تركيا

دوافع ودلالات الموقف التركي من التصعيد بين “أذربيجان وأرمينيا”

كتب: شادي محسن

أعلنت وزارة الخارجية التركية (13 يوليو) إدانتها للتصعيد العسكري الأخير وما وصفته “استفزازًا أرمينيًا على الأراضي الأذرية”. وهدّد الرئيس التركي أردوغان أرمينيا قائلاً: إن بلاده “لن تتردد أبداً” في التصدي لأي هجوم على حقوق وأراضي أذربيجان. سبقه وزير الدفاع خلوصي أكار، مؤكدًا أن تركيا ستواصل “الوقوف إلى جانب القوات المسلحة الأذرية ضد أرمينيا” و”سيكون الجيش التركي وإمكاناته تحت تصرف أذربيجان”.

ملابسات الأزمة

تبادلت أرمينيا وأذربيجان الاتهامات ضد بعضهما البعض حول من المسؤول عن إشعال فتيل الأزمة. إذ أوضحت وزارة الدفاع الأرمينية أن سيارة جيب عسكرية أذرية اقتربت باتجاه منطقة تافوش الحدودية الأرمينية مما ألزم الجيش بالرد على “الاستفزاز الأذري” والتقدم باتجاه منطقة توفوز الأذرية (12 يوليو).

خريطة توضح موقع المناوشات العسكرية الأخيرة شمال غرب أذربيجان “منطقة توفوز”

فيما حرص المسؤولون الأذريون على دفع الاتهامات السابقة، ونشروا أنباء تفيد بأن القوات الأرمينية فتحت النار على مواقع عسكرية أذرية، منتهكة وقف إطلاق النار في مقاطعة توفوز بالمدفعية، محاولة الاستيلاء على المدينة.

بذلت أرمينيا جهدًا عسكريًا كبيرًا بشكل ملحوظ في الأزمة الأخيرة مما دفع تركيا إلى القول إن التصرف الأرميني جاء بشكل متعمد وليس من قبيل رد الفعل على السلوك الأذري. إذ حشد الجيش الأرميني قطعا عسكرية ثقيلة تموضعت على الحدود المشتركة بين البلدين، وقطع أخرى تموضعت على مرتفع استراتيجي في منطقة توفوز الأذرية.

الدوافع التركية

يأتي الانحياز التركي الصريح للموقف الأذري في الأزمة الأخيرة لجملة من الدوافع، يبرز أهمها كما يلي:

أولا: حماية المشاريع الجيوسياسية في مجال الطاقة: تعد العاصمة الأذرية “باكو” المصدر الرئيسي للنفط المار في خط الأنابيب “باكو-تبليسي-جيهان” وهو ثاني أطول خط أنابيب في العالم، أحد الموارد الرئيسية للنفط المستهلك في تركيا. كما تعد المصدر الرئيسي لخط أنابيب “خط أنابيب الغاز العابر للبحر الأدرياتيكي” المشروع المصمم لنقل الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، والذي أكدت أثينا (مايو 2020) تجربته بنجاح.

(تظهر الخريطة خط الغاز العابر للبحر الأدرياتيكي (باللون الأحمر

وخروجًا إلى مشهد أشمل يمكن القول إن تركيا تعتزم خلق فضاءات سياسية واقتصادية لها في دول منطقة القوقاز وآسيا الوسطى الزاخرة بموارد الطاقة والتي تطمح لتغذية سوق الطاقة في أوروبا من خلال الأراضي التركية، مما يعزز من كون تركيا دولة ممر لمشاريع الطاقة بين آسيا وأوروبا المستقبلية، وبالتالي تتشكل لتركيا قوة جيوسياسية متعاظمة.

لكن يبدو أن التحرك العسكري الأرميني الأخير أخذ طابعًا مغايرًا لما سبق من تصعيدات بين البلدين، إذ جاءت شرارة الأزمة في 12 يوليو بعيدًا عن المنطقة المتنازع عليها “ناجورني قرة باخ”، ليحتل منطقة توفوز الأذرية التي تبعد بحوالي 70 كم فقط عن خط أنابيب “باكو تبليسي جيهان” إذ نصبت أرمينيا قطعًا عسكريًا ثقيلة على مرتفع استراتيجي يطل على الخط مما يسمح لها بتهديده في أي وقت. وهو ما دفع الأتراك للشعور بأن التحرك الأرميني الأخير هو تهديد مباشر لمصالحهم، وهو ما يفسر الاستجابة التركية الرسمية واللغة الحادة في خطابها السياسي تجاه الأزمة.

ثانيًا: الحرص على تثبيت أذربيجان في المدار التركي: تستخدم أنقرة عبارة “دولتين لشعب واحد” في إشارة إلى الشعب الأذري الذي يتشكل أغلبيته من عرق الأذر التركي والناطق باللغة التركية. في حين لاحظت أنقرة إشارات روسية تصدر من موسكو باتجاه العاصمة الأذرية باكو تفيد بأن الأولى ترغب في التقارب مع أذربيجان دون النظر إلى الصراع الممتد مع أرمينيا.

اتضح هذا التقارب في دعوة موسكو لباكو بالانضمام إلى الاتحاد الأوراسي، كما تَلاحظ أن روسيا امتنعت عن تبني سلوكًا معاديًا وصريحًا ضد أذربيجان نافية أن تكون المناورات العسكرية جنوب البلاد ذات صلة بالأزمة بين أذربيجان وحليفتها أرمينيا، ومؤكدة أنها تستهدف الوساطة بين البلدين من أجل تسوية الأزمة.

لذا يشعر أردوغان بأن النفوذ التركي في أذربيجان قد يكون موضع تهديد أو خطر من الجانب الروسي، إذ تسير روسيا وفق استراتيجية محددة في المنطقة تستهدف عدم الإتاحة لأي دولة خارجية أن تضع نفوذًا كبيرًا في منطقة القوقاز. وعليه تبنت أنقرة “خطابًا سياسيًا لا يتجاوز التحرك الميداني” بالرد العسكري على الطرف الذي يعرض أمن أذربيجان للخطر، استتبع الموقف التركي المنحاز لأذربيجان الرد النهائي الأذري على الدعوة الروسية بانضمامها إلى الاتحاد الاوراسي والذي جاء على لسان سفير أذربيجان في موسكو، قائلا: إن باكو لا تخطط للانضمام إلى الاتحاد الاوراسي. (14 يوليو 2020)

ثالثا: تعزيز القاعدة السياسية الداخلية في تركيا: لا يمكن فصل تحركات أردوغان الأخيرة منها تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، والتقدم العسكري التركي في العراق “عملية المخلب”، عن العوامل الداخلية التي تتفاعل في تركيا والتي تتشكل أبرز ملامحها في تراجع شعبية الرئيس التركي بسبب المشهد الاقتصادي المتدهور. إذ كانت أرقام معهد الإحصاء التركي قد بينت في يونيو 2020، ارتفاع عجز التجارة الخارجية لتركيا بنسبة 102.7% على أساس سنوي في مايو إلى 3.42 مليار دولار.

 لذا يستغل أردوغان الملفات الإقليمية لترميم صورته الداخلية وقاعدته السياسية في تركيا. إذ صرح رئيس مؤسسة “GENAR” لاستطلاعات الرأي والدراسات المجتمعية التركية “إحسان أكتاش”: “إن الفترة المقبلة ستشهد تراجعًا عنيفًا لأصوات حزب العدالة والتنمية، لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض”. (6 يوليو 2020)

“تزامن التصعيد مع ليبيا”

شرعت أنقرة في تبني خطاب سياسي منذ يونيو 2020 يفيد بقبول تركيا للحضور الأمريكي في الأزمة الليبية والوصول معها إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتشجيع المسار السياسي. إذ قال وزير خارجية تركيا “مولود جاويش” في 18 يونيو 2020: “إن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تلعب دورًا أكثر فاعلية في ليبيا”، مشيرًا إلى وجود تقارب حاليًا بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان بخصوص الملف الليبي. ارتفع سير هذا النهج بإصدار الرئاسة التركية بيانًا يفيد بأن أنقرة وواشنطن اتفقتا على التعاون الوثيق من أجل تحقيق استقرار دائم في ليبيا، “ورفع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار”. (14 يوليو 2020) وهو ما يعني أن الولايات المتحدة وافقت على رفع الحواجز التجارية أمام الاقتصاد التركي ليصل إلى المستهدف الذي وضعته أنقرة في علاقتها مع واشنطن.

بيد أن التقارب الأمريكي التركي في ليبيا لم يلق استحسانًا لدى الجانب الروسي وهو الذي ظهرت إحدى مؤشراته الأولية في إلغاء موسكو لزيارة وفد روسي إلى تركيا للتباحث بشأن ليبيا (14 يونيو 2020). وهو ما يستدعي أيضا دلالة التوقيت التي تزامنت فيها الأزمة بين أذربيجان (الحليف التركي) وأرمينيا (الحليف الروسي).

سارعت أرمينيا لرفع طلب إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي (التي تضم أرمينيا وروسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغستان وطاجكستان) في 13 يوليو 2020. هذا التصرف الأرميني يعكس رغبة يريفان في استدعاء الدور الروسي المباشر في الأزمة، فوفقًا للبند الرابع من ميثاق المنظمة: “يشكل الاعتداء على أحد أعضاء المنظمة اعتداءً على كامل المنظمة”. على إثره استجابت المنظمة بإصدار بيان يستنكر استمرار الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، ويذكر بأن أرمينيا هي عضو من أعضاء المنظمة. كما تعهدت برفع حيثيات الأزمة إلى طاولة مجلس الأمن الدولي من خلال العضو الدائم في المجلس “الاتحاد الروسي”.

سعت موسكو من خلال هذا التصعيد المحدود عبر تحركات منظمة معاهدة الأمن الجماعي جس نبض رد الفعل التركي وقياس مستجدات المشهد في ليبيا. وظهرت النتيجة في تصريح السفير التركي في روسيا “محمد صامصار” (15 يوليو 2020) الذي قال: “هناك مباحثات ثنائية بين روسيا وتركيا بصدد إقامة مجلس تعاون عالي المستوى من أجل النقاش في قضايا إقليمية”. كما أشار إلى أن هناك اتصالًا هاتفيًا جمع الرئيس التركي بالرئيس الروسي.

وعلى الرغم من الاتجاهات غير المتقاطعة تماما بين تركيا وروسيا في ليبيا إلا أن الطرفين نجحا في العمل معًا على إصدار بيان مشترك صادر عن أنقرة يفيد بالاتفاق على وقف إطلاق النار في ليبيا والعمل على تسهيل الحوار السياسي بين الأطراف المتحاربة في ليبيا. (22 يوليو 2020).

وهو ما تزامن معه أن أزالت منظمة معاهدة الأمن الجماعي بيانها الذي تعهدت فيه برفع الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا إلى مجلس الأمن من موقعها الالكتروني واكتفت باستنكار استمرار التوتر بين البلدين (حسب موقع أوراسيا نت).

بناءً عليه، يمكن القول إن الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا هي أزمة انفلات إقليمية خفت لهيبها فجأة كما اشتعل فجأة. سعى فيها أردوغان إلى إظهار موقف انحيازي صريح باتجاه حليفه الاستراتيجي “أذربيجان” ولكنه بقي في مربع الإشارات اللفظية العنيفة التي لم يستتبعها أي تحرك عسكري بناءً على دوافع داخلية واستراتيجية تربط تركيا بمنطقة القوقاز. في حين جاء التحرك التركي الحقيقي باتجاه آخر تمامًا: باتجاه روسيا. إذ أدرك أردوغان أن استمرار تصاعد الأزمة ضد أرمينيا هو تصعيد ضد موسكو ذاتها. كما أدرك أنها أزمة تفلتت من الأزمة الرئيسية في ليبيا والتي جاءت أبرز عناوينها هو “التقارب التركي الأمريكي على حساب التقارب مع روسيا”. لذلك عمل أردوغان على تصحيح الوضع وشرع في إيجاد قنوات اتصال أفقية ورأسية مع موسكو بشأن الوضع في ليبيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى