
د.نيڤين مسعد تكتب: حديث القبيلة
أثار اللقاء الموسع الذي عقده الرئيس عبد الفتاح السيسي مع وفد من رؤساء ومشايخ مختلف القبائل الليبية -نقاشاً حول دور القبيلة في الدولة الوطنية الحديثة ، ويمكن بلورة وجهات النظر المعارضة التي طرحها هذا النقاش في ثلاث نقاط أساسية ، النقطة الأولي هي أن الدولة الوطنية الحديثة تعد هي مركز الانتماء ، وبالتالي فمع التسليم بأن مختلف الدول العربية توجد بها انتماءات أولية سواء للقبيلة أو للدين أو للطائفة أو للجماعة العرقية إلا أن هذه الانتماءات الضيقة يجب ألا تنازع الانتماء للدولة نفسها ، وبالتالي فإن المطالبة بدور للقبائل في الأزمة الليبية يتنافى مع منطق الحداثة . النقطة الثانية هي أن تدريب القبائل وتسليحها ينذر بحرب أهلية بين أبناء الشعب الليبي وقد يؤدي إلي استنساخ النموذج الصومالي في ليبيا . النقطة الثالثة هي أن القبائل التي استقبل الرئيس المصري ممثليها لا وزن لها في المجتمع الليبي ولا تملك التأثير علي مسار التطورات السياسية في الأزمة الليبية ، وهنا نلاحظ أن القول بأن القبائل التي حضر ممثلوها للقاهرة لا وزن لها يتناقض منطقياً مع التحذير من أن تدريبها يمكن أن يتسبب في اندلاع حرب أهلية ، إذ أن المنطق يفترض أنها إذا كانت قبائل هامشية لاقيمة لها فإن عزلها يصبح أمراً سهلًا وغير مكلف ، لكن من يدعي أصلاً أن كل الذي يجري علي أرض ليبيا من قلب للأوضاع وليّ للحقائق يمت للمنطق بل وللعقل أصلاً بصلة ؟
بداية بالنقطة الخاصة بأنه في الدولة الوطنية الحديثة يكون الانتماء للدولة ، فإن هذا الكلام سليم تماماً إذا كانت الدولة تقوم بوظائفها الاقتصادية والاجتماعية المعروفة وتحقق الأمن وتحتكر في يدها السلاح ، لكن واقع الحال يشهد أنه في ظل عجز كثير من الدول العربية عن أداء تلك الوظائف فإن الناس عادة ما يلجأون لجماعاتهم الصغيرة لتلبية احتياجاتهم الأساسية . هذا الوضع يبلغ ذروته في دولة مثل الصومال حيث لا وجود للدولة أصلاً وحيث مؤسسة القبيلة هي التي تتولي إدارة الحياة اليومية وتقديم الخدمات العامة والفصل في المنازعات بين الناس .ويأخذ الوضع القبلي شكلاً آخر في الحالة اليمنية من خلال العلاقة العضوية بين كلٍ من مؤسسة الحكم ومؤسسة القبيلة ، وذلك أنه باستثناء فترة حكم إبراهيم الحامدي التي استمرت من ١٩٧٤ حتي ١٩٧٧ فإن أياً من الرؤساء المتعاقبين علي حكم اليمن لم يدّع السعي إلي التحديث عبر تفكيك الانتماء للقبيلة . فإذا ما انتقلنا لدولة مثل العراق وليبيا سنجد أن عاملاً أساسياً من عوامل إنعاش دور القبيلة فيهما هو التدخل الخارجي الذي قوّض أركان الدولة وفي القلب منها المؤسسة العسكرية . ومن سخرية القدر أن الولايات المتحدة التي حلّت الجيش العراقي في ٢٠٠٣ اضطرت لتسليح العشائر العراقية لمواجهة تصاعد خطر القاعدة بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠٠٨ ، وعُرفت هذه الظاهرة باسم ظاهرة الصحوات ، فكأن الولايات المتحدة التي بررت احتلالها العراق بإقامة نموذج ديمقراطي حديث انتهت إلي الاعتماد علي التكوينات العشائرية والقبلية . وماقيل علي العراق بعد ٢٠٠٣ يصدق علي ليبيا بعد تدخل حلف شمال الأطلنطي في ٢٠١١ لإسقاط حكم القذافي .
أنتقل إلي النقطة الخاصة بأن تسليح القبائل يهدد بإشعال حرب أهلية ليبية وهو أغرب نقد يمكن توجيهه في هذا السياق .وذلك لأن العالم كله يتفرج علي الطائرات التركية وهي تنقل إلي طرابلس مرتزقة من سوريا ينتمون لعديد من الجنسيات عربية وغير عربية ، كما يتابع العالم تصريحات المسؤولين الأتراك عن التفكير في نقل مرتزقة من الصومال لدعم حكومة السراج بتنسيق مع قطر ، أو مرتزقة من إخوان اليمن للمشاركة في الهجوم علي سرت والجفرة ، وهذا كله لا يتسبب في إشعال حرب أهلية ليبية ، أما أن تصطف القبائل الليبية وراء الجيش الوطني كما سبق أن اصطفت وراءه لتطهير بني غازي ودرنة من الجماعات الإرهابية ، هذا الاصطفاف وحده هو الذي يُخشَي أن يقود إلي الاحتراب الأهلي ، يا سبحان الله! إن من تخوفوا من أن تصبح ليبيا مثل الصومال لم يصدقوا إلا في شئ واحد هو أن القاسم المشترك بين الحالتين هو الدور التركي ، فالصومال مرتع للنفوذ التركي بكل صوره وأيضا غرب ليبيا .
آتي للنقطة الخاصة بأن القبائل الليبية التي جاءت إلي القاهرة واجتمعت مع الرئيس السيسي لا تمثل إلا نفسها ، وهذا أمر عجيب آخر فمن من باب أولي أن نسأل تركيا عمن تمثلهم في ليبيا اللهم إلا إذا أخذنا علي محمل الجد كلام أردوغان عن أن الأتراك يدافعون عن أحفاد عمر المختار( الذين حاربوا الأتراك أصلاً وهزموهم ) أو كررنا الجملة المخادعة عن أن الأتراك يمثلون الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا ، لكن القاعدة المعروفة هي : قل لي ماذا تزهو به أقول لك ماذا ينقصك ، وما أكثر ما يزهو السراج بشرعيته . إن مائتين من أبناء القبائل من مختلف أنحاء ليبيا الذين استضافتهم مصر قبل أيام هم جزء لا يتجزأ من التكوين الاجتماعي للشعب الليبي ولهم امتداداتهم خارج ليبيا في عدد من دول جوارها وعلي رأسها مصر .
في اللحظة التي تتخلص فيها الدولة الليبية من القوي المتآمرة علي ثرواتها وتنزع سلاح الميليشات المأجورة ضدها فإنها سوف تتمكن من بناء مؤسساتها الوطنية وفرض سيادتها علي كامل أراضيها ، ومن يرجع إلي مواقف القيادة السياسية المصرية من كل الصراعات الدائرة في المنطقة العربية سيجد أنها تركز علي دعم الدولة ومؤسساتها وعلي رأسها المؤسسة العسكرية التي هي عامود الاستقرار وحامية الوطن. تلك هي بداية التحديث وأولي خطواته التي تضمن أن يكون الانتماء الأسمى للدولة ، أما التصايح للدفاع عن الحداثة والسلم الأهلي بينما الأرض الليبية محتلة والإرادة الوطنية مسلوبة والطرف الآخر في الصراع يوظف الدين في السياسة فإن هذا هو عين ما يصدق فيه القول : كلمة حق يراد بها باطل
نقلا عن صحيفة الأهرام