
داليا يسري تكتب : لبنان للبنانيين!
في حُكم المنطق، إذا انتشرت شائعة ما وكان من الصعب التكهن بهوية مُطلِقها. يكون من السهل العثور عليه بعد أن يكشف الوقت عن طبيعة الشخص أو الجهة التي حققت استفادة حقيقية من وراء انتشار تلك الشائعة. وكذا الحال، بالنسبة لانفجار بيروت المؤلم الذي هز العالم العربي، ولم يُدم قلوب اللبنانيين وحدهم، ولكن كل العرب كذلك.
لا يزال السبب وراء اندلاع النيران في مرفأ بيروت –الثلاثاء 4 أغسطس الجاري- غامضًا. ووفقًا للرئيس اللبناني ميشيل عون، تنحصر الاحتمالات في اتجاهين، الأول قد يرجع الى الإهمال والثاني قد يُعزى الى تدخل بواسطة صاروخ أو قنبلة. والاتهامات كثيرة وتطال جميع المسئولين عن المرفأ أولاً، مرورًا بالحكومة اللبنانية، وصولاً إلى أصابع الاتهام التي تتأرجح ما بين ا إسرائيل أو حزب الله. وحتى هذه اللحظة، لا يزال الغموض هو سيد الموقف. على الرغم مما نقله شهود عيان وتداوله رواد عبر مواقع التواصل الاجتماعي من مقاطع فيديو تؤكد على وجود طائرات تُحلق في محيط المرفأ قبل دقائق من وقوع الكارثة!
وفي غضون عدد محدود من الساعات بعد وقوع الفاجعة مباشرة، ظهرت تحركات متسارعة من الجانب الفرنسي، الذي قفز بسرعة مدهشة على المشهد. فسرعان ما أعلن الرئيس الفرنسي عن توجهه لزيارة بيروت وتفقد موقع الحادث، وسرعان ما أوضحت فرنسا أنها ستقدم مساعدات إلى لبنان. ثم انطوت بعد ذلك ساعات أخرى، ورأينا جميعًا كيف وصل ماكرون الى بيروت على حصان الإنقاذ مرتديًا ثوب الإغاثة ومتصدرًا مشهد البطولة، بالتزامن مع ظهور دعوات متزايدة من آلاف اللبنانيون يطالبون من خلالها بضرب طعنة جديدة في شق النسيج العربي وعودة الانتداب الفرنسي مرة أخرى الى لبنان.
على الرغم من الصعوبات الأمنية التي تحيط بإمكانية وصول مسئولين رفيعي المستوى إلى قلب بيروت والتجول في موقع التفجير بهذه الطريقة. إلا أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد فعلها، وسجلت وسائل الاعلام العالمية اللقطة الشهيرة التي يعانق فيها ماكرون فتاة لبنانية بحرارة، متحديًا الظروف الأمنية والوضع الوبائي في آن واحد.
المشكلة الحقيقية بالنسبة لانفجار بيروت لا تتلخص فقط في حجم الكارثة وما ترتب عليها، ولا تتلخص كذلك في الأوضاع الاقتصادية المتأزمة التي تعيشها لبنان بوجه عام، ناهيك عن مشكلات حزب الله وإسرائيل وكل هذه الصراعات. أعتقد أن المشكلة الحقيقية تكمُن في الاستجابة السريعة التي وقعت من قِبَل فرنسا. إنها ذات الاستجابة التي تُلقي بظلالها على البحث عن الطرف صاحب المبادرة الأولى لجمع توقيعات تهدف للدعوى الى إعادة الانتداب الفرنسي على لبنان مرة أخرى؟!
بالإضافة الى ذلك، هناك أسئلة أخرى تتعلق بمدى سرعة استجابة اللبنانيين الذين وقعوا على عريضة –إلكترونية- تطالب بعودة فرنسا الى رأس السلطة في لبنان. أو بالأحرى، من هُم هؤلاء اللبنانيون الذين وقعوا على العريضة؟! هل هُم بالفعل لبنانيون؟! هل هناك احتمال بأن يكون هذا العدد المهول ناجم مثلا عن لجان الكترونية؟! أو يتألف من شخصيات وهمية؟! لماذا منحت هيئة الإذاعة البريطانية هذا الزخم وهذا التهويل إلى تلك الدعاوى؟! لماذا لم تحتوي تقارير “بي.سي. سي” على أي عبارات تشكيكية في مدى صحة هذه الدعاوى التي لم تخرج عن إطارها الالكتروني بنفس الدرجة التي عادة ما تقوم فيها بالتشكيك في أي انتخابات أو إجراءات تشريعية حقيقية تتم من خلال الاعتماد على بطاقات تحقيق الشخصية في أي بلد حول العالم. وسؤال أخير، إلى أي مدى تتفق هذه الدعوات مع الأجندة الإعلامية والسياسية لهيئة الإذاعة البريطانية؟!
الحقيقة أنه لا أحد حتى هذه اللحظة يملك أدنى فكرة عن هوية الجهة التي تقف خلف هذه التوقيعات. والأعجب من كل ذلك هو أن يأتي ماكرون من بلاده الأوروبية التي لا يفصلها عن تاريخ ثوري مضطرب مفعم بالمشكلات الطاحنة زمن بعيد، ويتجول في شوارع بيروت كما لم يتجول الرئيس اللبناني نفسه، ويطلق الوعود يمينًا ويسارًا للشعب اللبناني المنكوب كما لو كأنه هو المنقذ والشافي والحامي. ثم يخرج على العالم بعد ذلك ويخبرهم أنه سوف يتولى مهمة عقد مؤتمر لأجل تنظيم عميلة المساعدات الى لبنان. وكان بالأحرى ينبغي على ماكرون، الذي هو نفسه يمتلك سجل حافل في انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات الاقتصادية بحق شعبه، أن يلتفت لأجل رعاية شئون بلاده الداخلية في المقام الأول.
مما لا شك فيه أن لبنان يمر بفترة عصيبة، وأنه يعاني من مشكلات كبرى يأتي على رأسها فساد سياسييه وسوء حُكامه. لكن مما لا غبار عليه كذلك، أن وعي الشعب اللبناني وقدرته وجسارته على تخطي الفترة سوف يكون كفيلاً بحل كل هذه المشكلات. والكل يعرف ويثق في قدرات اللبنانيون على النهوض من أزمتهم وإعادة بناء ما حطمه الانفجار وتنظيف ما لوثه الفاسدون من الساسة. لكن أرى أنه من المُعيب أن يطلب الرئيس اللبناني ميشيل عون من نظيره الفرنسي مساعدته بإرسال صور القمر الصناعي التي توضح ما إذا كان السبب وراء الانفجار هجوم بطائرات أم لا.
والسبب بالطبع في غاية الوضوح. إنه يكمن هناك بين السطور، في المنطقة الرمادية حيث يختفي كبار المستفيدون من وراء الانفجار، وهؤلاء اللذين كانت لديهم رؤية –معدة مسبقًا- تخول لهم التحرك السريع وتحقيق استفادة قصوى من المشهد المتوتر برمته.
والأهم من كل هذا، أظن أن الطرف المستفيد والحقيقي من وراء الانفجار هو ذات اليد الخفية التي حركت مشهد –المطالبة بعودة الانتداب الفرنسي- مرة أخرى على لبنان. وأخيرًا وليس آخرًا، يمكن أن نُسلم بأن الطرف الذي نهض من بعد الانفجار، وألهم الحشود بهذه الفكرة الاستعبادية الجنونية، وأوقد بنفسه أول شرارة للمطالبة بعودة الانتداب الفرنسي. هو نفس الطرف المسئول عن الحادثة برمتها في المقام الأول. والأجدر في حالتنا، بدلاً من أن ندعو الى اجراء تحقيقات دولية وعاجلة في أسباب الانفجار، أن ندعو الى تحقيقات حول هوية هذا الطرف الحقيقية، وطبيعة من يقف وراء خطوته الغامضة في غضون هذا التوقيت المرتبك من عمر الوطن اللبناني.
ختامًا، نثق كل الثقة في وعي وثقافة وجسارة الشعب اللبناني الشقيق، وفي قدرته على تخطي المرحلة الصعبة بما يتجاوز أطماع المتربصين، وأحلام الاستعماريين، وفساد السياسيين.
باحث أول بالمرصد المصري