الأمريكتان

هل تشهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية ضربة روسية سيبرانية قاصمة؟

اكتسبت مسألة الهجمات الإلكترونية الروسية زخمًا كبيرًا لا سيما في أعقاب قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية 2016. ومنذ ذلك الحين، اتسع الحديث عن هجمات إلكترونية روسية واسعة النطاق في عددٍ من الدول الأوروبية. الأمر الذي بلور مدلولًا بأن ثمة تهديدات روسية حقيقية قائمة ومحتملة ضد خصومها، تتم بطريقة تمكنها من تجاوز أية تفاوتات في القوة والإمكانات. الأمر الذي يعيد إلى الذهن ما ذكره وزير الدفاع الأمريكي الأسبق “تشاك هاجل” من أن التهديدات الإلكترونية تشكل خطرًا “كامنًا، وخفيًا، وغادرًا” على الولايات المتحدة ودول أخرى. لذا، ثارت التساؤلات بشأن تكرار سيناريو التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية القادمة المزمع عقدها في نوفمبر القادم.

تحذيرات متكررة

أصدر رئيس جهاز مكافحة التجسس الأمريكي “وليام إيفانينا” في 24 يوليو الجاري، بيانًا حذر فيه الأمريكيين من وجود أطراف متعددة تسعى للتأثير على مسار الانتخابات الأمريكية، داعيًا المواطنين إلى توخي الحذر. لافتًا إلى أن خصوم الولايات المتحدة يسعون لاختراق اتصالات الحملات الانتخابية الأمريكية، بالإضافة إلى محاولاتهم لاختراق “الشبكات السيبرانية”، بما في ذلك تلك المتعلقة بإدارة الانتخابات. وحذر من أن الدول الأجنبية تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة للتأثير على خيارات الناخب الأمريكي، الأمر الذي يهدد بتقويض الثقة في العملية الانتخابية، وبالتالي ضرب الديمقراطية الأمريكية برمتها.

وذكر أن هدف روسيا هو إضعاف الولايات المتحدة والتأثير على دورها العالمي، مؤكدًا أنها تواصل نشر معلومات مضللة في أمريكا بهدف تقويض الثقة في الديمقراطية الأمريكية. وحث البيان على ضرورة التحقق من مصدر المعلومات المنشورة قبل إعادة نشرها أو مشاركتها، وإبلاغ السلطات على الفور بأي نشاط ملتبس متعلق بالانتخابات.

وفي ذات السياق، حذرت وكالة الأمن القومي الأمريكية من موجة جديدة من الهجمات الإلكترونية، تشنها واحدة من أكثر وحدات التجسس الإلكتروني تقدمًا في روسيا الوحدة 74455 التابعة للمركز الرئيسي للتكنولوجيات الخاصة في مركز (GRU Main Center for Special Technologies (GTsST، كجزء من جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية التي تعرف أيضا بمجموعة Sandworm. تسببت هذه المجموعة، حسب بعض التقارير الأمنية، بالتعاون مع مجموعة BlackEnergy في انقطاع التيار الكهربائي في أوكرانيا خلال عامي 2015 و2016.

كما نشر موقع “وايرد Wired” على مدار يومي 24و25 يوليو الجاري، أخبار حول حملة قرصنة تشنها الاستخبارات العسكرية الروسية ترجع إلى ديسمبر 2018. موضحًا أن الأهداف شملت مؤسسات ومنظمات الحكومية ومرافق للطاقة، حيث استخدم قراصنة Fancy Bear الروسية مجموعة متنوعة من التقنيات لاقتحام حسابات البريد الإلكتروني المستهدفة. مضيفًا أنه في حين لا يبدو أن هذه الاختراقات مرتبطة بالانتخابات، إلا أنها مقلقة بالنظر إلى تاريخ عدوانية مجموعة قراصنة Fancy Bear. 

اختراق الانتخابات الرئاسية 2016

تعود بداية ظهور أدلة التدخل الروسي إلى ما نقله الموقع الإلكتروني لسي إن إن عن مؤسسة الأمن الإلكتروني التي استخدمتها اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي للمساعدة في مواجهة الهجمات الإلكترونية. فقد أكدت، في يونيو 2016، وقوع هجوم إلكتروني ضد شبكة أجهزة الحزب من قبل مجموعتين تُسمّيان Cozy Bear وFancy Bear على صلة بالمخابرات الروسية. وناقض هذا الادعاء مدون يدعي Guccifer 2.0 الذي أكد مسؤوليته عن الاختراق وسرقة الوثائق وبيعها لموقع ويكيليكس.

الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” إلى أن يتهم الحزب الديمقراطي بالقيام بذلك لصرف النظر عن فضيحة البريد الإلكتروني لكلينتون. وفي أكتوبر 2017، أصدر كل من وزارة الأمن الداخلي ومكتب الإستخبارات الوطني الخاص بالأمن الإنتخابي بيانًا أكدا فيه “أن أجهزة الاستخبارات أكدت أن الحكومة الروسية هي من سربت رسائل البريد الإلكترونية الأخيرة إلى ويكيليكس ودي سي ليكس”. إلا أن “جوليان أسانج” المسؤول عن ويكيليس نفي- في حوار تليفزيوني معه على قناة فوكس نيوز – قيام الحكومة الروسية بإمداده بهذه التسريبات.      

ووفقًا لبعض التقارير فإن المخابرات العسكرية الروسية قد اخترقت حواسيب اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وحساب البريد الإلكتروني الشخصي لمدير حملة هيلاري كلينتون “جون بوديستا”، وأرسلت محتوياتها إلى ويكيليكس. في يناير 2017، أكد مدير المخابرات الوطنية “جيمس كلابر” أن روسيا تدخلت أيضًا في الانتخابات من خلال نشر الأخبار المزيفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وفي السياق ذاته، أشار موقع سبوتنيك الروسي إلى المقتطفات التي قامت بتوزيعها لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ كجزء من تقريرٍ لها:” قامت روسيا بمجموعة واسعة من الأنشطة الاستخبارية التي تستهدف عملية التصويت في الولايات المتحدة. وكذا العمليات التي ربما تهدف إلى تشويه عملية التصويت في الانتخابات ونتائجها، حيث استهدفت ما لا يقل عن 18 ولاية، وقد يصل إلى 21 ولاية”. 

وارتباطًا بذلك، فتح المستشار الخاص “روبرت مولر” التحقيق مع فريق عمل “فيسبوك”، في إطار هذه القضية. وفي سبتمبر 2017، اعترف “فيسبوك” بأن الروس استخدموا هويات زائفة للتأثير على الانتخابات؛ لذا حظر “فيسبوك” في يوليو 2018 “32” حسابًا وصفحةً يُعتقد أنها تتدخل في انتخابات التجديد النصفي بالولايات المتحدة في نوفمبر 2018. مشيرًا إلى أنه لم يجد النطاق الروسي للإنترنت لكنه وجد رابطًا بين وكالة أبحاث الإنترنت التابعة لروسيا، وأحد الحسابات المحظورة وهي Resisters. معتبرًا أن الأزمة تكمن في وجود مديري صفحات غير محظورة متفاعلين مع الصفحات المحظورة وعلى استعداد للتعاون معهم.

وفي المقابل، صرح الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بأن الروس المتهمين من قبل واشنطن لا يمثلون الحكومة الروسية، وإنما قد يكونوا مواطنين روس راغبين في الرد على الإهانات الأمريكية المتكررة بحق روسيا. ووصف الناطق باسم الرئاسة الروسية “دميتري بيسكوف” هذه الاتهامات، بأنها لا أساس لها على الإطلاق.

الانتخابات الرئاسية القادمة

يمكن القول بشكل عام، إن أزمة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016، لم تكن الوحيدة وإنما هي مجرد حلقة ضمن سلسلة طويلة من عمليات الهجوم المتكررة التي تتهم الولايات المتحدة الحكومة الروسية بشنها عبر الفضاء الإلكتروني، ومنها ما ادعته الولايات المتحدة في يونيو 2017 من قيام روسيا بشن هجوم شامل وواسع “نوتبيتيا” ضد كل من الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا، ووصفه البيت الأبيض بأنه “الأكثر تدميرًا وكلفة في التاريخ”.

علاوة على ذلك، يتضح أن المشكلات الحالية التي تتعرض لها الولايات المتحدة قد جعلت الساحة السياسية الأمريكية أكثر تعقيدًا بطريقة أتاحت مزيدًا من الفرص أمام خصومها، لا سيما روسيا، لاستغلال هذه الأوضاع. يمكن بلورة التهديدات الروسية المحتملة في 3 أشكال رئيسة:

تعزيز حالة عدم الثقة

يمكن استقراء بوادر حالة عدم الثقة في المشهد السياسي بشكل عام والمشهد الانتخابي بشكل خاص منذ انتخابات 2016. فقد دأب “ترامب” منذ أن كان مرشحًا على الادعاء بأن الانتخابات سيتم تزويرها أو سرقتها، بل وأعلن رفضه المسبق لقبول النتائج إذا خسر. وفي أعقاب ذلك، لجأ أعضاء كلا الحزبين السياسيين إلى التشكيك في نزاهة الانتخابات عندما لا تسير لصالحهم، الأمر الذي غذى الشعور المتنامي بعدم الثقة في العملية الانتخابية. وجاءت المحاولات الروسية للتدخل في انتخابات 2016 لتزيد الأمر تعقيدًا. لذا بات لدى روسيا فرصًا أكبر لتعزيز حالة عدم الثقة الموجودة بالفعل.

ويساعد من حدة التدخلات الروسية في هذا الصدد، هيمنة جائحة كورونا على العناوين الرئيسة للأخبار والقنوات الفضائية، بطريقة أدت إلى تهميش حالة الزخم السياسي والمنافسة السياسية التي كانت دومًا تغلف العام الذي ستُجرى فيه الانتخابات. يضاف إلى ذلك ما يمكن وصفه بــ”حالة السخط وعدم الرضا” جراء الإدارة المتذبذبة لجائحة كورونا، والتي جعلت الولايات المتحدة في مقدمة دول العالم من حيث أعداد الإصابات والوفيات. فضلًا عن، الاحتجاجات وأعمال الشغب الأخيرة التي شهدتها الولايات المتحدة، والتي برهنت –إلى حد كبير- على وجود حالة من الغضب المكبوت ضد الأوضاع القائمة والتي زادت سوءًا مع اتساع نطاق فيروس كورونا. كما أنها دللت أيضًا على وجود حالة من عدم الرضا –ولو الجزئي- عن النموذج الأمريكي. 

المعلومات المغلوطة والمضللة

في ظل أجواء انتشار فيروس كورونا، وذيوع حالة عدم اليقين بشأن الانتخابات المقبلة وقواعدها الجديدة؛ ستصبح لدى الأطراف القدرة على زعزعة المشهد الانتخابي عن طريق نشر معلومات مضللة في وسائل التواصل الاجتماعي، سواء كان داخل الولايات المتحدة أو خارجها. لأنه كلما غلفت وعمت الفوضى شؤون الحياة اليومية والساحة السياسية الداخلية، زادت احتمالية انتشار الشائعات وتصديقها وتداولها فيما بين المواطنين. لذا، قد يتم استخدام التضليل عن طريق تضخيم مخاوف الإصابة بالفيروس عند التصويت، كما قد تطال المعلومات المضللة إجراءات وطرق التصويت.

وعلى الجانب الآخر، من المرجح أن تستمر الجائحة حتى موعد إجراء الانتخابات. لذا، فمن غير المتوقع أن يتمكن الناخبون من الذهاب بأمان إلى صناديق الاقتراع. الأمر الذي يعني اعتماد الولايات المتحدة على أدوات متعددة للتصويت، ومن بينها التوسع في التصويت عبر البريد. ومن ثم، ستتسع فرصة روسيا في نشر المعلومات المغلوطة بشأن إدارة العملية الانتخابية وفرص المواطنين في الإدلاء بأصواتهم. على سبيل المثال: يمكنها نشر معلومات مغلوطة بشأن غلق مراكز الاقتراع في بعض الولايات مختارة بشكل استراتيجي للتأثير في نتيجة الانتخابات. وكذا الاسترسال في نشر المعلومات المضللة بشأن تعرض التصويت بالبريد للتزوير، ذلك كونه أكثر عرضة للتزوير من التصويت الشخصي، حيث تنتقل بطاقات الاقتراع بعيدًا عن أعين المسؤولين والمراقبين الانتخابيين، ويمكن بسهولة شراؤها أو بيعها أو تغييرها أو تدميرها.

استهداف العملية الانتخابية 

على الرغم من الإشكاليات التي يطرحها فيروس كورونا على الانتخابات الرئاسية؛ إلا أنه من غير المرجح أن يتم تأجيلها. وفي هذا السياق، قد تتجه الولايات المتحدة إلى الاعتماد على خيارات أخرى كالتصويت عبر البريد، إلا أنه قد لا يكون خيارًا مناسبًا بشكل كبير، لأنه يحتاج إلى موارد مالية أضخم ومسؤولي انتخابات أكثر كفاءة. فضلًا عما تعانيه خدمة البريد الأمريكية من حالة تراجع ونقص الموارد المالية. لذا، قد تتجه الولايات المتحدة إلى التوسع في التصويت الإلكتروني، بطريقة قد تضع العملية الانتخابية برمتها في مرمى الاستهداف والهجمات السيبرانية.

ويرجع ذلك إلى كون كل مرحلة في مراحل الانتخابات ستكون في حالة أكثر انكشافية وعرضه لأي اختراق أو هجوم إلكتروني، بداية من المراسلات بين أعضاء الحزب الواحد –مثلما حدث في انتخابات 2016– مرورًا بمرحلة الاختيار الشخصي لدى كل مواطن، وصولًا إلى مرحلة التجميع وتحديد المرشح الفائز.

ووفقًا لوكالة “مونت كارلو الدولية”، ستشهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة أداة للتصويت عبر الهواتف الذكية للمرضى الذين يعانون من إعاقة جسدية في ولاية فيرجينيا الغربية، عبر البرنامج “فواتز” الذي يستخدمه العسكريون الأمريكيون. كما ناقش تقرير جديد، صدر في يونيو 2020، من قبل باحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة ميشيجان التصويت عبر OmniBallot، وهو نظام للاقتراع عبر الإنترنت، أعلنت بعض الولايات عن استخدامه في مقدمتها ديلاوير ووست فرجينيا ونيوجيرسي. 

وأوضح الباحثون أن OmniBallot يستخدم نهجًا مبسطًا للتصويت يكون عرضة للتلاعب من خلال البرامج الضارة. وفي هذا السياق، علق “أندرو آبل” أستاذ علوم البرمجة في جامعة “برينستون” على التصويت الإلكتروني بالآتي “لا يمكن تأمين التصويت عبر الإنترنت بالاستناد إلى أي تكنولوجيا متاحة”.

إجمالًا، يمكن القول بشكل عام، إن الأوضاع والمشكلات التي تشهدها الساحة الداخلية الأمريكية توفر بيئة خصبة لاستهدافها من قبل خصومها وليس روسيا فقط. وتميل أغلب الأطراف الدولية – سواء دول أو فواعل من غير الدول – إلى الاعتماد على الفضاء السيبراني في تنافسها مع خصومها، كونه يوفر بيئة تنافسية أكثر انصافًا تتجاوز التفاوتات في القوة والإمكانات التقليدية، كما يوفر فرصًا أكبر لإخفاء الهوية والمسؤولية عن الهجوم، فضلًا عن السماح بتوفير قنوات للنفاذ للقواعد الشعبية – والتأثير فيها – على اختلافها. الأمر الذي يعني أن الساحة الأمريكية ستكون مرشحة بقوة لتهديدات واسعة من قبل روسيا وفاعلين آخرين. وعليه، فإن الوضع لا يتطلب فقط من الإدارة الأمريكية سياسية سيبرانية أكثر دقة، وإنما يتطلب إدارة الدولة وفق سياسة أكثر فاعلية على مختلف الأصعدة.

+ posts

رئيس وحدة الدراسات الأمريكية

د. مها علام

رئيس وحدة الدراسات الأمريكية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى