مقالات رأي

د.محمد حسين أبوالحسن يكتب : غليان في الشرق الأوسط

غليان فى الشرق الأوسط، ووسطه تصارع مصر أخطارا غير مسبوقة، وضع يفرض إعادة التفكير فى معطيات المشهد؛ للخروج بأقل قدر من الخسائر وأكبر قدر من المكاسب؛ لأن قطع أحزمة النار وحلقات النفوذ المعادية التى تطوق المحروسة يتطلب استحقاقات صعبة وخطوات ضرورية، بعيدا عن العواطف والتمنيات، بما يكفل تحويل المحن إلى منح!.
نتحدث عن استراتيجيات كبرى يرتهن نجاحها بالفوائد المتحصلة والظروف المحيطة والسيناريوهات الممكنة، تيارها الأساسى رؤية لفرض الهيبة وكسر الحجاب الحاجز والالتفاف على الأسوار التى يبنيها الأعداء والمنافسون من حولنا، وقوامها تحركات تكتيكية آنية، ركيزتها الأولى، العصا والجزرة ــ ببساطة شديدة ــ لخلخلة قوس الأزمات، عبر حركة التفافية لفك الحصار غير المرئى.
أخطر تلك الأحزمة النارية هو التواطؤ رباعى الطبقات الإسرائيلى ــ الإثيوبى ــ التركى ــ الإيرانى، برعاية قوى دولية كبرى ولاعبين إقليميين صغار؛ يكمن خطر هذا الحزام الرباعى فى تضارب مصالحه مع مصر، بما يجعله خطرا مقيما وعائقا مرتفعا أمام طموحات القاهرة يجب تجاوزه والحد من تأثيراته. مثلا.. قضيتا سد النهضة والأزمة الليبية اللتان تشغلان الشارع المصري، بينهما ارتباط عضوى: وحدة الهدف والفاعلين، مع تنوع الوسائل، لتشتيت انتباه مصر ومصادرة قرارها إن أمكن.
حتى الآن، أحبطت إثيوبيا مساعى التوصل لاتفاق يُحقق منفعة الجميع بشأن سد النهضة، بدأت المرحلة الأولى من ملء خزان السد، بإرادة منفردة، وزعمت أن النيل بحيرة إثيوبية، فى محاولة خطيرة للسيطرة المطلقة على نهر دولي، متجاوزة اتفاقيات 1902 و1929 و1993، وإعلان المبادئ فى 2015. إن إثيوبيا فى وضع مشابه لتشيكوسلوفاكيا فى نزاعها مع المجر، على نهر الدانوب، إذ قررت محكمة العدل الدولية، أنها انتهكت القانون الدولي، بسيطرتها المنفردة، وحرمان المجر من حقها فى حصة عادلة من مياه النهر. تنتهج إثيوبيا الأكاذيب، المفاوض الإثيوبى بلا مصداقية، يطلقون الوعود ثم يتراجعون،.. دولة مارقة- لكنها هشّة وكرتونية- حولت مياه النيل لمصدر كراهية لا نبع تعاون، بما يستلزم «نقطة نظام» لامفر منها. إذن ماذا تفعل مصر؟. إذا كان من خير فى أزمة السد فهو أنها وحدت المصريين خلف القيادة السياسية وأى إجراء تتخذه، سياسيا أو غير سياسي، صحيح أن القاهرة تمارس الصبر الاستراتيجى ولم تنجر إلى المكايدات والمهاترات على ألسنة المسئولين الإثيوبيين- برغم أن المصريين غاضبون ويتطلعون للحسم- فى محاولة لمد جسور السلام والتعاون مع أشقاء النيل. بيد أن ذلك لا يعنى أى تفريط، لأن مصر لا تقدر على كلفة التهاون أو التفريط بحصتها فى النيل سر حياتها، والمصريون يتوقون لإظهار «العين الحمراء» والمجازفة المحسوبة غربا أو جنوبا؛ قال سامح شكرى وزير الخارجية: إن ميثاق الأمم المتحدة يعطى الحق للدول فى حماية مصالحها الوطنية الحيوية وضمان بقائها على قيد الحياة.
برغم عبقرية الموقع، فإن الطبيعة لم تنصف مصر، جعلتها صحراء قاحلة، تقلص ظلها حتى صارت مياهها تأتيها من خارجها، أى أن أحشاءها خارج جسدها، كما أحاطتها بالمشكلات المزمنة، آخرها أزمة ليبيا، لن نتحدث عن الاستعمار والإرهاب وجماعات الإسلام السياسى والأزمة الاقتصادية العالمية، كل ذلك يدفع مصر للتفكيرــ جديا ــ فى الولوج إلى ما بعد البقعة الجرداء ومد جسور التواصل والتعاون مع شعوب قريبة وبعيدة، بل مد ظلها عند اللزوم، أزمتا السد وليبيا اختبار قاس للإرادة المصرية أثق بأنها ستخرج منهما مرفوعة الرأس.
تقع مصر فى القوس الجنوبى لأوراسيا، قلب عالم ما بعد أمريكا، نقطة محورية فى إطار الصراع بين قوى البحر وقوى اليابسة، الفرصة سانحة كى تطرح مصر نفسها شريكا استراتيجيا للقوى الفاعلة، وهذا يتطلب نقل خطوطها الدفاعية حتى خط الاستواء وإثبات الفاعلية بالاشتباك التعاونى فى ملفات الإقليم، كذلك إظهار الهيبة فى محيطها الحيوى، النفوذ الحقيقى أن تحصل على ما تريد دون عنف، لكن ينبغى الجاهزية التامة لكل الاحتمالات، بما فيها اللجوء للقوة… انخراط كهذا يكسر أطواق العزلة ويصوغ معادلات جديدة للتكامل الإقليمى تكفل تنمية الموارد، كالمياه مثلا، وعدالة تقسيمها، ويثقل موازين المحروسة، ويعيد تشكيل التحالفات ويضمن تبريد الجبهات فى إقليم مضطرب، النصر حليف المحروسة بعد استيفاء شروطه.
يقول الفيلسوف الفرنسى جاك بيرك: بالنسبة لمصر، كل مصائب الدهر هى لا شيء، فمصر التى تبدو خاسرة لم تخسر ابدا. أما الألمانى هيجل فيرى أن الأبطال الأفذاذ هم أدوات التاريخ يدفعون عجلته إلى الأمام برغم الصعوبات!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى