دول المشرق العربي

“ماكرون” والسير على “زجاج بيروت” المهشم

لا تزال الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى لبنان الخميس 6 أغسطس، بعد 48 ساعة من انفجار بيروت المدمر الذي أسفر عن وفاة 150 شخصًا وما يزيد عن 5000 جريحًا، تلقي أصداء كبيرة سواء داخل بيروت أو على المستويين الإقليمي والدولي. وتصدرت تداعيات ونتائج الزيارة تغطية الإعلام والصحف الفرنسية كافة، وتكالب المراقبون على تحليل الزيارة والوقوف على آخر تطورات المشهد اللبناني وما يمكن أن تنجح باريس في القيام به لانتشال هذا البلد من أزمته السياسية والاقتصادية. 

فبجانب الخسائر البشرية والاقتصادية التي سببها هذا الانفجار الكبير، فإنه كان القشة الأخيرة التي قصمت ظهر لبنان بعد أعوام من الفساد والعجز السياسي والفشل في إدارة الاقتصاد. وزادت حادثة “تفجير المرفأ” من الغليان الشعبي المشتعل منذ أكتوبر 2019 ضد كل النخب والكتل السياسية في لبنان، والتي عجزت عن الاتفاق وإخراج لبنان من صراعاته وأزماته، والتي تفاقمت مع جائحة كورونا التي تسببت في تسريع الانهيار الاقتصادي. 

حمَلت الصحف الفرنسية في أغلبها النخبة السياسية اللبنانية وإهمالها مسؤولية الحادث المروع، مُطالبة بضرورة محاسبة كافة المخطئين والمقصرين من المسؤولين. جاء ذلك بالتزامن مع الاستجابة الفرنسية السريعة بإرسال طائرتين حربيتين محملتين بأطنان من المساعدات الطبية، وإعلان الاتحاد الأوروبي عن تخصيص 33 مليون يورو إلى لبنان بشكل عاجل. 

تصريحات الرئيس الفرنسي في بيروت 

سرعة استجابة الرئيس الفرنسي للحادث وزيارته لبيروت بعد 48 ساعة من وقوع الانفجارات كانت لها دلالات عدة، ففي أثناء زيارته الميدانية لميناء بيروت المهدم وأثناء تجوله في حي الجميزة المتضرر (ذي الأغلبية المارونية) أدلى بعدة تصريحات لفت بها أنظار العالم. حيث تحدث الرئيس الفرنسي عن مسؤوليته تجاه الشعب اللبناني، والروابط التاريخية التي تجمع الشعبين الفرنسي واللبناني، ورغبته في تنظيم المساعدات الدولية والإقليمية إلى لبنان وقيادة الجهود الدولية لبحث حل الأزمة الاقتصادية اللبنانية، بل وصرح بضرورة إصلاح النظام الطائفي السياسي في لبنان وتغييره كشرط لإصلاح الوضع المتأزم، ليعلن بذلك عن ضرورة صياغة ميثاق سياسي جديد يمثل الحل الأوحد للأزمة الحالية. 

وتناول الرئيس الفرنسي أثناء مؤتمره الصحفي الذي عقده في نهاية زيارته العاجلة للعاصمة اللبنانية، المقترح الفرنسي لحل الأزمة بشيء من التفصيل. حيث أوضح أن الوجود الفرنسي الآني في لبنان له عدة أهداف:

أولًا: مساندة الشعب اللبناني: أكد ماكرون أن زيارته تهدف بالأساس الوقوف إلى جانب الشعب اللبناني المنكوب بدافع من الإحساس بـالمسؤولية التاريخية تجاهه وبدافع علاقات الصداقة والتآخي التي جمعت الشعبين الفرنسي واللبناني. 

ثانيًا: تنظيم المساعدات الدولية: يكون الطرف الفرنسي هو حلقة الوصل لجميع مساعدات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالإضافة إلى الدعم المقدم من البنك الدولي. وعليه يكون الضامن لوصول المساعدات الإنسانية مباشرة للمواطن اللبناني من خلال التنسيق مع منظمات المجتمع المدني والفرق الميدانية؛ تجنبًا لهدر هذه الأموال في قنوات الفساد المعهودة. 

ثالثًا: إيجاد حل للأزمات الخدمية: على رأسها قطاعي الطاقة والكهرباء والتعليم؛ إذ نوه ماكرون عن حزمة مساعدات بقيمة 15 مليون يورو ضختها فرنسا إلى مدارس الإرساليات الفرنكوفونية في يوليو الماضي.

ثالثاً: إعادة تشكيل نظام سياسي جديد: فيما يخص تصريحاته بشأن الإصلاحات السياسية الضرورية لاستقامة الوضع في لبنان، أوضح الرئيس الفرنسي أن الميثاق السياسي الجديد الذي أشار إليه يقوم على تشكيل حكومة وحدة وطنية وحل جميع المؤسسات السياسية الحالية والدعوة إلى انتخابات برلمانية ورئاسية عاجلة تعكس إرادة الشباب اللبناني الحرة.

محاولة لتفكيك حيثيات زيارة ماكرون الطارئة لبيروت

في محاولة لفهم وتفكيك دلالات الزيارة الطارئة للرئيس الفرنسي وخطابه يتحتم الرجوع إلى التحركات الفرنسية السابقة تجاه لبنان:

  • الرغبة الفرنسية في قيادة ملف المساعدات الدولية إلى لبنان ليست مستحدثة، فهي امتداد لسلسة تحركات قادتها فرنسا منذ 2013 حين تزعمت “مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان” والتي هدفت إلى حشد الدعم والمساعدة لاستقرار لبنان وسيادته ومؤسسات الدولة، وبخاصة دعم القوات المسلحة اللبنانية، ومساعدة اللاجئين السوريين في لبنان والمجتمعات اللبنانية المضيفة لهم، وتطوير البرامج الحكومية والخدمات العامة التي تأثرت جراء الأزمة السورية. وتبلور ذلك في عدة مؤتمرات عقدتها فرنسا كان أهمها باريس 1، باريس 2، باريس 3، ومؤتمر “سيدر” 2018 الذي اختلف عن سابقيه في وضعه شروطًا للمساعدات، إذ طالب في مقابلها بإصلاحات هيكلية للاقتصاد اللبناني وللقطاع المالي والبنكي. إلا أنه انتهى إلى ما انتهت إليه جميع المؤتمرات والمفاوضات دون حل للأزمة الاقتصادية اللبنانية ودون تحقيق تقدم ملموس. 
  • تأتي سرعة التحرك الفرنسي بعد أحداث الانفجارات في بيروت في إطارين:
  • جاهزية الجانب الفرنسي للتعاطي مع الأزمة بناءً على متابعته المستمرة وحرصه علي تصدر المشهد اللبناني منذ بداية الأزمة والذي تبلور من جهة في التحركات الفرنسية السابقة المشار إليها. ومن جهة أخرى، تجلى في زيارة وزير الخارجية الفرنسية “جان إيف لودريان” لبيروت، كأول زيارة لمسؤول سياسي غربي منذ أزمة كورونا، في يونيو ويوليو الماضيين، ورجوعه للمفاوضات مع التيارات السياسية اللبنانية رغم فشل جولات التباحث السابقة.
  • ما يرجعنا إلى الإطار الآخر، ويفسر هذا التكالب الفرنسي الحريص، وهو إخراج لبنان من عزلته السياسية الدولية والإقليمية والتي فرضت عليه بفعل علاقة حزب الله (التيار السياسي المهيمن على الساحة اللبنانية) بإيران. وهو الأمر الذي أعلن عنه المانحون الغربيون والخليجيون على حد سواء من أن المساعدات غير المشروطة إلى لبنان أدت إلى تقوية حزب الله وإثراء الطبقة السياسية الفاسدة على حساب الشعب اللبناني. إلا أن الموقف الفرنسي من هذه العزلة يأتي بناءً على رفضه بزوغ شبح النفوذ التركي في لبنان، ما ظهرت بوادره بالفعل منذ يونيو الماضي. 
  • الحديث عن نظام سياسي جديد للبنان؛ لوّح الرئيس الفرنسي أثناء خطابه أكثر من مرة إلى ضرورة تغيير الشكل الطائفي للنظام السياسي اللبناني كشرط لإيجاد حل للأزمة الاقتصادية الحالية التي يعاني منها الشعب. وتحدث عن مفهومه لـماهية الميثاق السياسي الجديد كما هو موضح سابقًا، لكنه أكد وفق تصريحات مسربة أنه “سيكون هناك لبنان بعد 4 أغسطس مختلف عن لبنان قبل هذا التاريخ“، وأمهل التيارات السياسية المختلفة إلى 1 سبتمبر لتنفيذ الخطة الفرنسية المقترحة. ما دفع البعض للحديث عن إجراءات فرنسية غير معلنة “تم تكذيبها فيما بعد”، أكثر صرامة تجاه حزب الله بالخصوص، تتراوح بين نزع سلاح ميليشياته في بيروت ونشر قوات اليونيفل الأممية في العاصمة وجبل لبنان، إضافة إلى استقالة مجلس النواب ورئيسه وإجراء انتخابات سريعة ينتج عنها انتخاب رئيس جديد للجمهورية. 
+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى