
التباين في مدارس البحث العلمي
في السنة الأولى الجامعية، تم تقديم العلوم السياسية على أنها علم أمريكي تم استحداثه في أوائل خمسينات القرن العشرين، استمد “علميته” نتيجة اعتماده بشكل رئيسي على منهج سلوكي يهدف إلى الحياد القيمي والأخلاقي للباحث تجاه دراسة الظاهرة السياسية، والالتزام الصارم بواقعية ما يدرسه وسد الطريق أمام أي تأملات فلسفية، والتي يتم عادة وصفها بالتفلسف ذات المعنى السلبي. وتعتمد العلوم السياسية من تلك النظرة على المنهجية العلمية في التحليل.
تدرس العلوم السياسية وفق المدرسة الأمريكية المهيمنة مادتها العلمية وبحثها عبر تحديد وقائع معينة وتميزها باختلافها عن وقائع أخرى اقتصادية أو قانونية. بالإضافة إلى أن الهدف البحثي يسير نحو التعريف الدقيق ونَظْم الوقائع في إطارها الموضوعي الحيادي البعيد عن الأحكام.
على الجانب الأخر، هناك مناهج أخرى يتم وصمها بأنها غير علمية من قِبل المنهج السلوكي، تتقبل أن الفرد لا يمكنه الهروب من العالم الذي يقوم بملاحظته وتحليله، وأن عليه أن يصدر بعض الأحكام الناتجة عن وعيه بتموضعه في العالم الذي يدرسه وعدم الفصل بينه وبين عالمه.
فوفق الفيلسوف الفرنسي “كلود ليفورت”، دفع هذا المنهج العلمي للبحث السياسي والذي قد تحول إلى أيديولوجية العلوم، والميل نحو تجنب إصدار الأحكام وتحديد البحث في إطاره الموضوعي والحيادي، إلى التغاضي عن الفارق بين الشرعي وغير الشرعي وبين الحقيقة والكذب وبين السعي نحو حيازة القوة والمصالح الشخصية أو المصلحة العامة. وبالتالي فإن التغاضي وإغفال تلك التمايزات لا يوصل البحث أو الباحث نفسه إلى فهم تموضعه واشتباكه مع العالم الذي يعيش فيه وإضفاء معنى له.
هذا التعارض في المناهج والمدارس الفكرية ليس مقتصرًا على مصر. إذ إن التقديم لبرامج الدراسات العليا في الجامعات الإسبانية على سبيل المثال يعتمد على المنهج وموضوع البحث الذي يتناوله الباحث. ونجد أن كليات العلوم السياسية تقوم بتدريس برامج العلاقات الدولية والسياسة المقارنة، وفق منهج التحليل السلوكي الهادف إلى الوصول لتعريفات وضوابط محددة للظواهر السياسية وعبر قياسات كمية. في حين أن دراسة الفكر السياسي والفلسفة السياسية يقع ضمن كليات العلوم الإنسانية.
نتيجة لهيمنة مناهج تلتزم الحيادية الصارمة عند تبنيها الظواهر السياسية وتجنب إصدار الأحكام أو الذهاب لما هو أبعد من الظاهرة أو حتى معرفة ما السياسي فيها، أن البحث “العلمي” للعلوم السياسية في مصر هو تجميع المعلومات لما هو مفرق ومشتت ونظمها في إطار مجمع لها. هذا إلى جانب الغوص في تفاصيل كثيرة بصورة يتلاشى معها الهدف من البحث والقضية السياسية التي يتم التعامل بشأنها أو الوصول إلى فكر جديد يحل الأمر.
فالحيادية لم تقدم جديدًا للتعامل مع المشكلات السياسية التي واجهتها مصر متمثلة في الدولة والمجتمع، والوقوف على أسباب الثورة وتفشي فكر الإخوان في المجتمع وركود الفكر السياسي والديني أو حتى الاشتباك مع التاريخ والأدب والفكر لتحليل وتفسير فشل منظمة الصحة العالمية في التعامل مع جائحة كورونا وعدم التنبؤ بالأوضاع الإقليمية.
ويأتي هذا القصور بدعوى الواقعية في البحث، في الوقت الذي تم فيه ترسيخ هذا الواقع انطلاقًا من فكرة جديدة وخيال كان حلمًا يومًا ما. ففي فكر الشاعر والفيلسوف الأرجنتيني “لويس بورخيس”، لم يفرق بين الواقع السياسي والحلم والخيال، وأن من الواجب على حد تعبيره أن “نقبل بالحلم تمامًا كما نقبل بالعالم”. كما لا يرى “بورخيس” في قصيدته بعنوان “الحلم” على أنه راحة أو هدنة للعقل؛ وإلا فلماذا يفزع الشخص عند إيقاظه فجأة؟ فـبورخيس لا يحب الاستيقاظ؛ لأن الحياة عنده حلم.
ويقع البحث العلمي في مراحل، لم يتم تجاوز المرحلة الأولى في مصر ما هو أبعد من تجميع المفرق أو تفصيل المجمع. لكن هناك مراحل ومستويات أعلى، تتصل بإضافة الجديد أو حذف القديم أو تعديله أو استكمال ناقص. ويأتي الإبداع والاختراع بخلق مناهج أو مرادفات أو فكر يعبر عن مصرية الباحث ونظرته لعالم السياسة والكون أجمع.
فالشخصية المصرية في أصلها الفرعوني تتميز بالاختراع والإبداع والحيرة والقوة. فالبحث العلمي يتطلب الجرأة والقوة والإقدام. ويمكن أن ما اقترفته المدرسة الأمريكية والذي انتهجه عدد من الكتاب في مصر بمثابة تطبيق مسلّم به للحياد عن الظاهرة، للوصول لتحليل آمن لا يُقحم فيه الباحث نفسه في أي مداخل أو زوايا لا يعرف نهايتها. وبالتالي، فهذا الأسلوب في البحث والكتابة ابتعد كل البعد عن المصرية الأصيلة، التي لا تهاب الجديد ولا تتوقف عن الحلم. بما يدعو للحاجة إلى تطوير فكر مصري أصيل، يشتبك مع المدارس والمناهج الفكرية الأخرى الأوروبية منها كالمدرسة الفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية، والمدارس الأسيوية والإفريقية وحتى اللاتينية.
في الختام، يُثار عدد من الأسئلة قد تكون نواة لعدد من المقالات اللاحقة عن ماهية الحيادية القيمية، ومدى تأثيرها على البحث في مصر بصورة مفصلة، وماهية المدارس الأخرى واشتباكها مع واقعها ومدى تأثيرها على تغيير الواقع الذي عاصرته سواء بالكتابات السياسية أو الأدبية والفكرية والفنية، والاستفادة منها في تطوير مدرسة مصرية حقيقية تشتبك مع واقعها ولا تهاب ما هو جديد وتحفز الإبداع.