السياسات نحو المزيد من برامج الإصلاح.
وتزامن ذلك مع معركة كبرى أخرى، هى معركة التنمية عبر بناء أضخم مشروعات قومية عملاقة فى تاريخ مصر، من تطوير وحفر قناة السويس الجديدة، والمشروعات العديدة التى تشملها المنطقة الإقتصادية للقناة بخلاف الموانى وشبكات الطرق مثل المنطقة الصناعية الروسية بشرق بورسعيد، وإقامة محطة متعددة الأغراض بميناء شرق بورسعيد، وإنشاء أكبر مصنع للألياف الضوئية بالعين السخنة، بطاقة إنتاجية 4 مليون كم من الكابلات سنوياً، وذلك لخدمة الاستثمار المحلي، وكذلك التصدير للسوق العربي والإفريقي والأوروبى، ثم إلى العاصمة الإدارية الجديدة التى تشكل نقلة غير مسبوقة فى تاريخ مصر وحجم استثمارات ضخم وإدارة تكنولوجية كاملة للوزارات المختلفة، مرورا بالمدن العملاقة الجديدة فى العلمين وجبل الجلالة وغيرها، وليس إنتهاء بمشروعات الإسكان الضخمة التى تلبى احتياجات كافة الفئات، وتقضى على المناطق العشوائية التى شوهت وجه الحياة فى بقاع كثيرة من أرض مصر.
كل ذلك هو جزء من مشروع بناء الدولة المصرية الذى تأتى انتخابات مجلس الشيوخ فى سياقه اليوم، فالهيكل الديمقراطى والنيابى هو جزء رئيسي من بناء الدولة الحديثة، يوفر لها التشريعات اللازمة والرؤى المتخصصة ويعبر عن صوت الجماهير عبر ممثلى الشعب الذين اختارهم بإرادته الحرة، ليعَبروا عن مصالحه وأحلامه وطموحاته فى بناء دولة تتحدى الصعاب لتصنع ملحمة الأمل.

عضو مجلس النواب نقلا عن صحيفة الأهرام

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى