
معضلة الجغرافيا ونضوب الطاقة والتقنية.. هل تنجح تركيا في استخراج النفط والغاز في الجبهات البحرية الثلاث؟
كثيرا ما تستند تحركات السياسة الخارجية التركية منذ اندلاع موجات ما يُسمي بالربيع العربي على إدراك وافِ بمحورية وأهمية الموقع الجغرافي لتركيا بالغ التميز بالنسبة للقوي الدولية التقليدية والصاعدة. فإرث الحرب الباردة والصراع بين الكتل الشرقية والغربية، والتموضع التركي إبان تلك الفترة ترك بصماته في ذهنية صناع القرار على تباين خلفياتهم الأيديولوجية، من الأجنحة الأوراسية، والأطلسية، القومية اليمينية؛ بأن تركيا لديها ما يسمح للمناورة شرقًا وغربًا دون التعرض لخنق مماثل لتلك الدول التي باتت توصف بـ “المارقة”. تقف تركيا على مفترق طرق القوى الصاعدة في الشرق، وطموحاتها للتكامل البري “الحزام الأوراسي” والبحري “حزام الباسيفيك”.
تلك المحاور التي تُبنى عليها آمال متواضعة للحد من هيمنة القطب الأمريكي. وإقليميا، تتبوأ تركيا موضعًا معتبرًا في الاستراتيجية العسكرية الرامية للحد من النفوذ الروسي، والتحكم فى تسرب نفوذه من آسيا الوسطي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. حيث تمتع الجزء الأوروبي من روسيا بثلاثة مسارات للمحيطات، وجميعها من خلال مضايق تسيطر عليها قوى أجنبية ومعادية في بعض الأحيان. يشكّل ميناء مورمانسك أحد نقاط الوصول، لكنه يؤدي إلى فجوة غرينلاند-أيسلندا-المملكة المتحدة. ثانيًا، هناك سان بطرسبرغ التي تؤدي إلى المضيق الدنماركي. وتعتبر سيفاستوبول هي نقطة الوصول التي تؤدي إلى مضيق البوسفور الذي تسيطر عليه تركيا.
ومع تبني روسيا الاتحادية جملة سياسات إيجابية نشطة مكّنتها من استعادة دورها كقوة دولية لا يمكن تجاهلها في مجمل الصراعات المعقدة، ولاسيما في الشرق الأوسط، تعاظم التنافس الروسي – الغربي لاحتواء تركيا ضمن محاورها، إلا أن احتدام ديناميات التنافس تقاطع مع دخول أنقرة مرحلة الاشتباك مع الجغرافيا السياسية إثر تبنيها مشروعًا توسعيًا يستند على مرتكزات تاريخية “إرث عثماني” بائد، وأيديولوجية “الإسلام السياسي” بنسخته السُنية، وجغرافية توسعية منها عقيدة “الوطن الأزرق” الذي تناولها المرصد المصري في إحدي ورقاته المنشورة “استراتيجية الوطن الأزرق“.
تجدر الإشارة إلى أن مرتكزات المشروع التوسعي التركي لا تصبو لتحقيق فكرة الحاكمية الإسلامية بقدر ما تخدم تطلعات الشخصية القومية التركية، التي باتت توظف أيديولوجيا الإسلام السياسي والحاكمية، وتنظيماتها، ضمن أدواتها للتحول إلى الدولة المركز في الإقليم. إذ استثمرت تركيا حالة تداعى النظام الدولي وتحولاته الأمنية الحادة في تعزيز حضورها إقليميًا، وجاء أبرز مظاهر ذلك في البحث عن مكامن الطاقة بثلاثة مسارح بحرية (البحر الأسود – بحر إيجه – شرق المتوسط). وسمحت حالة التنافس الدولي لاحتواء تركيا وموضعها بين قوى الشرق والغرب، وهشاشة آليات الأمن الجماعي، لبزوغ نمط “العسكرة” لمجمل الانخراط التركي في المنطقة، ولاسيما تلك المتعلقة بمكامن الطاقة، وذلك لنضوب المقدرات التركية من احتياطات النفط والغاز داخل البر الرئيسي للأناضول، وفي المياه الاقتصادية الخالصة.
اعتماد شبه كلي على الخارج لتلبية احتياجات الطاقة
بالرغم من إطلالة سواحلها على حوض شرق المتوسط الغني بالثروات الطبيعية (346 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، ونحو 3.4مليار برميل احتياطي من النفط)؛ إلا أن تركيا لم تنجح حتى الآن في اكتشاف أو استخراج أي من النفط والغاز قبالة سواحلها. وعلى النقيض من مزايا وخصوصية موقعها الجغرافي الحاكم في الاستراتيجية العسكرية الإقليمية وسياقات التنافس بين القوي الدولية التقليدية؛ فإن قدرات أنقرة الإنتاجية للنفط والغاز ومعها إجمالي الاحتياطات المتوفرة، تعكس نضوبًا مدقعًا دفع بتخليق معضلة إضافية لمعضلة الجغرافيا ورحلة البحث عن الهوية القومية التركية.
يُعدُّ إنتاج 150 ألف برميل من النفط الخام يوميًا رقمًا قياسيًا للقدرة الإنتاجية التركية من النفط، وتظهر ضآلة الرقم إذا ما قورن بقدرة الإنتاج السعودية التي تصل لـ قرابة الـ 10 ملايين برميل يوميًا في المتوسط، وقدرة مصر الإنتاجية التي تتراوح ما بين 500 – 600 ألف برميل نفط يوميًا. أما في شق الغاز، فتركيا تنتج سنويًا حوالي 13.4 مليون قدم مكعب. وهي نسبة ضئيلة للغاية إذا ما قورنت بحجم الإنتاج المصري من الغاز في اليوم الواحد، حيث يبلغ 7 مليارات قدم مكعب.
تصل فاتورة إنفاق تركيا على واردات الطاقة 40 -45 مليار دولار سنويًا، إذ تستورد أكثر من95% من احتياجاتها من الطاقة طبقًا لهيئة تنظيم سوق الطاقة التركية. كما تعتمد على واردات الغاز الروسي بنسبة 53%.
دفع نضوب أراضي الأناضول وسواحلها من مصادر الطاقة، إلى بلورة استراتيجية تركية ترتكز على:
1- تنويع مصادر استيراد الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي، وفي هذا الصدد اتجهت أنقرة لموردين رئيسيين، إيران وأذربيجان. فالأولي تورد لتركيا ما يقارب 9 مليارات متر مكعب من الغاز سنويًا، والثانية تورد 6 مليارات متر مكعب، كما تجدر الإشارة إلى أن أنقرة قلّصت منذ مطلع العام الجاري واردتها من الغاز الروسي بنحو 35% على خلفية الطلب الخفيف. كما رفعت أنقرة نسبة واردتها من الغاز المسال القطري والأمريكي بنسبة 28% من إجمالي مشتريات الغاز.
2- تكثيف أنشطة التنقيب عبر البحار الثلاثة (الأسود – أيجه – شرق المتوسط)، حيث كثفت انقرة من نشاطات البحث والاستكشاف ولاسيمًا بعد أن وقعت مذكرتي تفاهم (أمنية – بحرية) مع حكومة الوفاق نهاية نوفمبر العام الماضي أثارت اعتراضات قوى إقليمية على رأسها قبرص واليونان ودول الاتحاد الأوروبي ومصر والإمارات. ومهدت لإجراءات ترسيم الحدود البحرية والتنقيب عن النفط والغاز بالبر الليبي ومياهه الاقتصادية. فضلًا عن استمرار تسييرها لسفن التنقيب في المناطق الاقتصادية الخاصة بجمهوريتي قبرص واليونان.
كانت واحدة من عمليات التنقيب هذه كفيلة بإشعال حرب بين أنقرة وأثينا الأربعاء الماضي، حين أعلنت تركيا اعتزامها التنقيب قبالة جزيرة كاستيلوريزو، حيث رصدت القوات المسلحة اليونانية 15 مجموعة بحرية غادرت قاعدة “أكساز” العسكرية التركية، الأمر الذي أثار الشكوك لدى السلطات في أثينا التي أرسلت بدورها قطع بحرية ومقاتلات جوية، وكان الجيشان على بعد خطوة واحدة فقط من الشروع في القتال حسب ما أعلنت صحيفة بليد الألمانية.
وفي البحر الأسود بدأت تركيا مهمة التنقيب هناك لأول مرة من خلال إرسال سفينة الفاتح، يوم الاثنين، الموافق 20 يوليو الجاري. كما تستعد للتنقيب عن النفط والغاز الليبي في أغسطس وسبتمبر القادمين حسبما صرح وزير الطاقة “فاتح دونماز” في مايو الماضي، بعدما قدمت شركة البترول التركية “تباو” طلبًا إلى حكومة فايز السراج في العاصمة الليبية طرابلس للحصول على إذن بالتنقيب في شرق البحر المتوسط.
الانتشار الموسع لعمليات التنقيب التركية، بات من المعروف أنها تتم استنادًا على استراتيجية “الوطن الأزرق“، لكنها تثير سؤالًا تقنيًا بعيدًا عن التداعيات السياسية والأمنية؛ هل تمتلك أنقرة تقنية التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما ضمن مناطق بحرية تصل مساحتها نصف مساحة تركيا؟
الحظ أم التقنية؟
بداية، وقبل الإجابة على السؤال، تظهر أهمية إيضاح تقنيات التنقيب واستخراج الطاقة. حيث تشمل تقنيات التنقيب المسح الجيولوجي الطبقي Stratigraphic Survey، الذي تستخدم فيه أدوات الاستشعار عن بعد، كالصور الجوية الرادارية والتصوير بالأقمار الصناعية، إلى جانب الدراسات الميدانية بهدف تحديد العناصر الجيولوجية الرئيسية في مناطق معينة، وأنواع صخورها، وامتدادها السطحي وتراكيبها المتنوعة، ورسم خرائط جيولوجية لها، وتقدير احتمالات تكون البترول والغاز في طبقات رسوبية معينة، وترتيبها وأعماقها وسمك الطبقات الخازنة المحتملة، وبعض خصائص المصائد البترولية. ما يعني أن للأقمار الصناعية المزودة بقدرات استشعار ومسح جوي فائقة، دورًا أوليًا في عمليات التنقيب.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة المسح الجيوفيزيائي باستخدام الطرق السيزمية.
تستطيع تقنيات المسح السيزمي ثلاثي الأبعاد من تحديد مكامن الطاقة، وأعماقها. هنا يأتي دور واحدة من اعقد التقنيات، وهي تقنية الحفر التي تختلف من شركة لأخري، وتعتمد بالأساس على مد أنابيب الحفر من سفينة التنقيب لأعماق تصل من عشرات لآلاف الأمتار تحت سطح البحر. ومن ثم بدء عملية الاستخراج.
ومن ثم يمكن إبراز العناصر الثلاث الرئيسية للتقنيب:
- الأقمار الصناعية المخصصة لمهام المسح والاستشعار لتحديد مكامن الطاقة وتجنب الحفر في مناطق خاطئة والتعرض لخسائر باهظة.
- معدات وسفن التنقيب.
- تقنيات الحفر.
تملك تركيا ثلاث سفن للتقنيب عن البترول والغاز، (يافووز – فاتح – بربروس)، لديها القدرة على الحفر في أعماق تتجاوز الخمسة آلاف كلم، كما تشغل تركيا قمرين صناعيين لأغراض الاستطلاع والاستخبارات والاتصالات، “تورك 1-2″، ولكن قدراتها على إجراء المسح المرتبط بأعمال الاستكشافات متواضعًا نظرًا لإمكاناتها. وقد نشر المرصد المصري في ورقة سابقة برنامج الأقمار الصناعية التركية “عسكرة فضاء الشرق الأوسط.. سباق الأقمار الصناعية لأغراض الاستطلاع والاستخبارات“. ما يعاظم من احتمالات تواجد معدات المسح والتنقيب في مناطق خائطة ويعرض جهود البحث لخسائر مالية كبيرة. وعلى طول وعرض مساحة هضبة الأناضول لم تسجل تركيا اكتشافات تمكنها من تقليل معدل استهلاكها من الطاقة، ما جعلها بلا خبرة حقيقية في المجال.
ولهذا، تلجأ الدول للشركات متعددة الجنسيات العملاقة المتخصصة في التنقيب واستخراج النفط والغاز، (إيني الإيطالية – بريتيش بتروليوم البريطانية – إكسون موبيل الأمريكية)، فلدي هذه الشركات العملاقة تقنيات تفوق ما تملكه الدول من تقنيات محلية مطورة. فمصر استطاعت في ظل توفير مناخ سياسي مشجع على الاستثمار، واتجاهها لتعزيز التحالف الاستراتيجي مع قبرص واليونان الذي نجح في التحول لنموذج للتعاون الإقليمي في مختلف المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية؛ استطاعت إدخال كبري شركات الطاقة بمزايدات للبحث والتنقيب عن البترول والغاز “إيني الإيطالية، بي بي البريطانية، إكسون موبيل الأمريكية، شيفرون الأمريكية”. تتنوع أنشطة البحث والاستكشاف بالأحواض الترسيبية المختلفة، الصحراء الشرقية وخليج السويس والصحراء الغربية والبحر المتوسط والبحر الأحمر ودلتا النيل.
وعلى طريق جذب الاستثمارات الأجنبية شهد قطاع البترول المصري خلال الفترة من يوليو 2014 حتى فبراير 2020 توقيع عدد كبير من الاتفاقيات البترولية بلغت حوالي 84 اتفاقية جديدة مع الشركات العالمية باستثمارات حدها الأدنى حوالي 16 مليار دولار وأكثر من مليار دولار منح توقيع لاترد لحفر أكثر من 3500 بئرًا. وفيما يتعلق بالمزايدات فقد تم الإعلان فى فبراير 2019 عن نتائج مزايدتي الهيئة المصرية العامة للبترول والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية، وذلك لعدد 11 منطقة، بإجمالي منح توقيع حوالي 104.5 مليون دولار وإجمالي استثمارات 744.5 مليون دولار لحفر 50 بئرًا.
والإعلان فى 29 ديسمبر 2019 عن نتيجة أول مزايدة عالمية كبرى للبحث عن البترول والغاز في منطقة البحر الأحمر والتي طرحتها شركة جنوب الوادي القابضة للبترول في مارس2019، وأسفرت عن جذب كبرى الشركات العالمية للعمل في هذه المنطقة البكر وضخ استثمارات جديدة فيها تقدر بحوالى 326 مليون دولار ترتفع إلى عدة مليارات من الدولارات فى حال تحقيق الاكتشافات.
وفي هذا الإطار، تعترف جهات تركية رسمية بشكل غير معلن بأن أنقرة لا تتمتع بالخبرات والإمكانيات والقدرات الكافية من أجل التنقيب عن الغاز في البحر، وأن سفن التنقيب التركية التي نشرت في شرق المتوسط مؤخرًا تأتي في إطار محاولات أنقرة الاعتماد على نفسها وتطوير قدراتها، لكنها تهدف بالدرجة الأساسية إلى إثبات الوجود. ومحاولة فرض وقائع ميدانية إلى حين تثبيت حالة من الاستقرار أملًا في جذب أي من الاستثمارات والشراكات مع كبريات شركات الطاقة.
ولسنوات طويلة، حاولت تركيا دعوة الشركات العالمية الكبرى للتنقيب عن مصادر الطاقة في مياهها الإقليمية ومناطق أخرى خلافية تقول إنها تابعة لها ولجمهورية قبرص التركية، لكنها واجهت مصاعب كبيرة في ظل رفض إدارات الدول التي تنتمي إليها هذه الشركات العمل مع تركيا لحين حل الخلافات الحدودية مع اليونان وقبرص، لكن هذه الشركات في المقابل تعاونت مع اليونان وقبرص وتوصلت إلى اكتشافات كبرى وبدأت باستخراج الغاز من مناطق تابعة لمصر وإسرائيل واليونان وجمهورية قبرص. وعليه، فإن نضوب الطاقة من هضبة الأناضول، فاقمه نضوب التقنية اللازمة لمهام البحث والاستكشاف، ما جعل التحركات التركية في المسارح البحرية الثلاثة رمزية؛ حيث بات صانع القرار في أنقرة يأمل أن يعوض الحظ نضوب تقنيته، لكن هل يؤسس الحظ لمناخ استقرار جاذب لاستثمارات كبريات شركات الطاقة؟