
محمد أبـو الفضــل يكتب: ارتدادات ليبية على تونس
مثلت التجربة السياسية في تونس نموذجا عربيا استثنائيا حتى كشفت حركة النهضة عن الجوانب القبيحة في تصوراتها لبعض القضايا الإقليمية، والتي لم تكن خافية على كثيرين، لكن شريحة كبيرة في النخبة حاولت التقليل منها، على اعتبار أن هناك خصوصية للدولة التونسية والقوى السياسية التي قبلت التعامل مع الحركة الإخوانية.
ذهبت السكرة وجاءت الفكرة خلال الأيام الماضية، ودخلت قوى مختلفة في صدام مع راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، بسبب موقفه الداعم لتركيا في ليبيا، وتأييده لتدفق المرتزقة والمتطرفين والإرهابيين عليها، في تعد واضح على صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة، ما أسهم في دخول البلاد في أزمة سياسية عميقة.
انطلقت شرارتها من تصرفات الغنوشي حيال ما يجري في ليبيا، وقد لا تتوقف عندها، حيث تشعبت المحاسبة إلى كثير من ممارسات وتوجهات النهضة، ما أدى إلى أزمة سياسية لا أحد يعرف المدى الذي يمكن أن تصل إليه عقب خروجها من البرلمان وتفاعل قطاعات كبيرة في الشارع معها.
أفلت الغنوشي بأعجوبة من اقتراع بسحب الثقة منه كرئيس للبرلمان التونسي الأسبوع الماضي، غير أنه وقع في فخ أشد خطورة، حيث تبين أن عدد من صوتوا ضده ومن حجبوا وأبطلوا أصواتهم يفوق نصف أعضاء البرلمان.
بالتالي سوف تظل هذه السقطة تلاحقه في تصرفاته السياسية اللاحقة، فالجلسة التاريخية وتداعياتها سلطت الأضواء أكثر من أي وقت مضى على نوايا حركة النهضة، ووضعت قيادتها أمام مسئولية كبيرة، تتعلق بمحاولة توريط الدولة في قضايا خارجية شائكة.
تزامنت ضجة سحب الثقة من الرجل مع معلومات غزيرة حول قيام تركيا بنقل نحو 2500 متطرف تونسي إلى ليبيا، للقتال هناك ضمن زمرة المرتزقة الذين شحنتهم أنقرة الفترة الماضية، ويقدر عددهم بحوالي عشرين ألف شخص، يقاتلون ضمن قوات حكومة الوفاق في طرابلس.
وزادت المخاوف مع تردد أنباء حول نقل عدد منهم داخل الأراضي التونسية لزعزعة الأمن والاستقرار الذي تنعم به الدولة، والسعي للسيطرة على مناطق حدودية مع ليبيا، واستخدامها كجبهة لتسريب المتشددين.
ضاعف الحديث عن هؤلاء من الأزمة المركبة التي تواجهها حركة النهضة، حيث اتهمت مباشرة بأنها هندست صفقة سرية بالتعاون والتنسيق مع تركيا، تقضي بفتح ثغرة برية في جدار تونس لنقل الأسلحة والمعدات والمرتزقة من وإلى ليبيا، بعد تصاعد الضجر الأوروبي من عمليات تهريب الأسلحة التي تقوم بها تركيا عن البحر المتوسط.
وعقب تصريحات أدلى بها الرئيس التونسي قيس سعيد أكد فيها رفضه للتدخلات الخارجية، ووقوفه على مسافة واحدة من الفرقاء الليبيين، بمعنى أنه يعترض على رؤية النهضة في الانحياز لفريق على حساب آخر، ويرفض أن تكون بلاده طرفا في الحرب الدائرة، إن لم تصبح طرفا في الحل السياسي.
يبدو أن إخوان تونس على وشك إعادة تجربة أشقائهم الفاشلة في مصر عندما اشتدت عليهم الأزمات، وتكاتفت عليهم القوى السياسية والشعبية، وأعلنت أجهزة الدولة العميقة وقوفها ضد استمرار وجود الجماعة في السلطة، وقتها جرى تسريب معلومات تقول إما الحكم أو الفوضى.
ما وضع الشعب والجيش في كفة واحدة انتهت بسقوط مدوي للجماعة في الحكم، وجرى تحمل التكلفة المادية لهذه الخطوة حتى انتهت الجماعة سياسيا وأمنيا، وأخفقت في توريط الدولة في مربع طويل من الاقتتال.
