
ماذا لو فاز ترامب.. هل ستتجه الولايات المتحدة للخروج من حلف الناتو؟
منذ انتخابه في نوفمبر 2016، شكلت العلاقة بين السياسة الخارجية الأمريكية والمنظمات الدولية واحدة من القضايا الجدلية في النظام السياسي للولايات المتحدة؛ إذ دأب الرئيس دونالد ترامب على مخالفة القواعد التي تتعلق بالدبلوماسية الدولية، عبر تبنيه لسياسة تبحث أولا عن مصالح واشنطن قبل مصالح الحلفاء، إما عن طريق الانسحاب من المنظمات الدولية، أو التقليل من شأنها. ومع ذلك، فقد أثبتت أجندة ترامب أن ثمة قطاعًا من الرأي العام الأمريكي يؤيد هذه الاستراتيجية، ويعارض الدور الخارجي المتعاظم لاعتبارات متعلقة بأولويات قضايا الداخل، والإشكاليات المترتبة على التدخل الخارجي الأمريكي خلال العقود الماضية.
أثارت تلك الاستراتيجية مخاوف الطرف الأوروبي الذي يرى أن العلاقات عبر الأطلسي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة. فقد كانت الخلافات السابقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول السياسات. اليوم، يتم التشكيك في مفهوم وقيمة الوحدة عبر أطلسية. فالرئيس ترامب هو أول رئيس أمريكي حديث يقوض التكامل الأوروبي، عبر التشكيك في أهمية حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي يشكل الاستراتيجية الدفاعية الرئيسة لـ23 من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وأظهر تجاهلًا صارخًا للقيم المشتركة التي دعمت التحالف عبر الأطلسي لعقود، ليواجه “الناتو” شكوكًا في جدواه من جانب رئيس أكبر أعضائه.
كانت الولايات المتحدة هي القائد المعترف به لحلف شمال الأطلسي منذ تأسيسه في واشنطن عام 1949. وبصفتها الحليف الأقوى، لعبت الولايات المتحدة دائمًا دورًا كبيرًا داخل الحلف. ومع ذلك، يواجه الناتو واحدة من أصعب أزماته منذ سبعة عقود. فهي ليست أزمة قوة أو استعداد عسكري، ولكن أزمة ثقة في قيادة أمريكا للناتو. فخلال السنوات السابقة من إدارة ترامب، تم التشكيك في قيادة الرئيس الشخصية للناتو على عدة جبهات رئيسية؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة ترى أن “الناتو” بصيغته الحالية يخدم مصالحها الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية الوطنية. وتشير التقديرات إلى أنه إذا أعيد انتخاب ترامب لولاية ثانية فإنه سيعلن انسحابه منه خلال العام الأول من إعادة انتخابه.
ترامب.. الناتو حلف تخطاه الزمن
تعرض حلف الناتو لصدمه هي الأكبر في تاريخه، بعدما صرح الرئيس دونالد ترامب، بعد انتخابه، بأن الناتو حلف تخطاه الزمن، لأنه لم يهتم بمكافحة الإرهاب بالشكل الكافي. وانتقد عدم التزام الدول الأعضاء بدفع حصتها في موازنة الحلف. ومع تزايد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، فإن ثمة شعورًا متزايدًا لدى الإدارة الأمريكية الحالية بأن الناتو بات عبئًا على الولايات المتحدة لا يمكنها تحمله، وبأنه من الأفضل استبدال مجموعة من التحالفات المؤقتة والأصغر به، حسب الحاجة.
وفي اجتماع قمة الناتو الأولى للرئيس ترامب في عام 2017، رفض تأكيد دعمه للضمانات الأمنية بموجب المادة الخامسة التي تنص على أن “الهجوم على إحدى دول الحلف سوف يُعامل على أساس أنه هجوم على بقية الأعضاء جميعًا، وأن الحلفاء ملزمون بالرد عليه”، واقترح أن دعم الولايات المتحدة لحلفائها سيتوقف على مستوى إنفاقهم الدفاعي. ويرى ترامب أنه ينبغي على الدول الأوروبية الأعضاء أن تنفق المزيد من الأموال على الحلف بدلا من ترك الولايات المتحدة تأخذ على كاهلها تحمل العبء الأكبر في ميزانية الحلف.
ويطالب ترامب منذ فترة طويلة أعضاء دول الناتو بزيادة الإنفاق على شؤونهم الدفاعية. وقال إن “على أعضاء الناتو وقف الاعتماد بشدّة على الولايات المتحدة وتحميلها أعباء المحافظة على التحالف”. فقد أنفقت الولايات المتحدة في عام 2019 ما يقدر بنحو 3.4 % من إجمالي ناتجها القومي على الدفاع، بحسب تقديرات حلف الناتو، في حين بلغ معدل ما أنفقته الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف وكندا 1.55% من إجمالي الناتج القومي لكل دولة منها. ووصف ترامب وضع الإنفاق بأنه “غير متكافئ وغير عادل لدافعي الضرائب في الولايات المتحدة“.
وحذر ترامب من أنه “سيصبح من الصعب التبرير للمواطنين الأمريكيين عدم مشاركة بعض الدول عبء الأمن الجماعي لحلف شمال الأطلسي بينما يواصل الجنود الأمريكيون التضحية بحياتهم في الخارج أو العودة إلى منازلهم بجروح خطيرة”. ويبدو أن مطالبات الإدارة الأمريكية المستمرة للدول الأوروبية بضرورة رفع قيمة مساهماتها المالية في الحلف، صعدت التوترات الأوروبية–الأمريكية، فتلميح الرئيس ترامب في أكثر من مناسبة بالانسحاب من حلف “الناتو”، يعني أن العاصفة السياسية يمكن أن تحدث في أي لحظة.
وكانت بوادر هذه العاصفة، انتفاد ترامب ألمانيا عدم التزامها بالمستويات المستهدفة للإنفاق الدفاعي التي حددها حلف الناتو، وقرر سحب نحو 12 ألف جندي أمريكي من أصل 36 ألفًا من ألمانيا، بحجة أنه طالما كانت ألمانيا تعتمد على روسيا للحصول على الطاقة، يجب ألا تدفع الولايات المتحدة للدفاع عن ألمانيا من روسيا.
وبالتالي، فإن نبرة خطاب ترامب الحادة إزاء ذلك اعتُبرت دلالة على أن اهتمام الولايات المتحدة بحلف الناتو يتراجع، مما حدا بالبعض إلى إبداء مخاوفهم من أن واشنطن قد تتخلى عن الحلف، أو تقلص إلى حد كبير التزامها الاستراتيجي تجاهه على المدى الطويل. وذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن الإدارة الأمريكية الحالية تنوي الانسحاب من الناتو عرفانًا منها لروسيا على مساعدتها المزعومة لترامب في الفوز بانتخابات 2016 التي أوصلته إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة.
أخيرًا، يخشى الأوروبيون أن تسوء الأمور إذا أعيد انتخاب ترامب، وبالتالي فإن خسارة ترامب في نوفمبر ستقابل “بارتياح كبير” في أوروبا فهم يفترضون أنه في تلك الحالة، ستختفي التوترات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وفي حال فوز ترامب سيقوم الأوروبيون بتكثيف دبلوماسيتهم مع الكونجرس، للوقوف ضد الرئيس، إذا كان هناك انسحاب من الناتو أو انسحاب آخر مهم للقوات من أوروبا، فقد تكون هناك مقاومة قوية من كل من الديمقراطيين والجمهوريين.
بايدن.. ومحاولة استعادة ثقة شركاء الحلف
تعتمد إدارة جو بايدن “المحتملة” على افتراض أنه إذا فاز في نوفمبر المقبل، فإن أوروبا ستكون حريصة على إعادة العلاقات مع الولايات المتحدة. حيث تعهد بايدن، بتعزيز العلاقات مع الناتو في حال انتخابه، وحذر من أن حلف شمال الأطلسي قد لا يستمر إذا فاز ترامب بولاية ثانية.
وتشير التقديرات إلى أنه إذا تم انتخاب بايدن، فمن المحتمل أن يقوم بإجراءات مختلفة لبناء الثقة مع حلفاء الولايات المتحدة، ومن المرجح أن يدلي بتصريحات تؤكد التزام بلاده بالمبادرات متعددة الأطراف والمنظمات الدولية. وعلى الأرجح سيبني بايدن خطابه في الناتو على طمأنة حلفاء الولايات المتحدة فيما يتعلق بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف. ومن المحتمل أن يسعى لاستخدام الناتو لمواجهة التهديدات الصينية للأمن العالمي، بما في ذلك جهود هواوي الصينية للمساعدة في بناء شبكات اتصالات 5G في دول أوروبية مثل ألمانيا والمملكة المتحدة.
بشكل عام، سيواجه بايدن، إذا تم انتخابه، التحدي الصعب المتمثل في إرضاء مصالح جميع الحلفاء الأوروبيين أثناء سعيه لاحتواء الاستبداد المتزايد للصين والتأكيد الجيوسياسي في منطقة المحيط الهادي. ستواصل باريس وبروكسل دفع حلفائهم الأوروبيين من أجل حكم استراتيجي أوروبي أكبر على حساب الناتو. وفيما يتعلق بقرار ترامب سحب القوات الأمريكية من ألمانيا، أعلنت حملة بايدن إن قرار سحب القوات من ألمانيا سيخضع للمراجعة في حالة فوز نائب الرئيس السابق بالرئاسة. وهذا يعني احتمال عدم وجود تغيير كبير في رؤية الإدارة المستقبلية لحلف الناتو.
فقد سبق وأن هاجم بايدن خلال إحدى حملاته عندما كان سيناتور الدول الأعضاء في الناتو -وألمانيا على وجه التحديد- بسبب عدم دفع حصتهم العادلة في الحلف، قائلاً “الناتو مهم بالنسبة لنا، ونتمسك به، لكنني لست متأكدًا مما إذا كنا بحاجة إلى 289000 جندي أمريكي بتكلفة إجمالية 102 مليار دولار. على الدول الأعضاء في الحلف تحمل مسئوليتها بشكل أكبر”.
وعلى هذا، ففي حال فوز مرشح الحزب الديمقراطي بالرئاسة، نتوقع أن يسعى لاستعادة نهج أكثر تعددية تجاه السياسة الخارجية الأمريكية، على النقيض من رؤية ترامب الأحادية الجانب والقائمة على مبدأ “أمريكا أولاً”. ولكن من المرجح أن يسير بايدن على نهج أسلافه (ترامب، وأوباما، وبوش) ويبدي اعتراضه على المساهمات المنخفضة من الإنفاق الدفاعي الأوروبي، ويمكن أن تتصاعد التوترات إذا خفضت الإدارة المستقبلية –ترامب أو بايدن- الإنفاق الدفاعي الأمريكي وطالبت الأوروبيين بسد الفجوة.
ختامًا، بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات المقبلة، فإن الإدارة المستقبلية سيكون من الصعب عليها الخروج من حلف الناتو بسهولة لما يمثله من أهمية كبرى للمصالح الأمنية الأمريكية عن طريق وجود عدد كبير من القواعد الأمريكية في ألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، واليونان، كما يواصل حلفاء الناتو المشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش في الشرق الأوسط. فضلًا عن أن حلفاء الناتو من بين أقرب شركاء الولايات المتحدة وأكثرهم دعمًا للتحديات التي تواجهها مثل مكافحة الإرهاب، والتهديدات السيبرانية، وتغير المناخ، وخطر الأوبئة، والهجرة الجماعية. وبالتالي يعد حلف الناتو ميزة كبيرة للولايات المتحدة عندما يعمل كمضاعف قوة للمصالح الأمريكية.