
في الذكرى الخامسة لافتتاحها.. العوائد الاقتصادية لقناة السويس الجديدة
يأتي أغسطس هذا العام حاملًا معه الذكرى الخامسة لمشروع قناة السويس الجديدة، الذي كان قد أُحيط مُنذ تدشينه بجدل حاد استمر لفترة طويلة، بداية بالجدوى الاقتصادية لإنشائه، مرورًا بما قد يُحدثه من كوارث بيئية وطبيعية في البحرين الأحمر والمتوسط، وإغراق إقليم القناة، وأخيرًا بمدى قدرة المشروع على رد أرباح شهادات قناة السويس التي بلغت 64 مليار جنيه. أما وقد فند الزمن بعضًا من تلك الادعاءات بحكم بديهيتها مثل إغراق إقليم القناة الذي لم يتأثر بأي شكل، أو عدم قُدرة المشروع على رد حصيلة شهادات القناة التي دُفعت بالكامل وقت كتابة هذا التقرير ، فإن الادعاءات بعدم الجدوى الاقتصادية للقناة مازالت غير مدروسة وبعيدة عن التناول، خاصة في ظل ما تُعانيه التجارة العالمية من تردي مُنذ ما بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 و ودخول العالم مؤخرًا في حرب تجارية بين الولايات المُتحدة وشركائها التُجاريين مثل الصين، المكسيك، الاتحاد الأوربي، اليابان، وما اختتم مؤخرًا بجائحة كورونا التي مثلت ضربة قاضية للتجارة العالمية، لذلك يهدف هذا المقال إلى استبيان الأثر الاقتصادية للقناة الجديدة، في ظل هذه التحديات الطارئة والمُنافسة المُستمرة من قناة بنما.
أولًا – الجوانب التنافسية للقناة الجديدة
تخدم قناة السويس عمومًا طُرق التجارة بين الشرق والغرب، وخصوصًا بين أسيا وأوروبا سواء لتجارة النفط والغاز من الخليج العربي لأوروبا، أو تجارة البضائع بين أوروبا ودول شرق أسيا من الصين واليابان والهند، وكذلك تجارة النفط بين الخليج العربي ودول الأميركتين، بينما تخدم قناة بنما -أهم مُنافسي قناة السويس- طُرق التجارة بين أسيا والولايات والساحل الغربي للأميركتين، في حين تكمن المُنافسة بين القناتين على طُرق التجارية بين موانئ شرق أسيا وشرق الولايات المُتحدة، ويوضح الجدول التالي بعض طُرق الملاحة بين أهم الموانئ من حيث إجمالي حجم الشحن في كُل منطقة:

ويتضح من الجدول أن الطريق الملاحي الوحيد الذي توجد فيه مُنافسة بين القناتين: هي الطريق بين الساحل الشرقي لأسيا والساحل الشرقي للولايات المُتحدة حيث تقل مسافة العبور من خلال القناتين عن يوم واحد، من جانب أخر تُعاني قناة بنما من محدودية خطيرة نابعة من كون القناة تعتمد على بوابات لرفع السُفن وخفضها بسبب اختلاف منسوب المياه في المُحطين الأطلنطي والهادئ، مما يجعل التوسع في طول البوابات وعمقها مُكلفا للغاية من ناحية ويُحد من عدد السُفن التي يُمكنها المرور في القناة من ناحية أخرى، وهي مشاكل لا تُعاني منها قناة السويس بذات القدر، حيث يُمكن توسعتها وتعميقها حسب الحاجة وبتكلفة قليلة مُقارنة بقناة بنما، وهو عنصر يُمكن استخدامه لرفع قناة السويس مُقارنة ببنما، لذلك مشروع حفر قناة السويس الجديدة وتوسيع المجرى الملاحي القديم وتعميقه بحيث يستوعب سُفن ذات حجم أكبر لينتهي في أغسطس 2015، ولحقت بها التوسعة الأخيرة لقناة بنما في يونية 2016 بحيث تستوعب حجم جديد من السُفن من معيار New Panamamax، والذي يُقارنه الشكل التالي بأكبر حجم للسُفن يمُكنه عبور قناة السويس فيما يُسمى بـ Suezmax:
ويتضح من الشكل أنه بعد انتهاء التوسعتين ظلت سعة قناة السويس التحميلية تقريبًا ضعف سعة قناة بنما، مما يُعطي يزيد من تنافسيتها بالإضافة إلى أن القناة الجديدة اختصرت وقت المرور إلى 11 ساعة فقط بعدما كانت 18 ساعة.
ثانيًا – حركة السُفن وحمولتها بالقناة
مرت في قناة السويس خلال عام 2019 نحو 18.8 ألف سفينة وذلك بمتوسط 52 سفينة تقريبًا يوميًا، ومنذ مطلع القرن الحالي شهد العام 2008 مرور أكبر عدد منها في عام واحد إذ بلغ عدد السُفن خلاله 21.4 ألف سفينة وبمتوسط 58 سفينة يوميًا، إلا أن هذه المُعدلات انهارت عقب الأزمة المالية العالمية في ذات العام والتي أسفرت عن انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي من مستوى 4.3% في 2007 إلى 1.85% في 2008، ثم -1.67% عام 2009، مازالت تأثيراتها مُستمرة حتى وقت كتابة التقرير، حيث بقي النمو في كثير من البلدان حتى الآن دون المستويات التي كانت لتسود فيما لو ظل على اتجاهه العام في فترة ما قبل الأزمة وفقًا لتقرير لصندوق النقد الدولي نُشر في أكتوبر 2018، وقد شهدت القناة ذات التأثير، كما يوضح الشكل التالي:
ويتضح من الشكل أن عدد السُفن التي عبرت القناة في أغسطس عام 2008 بلغ 1993 سفينة لتنخفض بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية إلى 1272 سفينة بحلول فبراير عام 2009 وتستمر متوسطات المرور في الانخفاض، ليستوي الخط العام لأعداد السُفن بداية من عام 2012 وحتى افتتاح القناة في أغسطس 2015 حيث دارات مستويات المرور حول 17 ألف في المتوسط، ليبدأ التحول في اتجاه الخط العام، وترتفع مستويات المرور بشكل كبير بلغ في عام 2018 18.1 ألف وفي 2019 تقريبًا 19 ألف سفينة.
كما شهدت حمولات السُفن اتجاها مُشابها فيما تلى الأزمة المالية العالمية حيث انخفضت الحمولات العابرة من 84.1 مليون طن في أغسطس 2008 إلى 53.1 مليون طن في فبراير 2009، لكن ما يختلف في شأن الحمولة عن أعداد السُفن هو اتجاه الحمولات باستمرار إلى النمو وذلك رغم تباطء نمو أعداد السُفن العابرة بسبب اتجاه حمولة السُفن العابرة إلى الارتفاع المُستمر مما ينعكس على عدد السُفن، حيث يظل وزن الحمولة العابرة محكومًا بحجم التجارة العالمية.
ويوضح الشكل التالي هذا الاتجاه:
ويتضح من الشكل أن الاتجاه البطيء في النمو خلال الفترة من 2009 وحتى أواخر 2015، تحول إلى تسارع بعد افتتاح القناة الجديدة، ويظهر ذلك بجلاء في ارتفاع متوسط الحمولات في السنوات الأربعة السابقة على حفرها من 950 مليون طن سنويًا إلى 1.09 مليار طن في السنوات الأربعة التالية لحفرها، كذلك ارتفاع المتوسط اليومي للحمولة العابرة من 2.6 مليون طن في عام 2014 إلى 3.3 مليونًا في 2019 وذلك بزيادة نسبتها 25% في المتوسط اليومي.
ثالثًا – تطور رسوم العبور وإيرادات القناة
تُحسب رسوم قناة السويس بعملة صندوق النقد الدولي والتي يُطلق عليها حقوق السحب الخاصة SDR، وتتشكل الـ SDR من أوزان ثابتة من خمس عُملات رئيسية هي الدولار الأمريكي، اليورو واليوان والين والاسترليني وتُراجع هذه الأوزان كل خمسة أعوام، وقد بلغ ثمن الدولار الواحد 1.36 SDR في المتوسط خلال إبريل 2020. من جانب أخر يعتمد حساب رسوم عبور القناة على عدة عوامل أهمها وزن السفينة، ونوعها وإذا ما كانت مُحملة أم فارغة، فكُلما زاد وزن العبور ارتفعت الرسوم، على أن وزن أول 5 آلاف طن يكون الأعلى بعد ذلك يتجه السعر إلى الانخفاض مع ازدياد الوزن، يُقارن الجدول التالي بين رسوم عبور ناقلات النفط وناقلات الحاويات وفقًا لرسوم 1/04/2020:

ولم تشهد رسوم عبور القناة ارتفاعات كبيرة مُنذ العام 2008، نظرًا لما تُعانيه التجارة الدولية من تراجع وكذلك المُنافسة التي تلقها القناة بسبب ذوبان الجليد في القطب الشمالي مما يفتح ممر أخر للعبور بين الشرق والغرب أقصر من المرور عبر قناة السويس، بالإضافة إلى أن ما تشهده أسعار النفط من انخفاض يُتيح للسُفن المرور عبر طريق رأس الرجاء الصالح بسبب انخفاض تكلفة الوقود مُقارنة برسوم العبور من القناة، مما يدفع إدارة القناة أحيانًا لتقديم تخفيضات لشركات الشحن وخطوط الملاحة الكُبرى لجذبها من جديد للمرور عبر القناة، ويُقارن الجدول التالي بين رسوم مرور ناقلات النفط في عام 2008 و 2012 والرسوم الحالية:

ويُشير الجدول إلى أن رسوم ال خمسة آلاف طن الأولى لم ترتفع بنسبة 3% خلال اثني عشر عامًا، بينما كانت أكبر الفئات ارتفاعًا هي نسبة 23% على الفئة الوزنية الرابعة، يليها 20% على الفئة الوزنية الخامسة، ويُشير ذلك إلى أن التغير في إيرادات القناة سيكون راجع في مُعظمه إلى التغيُر في أوزان المرور وليس في الرسوم المفروض عليها.
وأخيرًا فإنه بالنظر إلى إيرادات القناة نجد أنها سلكت ذات الاتجاه الذي سلكته الحمولة، وهو ما يؤكد الحقيقية السابق الإشارة إليها، حيث انخفضت لأدنى مستوى لها خلال الفترة من 2007 وحتى فبراير 2020 في فبراير 2009 بعد الأزمة المالية العالمية وذلك عندما حققت إيرادًا شهريًا بلغ 302 مليون دولار تقريبًا، لكنها بدأت في تعافي بطئ مُجددًا بلغ ذروته في الفترة ما بين الأزمة العالمية وحفر القناة الجديدة في أغسطس 2014 عندما حققت 510 مليون دولار، كما يوضح الشكل التالي:
وبعد افتتاح القناة الجديد شهدت الإيرادات انخفاضًا في عام 2016 عندما بلغت 5 مليار دولار، وذلك مُقارنة بعام 2015 عندما حققت 5.1 مليار دولار، لكن الأعوام الثلاثة التالية ففي عام 2017 حققت القناة 5.2 مليار دولار، ثم في عام 2018 حققت القناة أعلى إيراد سنوي في تاريخها حينئذ وذلك عندما بلغت 5.7 مليار دولار، لكن عام 2019 جاء ليكسر هذا الرقم حيث حققت القناة 5.8 مليار دولار، كذلك شهد ذات العام أعلى إيراد شهري في تاريخ القناة خلال أكتوبر حيث بلغت الإيرادات 517.7 مليون دولار.
يذكر أن هذه الإيرادات تحققت في ظل جو عام من الاضطراب في الاقتصاد الدولي وسيطرة من عدم اليقين على مُعدلات الاستثمار، بسبب الحروب التجارية وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما اثر على مُعدلات النمو العالمية وحصرها في منطقة دون 3% مُنذ الأزمة المالية العالمية، الأمر الذي كان يؤشر بشدة على اتجاه إيرادات القناة إلى النمو خاصة مع الاستقرار الذي ساد الاقتصاد العالمي بعد التسوية المبدئية للحرب التجارية واتفاق الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على أساسيات الخروج، لكن جاءت جائحة كورونا لتُغير هذه المُعادلة وتُدخل العالم من جديد في مُنحنى ركود أكبر من ذلك الذي سببته الأزمة المالية حيث يتوقع صندوق النقد انكماش الناتج المحلي العالمي بنحو 3%، وهو ما يؤثر حتمًا على حجم التجارة الدولية وتبعًا لها إيرادات قناة السويس.
نافلة ما سبق إذًا أن القناة الجديدة مشروع ناجح استطاع الحفاظ على المكانة الرائدة للقناة حيث مازالت قادرة على استيعاب سُفن ضعف تلك التي تستوعبها قناة بنما رغم انتهاء توسعة الأخيرة في 2016، وكذلك نتج عنها ارتفاع حمولة السُفن العابرة للقناة وانخفاض وقت المرور، مما أدى إلى تحقيق القناة في عامي 2018 و2019 أكبر إيرادات في تاريخها على الإطلاق.