تريد حركة النهضة جر تونس إلى سيناريو يتحاشى أخطاء إخوان مصر، حيث تستعد لاستقبال مرتزقة من ليبيا وتمركزهم في المناطق الحدودية، ومساعدتهم في تكوين بؤرة ملتهبة هناك، ليتحولوا إلى رصيد مسلح، على استعداد للاشتباك في أي لحظة أو التهديد بهم، لإجبار القوى السياسية على الرضوخ لخطاب الغنوشي ورفاقه، وحث الأجهزة الأمنية الصامدة على تجنب الصدام خوفا من حدوث انفلات، وهو رهان كل القوى المتطرفة، فإذا لم تتمكن من الحكم يمكنها هدم المعبد على من فيه.
في هذه الحالة، تضمن مكانا لها تحت الشمس، حتى لو كان صغيرا ومحدودا. فالمهم أن تفقد السلطة المركزية قدرتها على الصلابة والمقاومة، ولا تتمكن من تفشيل مخطط النهضة، الذي مهدت له بمد خيوط التعاون مع القوى المتشددة في ليبيا، وتعمل على تغذية بعض الإحتقانات الاقتصادية والاجتماعية في تونس، كي تكون مهيأة للغليان والتظاهر والاحتجاج، إذا استمر مسلسل استهداف النهضة سياسيا داخل البرلمان وخارجه.
تزاحمت الهواجس في تونس خوفا من زج التيار الإسلامي بالبلد المستقر في أتون أزمة مفتوحة على مسارات مخيفة، يمكن أن تجعلها طرفا في صراع يتجاوز حدود ليبيا، فكل من تونس والجزائر والمغرب بها نشاط واضح لجماعة الإخوان التي ترغب في تطوير العلاقات مع تركيا، والأخيرة بدورها تعتقد أن هؤلاء خميرة جيدة لتوسيع نفوذها في منطقة شمال أفريقيا بعد تأكدها أن الجبهة الشرقية المفتوحة على مصر أصبحت عصية على اختراقها.
حذرت القيادة المصرية مبكرا من أن أهداف تركيا تتجاوز حدود ليبيا، وعيونها مصوبة نحو الدول المجاورة الحافلة بقوى إسلاموية، ولم يتجاوب معها أحد تقريبا، وتم تجاهل التحذيرات أو تبريدها، والتعامل معها كنوع من تصفية الحسابات مع الإخوان وتركيا دون التفات للمعاني الحقيقية التي تتضمنها.
بدأت كرة اللهب تنذر بالاشتعال في تونس، ما يشير إلى أن دولا أخرى لن تكون بعيدة عن النيران، فالمنحنى التركي التصاعدي يمكن أن يجرف معه كلا من الجزائر والمغرب، وفي مرحلة لاحقة موريتانيا وتشاد ومالي، لأن المشروع التركي لا يقف عند حدود ليبيا.
وانتبهت بعض دول المغرب العربي لمخاطر تمدد أنقرة في ليبيا، وتشعر أن هذا الكابوس يمكن أن يلحق الأذى بكثير من دول المنطقة، ويغير في جغرافيتها السياسية إذا قدر له أن يواصل تمدده، ربما لا تزال هذه الدول تتصرف بحذر حتى الآن، لكن الهواجس تسربت إليها فعلا، ما جعلها أشد اهتماما بما يدور في ليبيا، وأكثر حرصا على المطالبة بالتسوية السياسية، وتلح على وقف التدخلات الخارجية.
تنذر ارتدادات ليبيا بتهديد أمن العديد من الدول، لأن المرتزقة يمكن أن ينتشروا بسهولة في الدول المجاورة، إذا لم تتضافر الجهود لمواجهتهم، ويتم وضع حد للتجاوزات التركية التي استثمرت في التناقضات بين الدول الأوروبية، وجنت مكاسب عدة من وراء التقاعس الأميركي، وارتاحت للمشكلات التي تعج بها دول المغرب العربي.
أصبحت مساحة مشروع تركيا في ليبيا قابلة للتوسع غربا، وتستطيع تحريض القوى الإسلاموية لمساندتها في تفكيك طوق قبل أن تتبلور حلقاته، ويشتد عود الدول الرافضة لتمركزها في المنطقة بالحصول على مساندة واضحة. من هنا تأتي ضرورة صياغة تصور جماعي لدور جوار ليبيا لتقويض نفوذ أنقرة، حتى لا تتحول الحركات الإسلامية فيها إلى طابور خامس.
نقلا عن صحيفة “الأهرام”