
“العيب” في عيون إدريس
البعض يقول أن الأدب هو فن الاكتفاء بتسلية القارئ، والبعض يرى الأدب باعتباره أحد أدوات الكسب والشهرة، وهناك آخر ينظر إلى الأدب باعتباره مسلكا ومتنفسا للروح، وكلً يكتب لأهدافه. وفي النهاية قد يكتب الكل، ولكن هل كل كتابة تُعبر في مكنونها عن درب من دروب الفن؟!
الحقيقة أن كل فنان هو كاتب، ولكن ليس كل كاتب فنان. الكتابة في هذه الحالة لا تعني فن الاكتفاء بحمل القلم، ولكنها تميل بشكل أكبر إلى قدر الأمانة الراسخة في نفس من يحمل هذا القلم، ومن يُدرك عاقبة الإساءة إلى شرف القلم وسلطته وسطوته. وهناك تلك الأسطورة تردد دائما في أرجاء الثقافة، والتي تتركز في أن العمل الأدبي الناجح يجب حتى ينجح أن يتجرد أولاً من أي رسالة انسانية سامية. الأمر يبدو في مجمله كما لو كأن الرسالة تقود الأدب إلى دائرة أخرى بعيدة عن مجاله، وتجعل منه شيئا أقرب إلى المحاضرة التي يقدمها استاذ مبجل بكل ملل للمستمعين.
لكن السؤال هنا، لا ينطبق على كُتاب الجيل الحالي. ولكن ينقلنا الى عالم الماضي حيث كتب العمالقة، على غرار توفيق الحكيم، عباس العقاد، ويوسف إدريس. هل عجز هؤلاء عن مزج الرسالة الإنسانية بالفن والأدب والتسلية وكل شيء؟! وسؤال آخر، ماذا لو اكتفى هؤلاء بالاعتماد على اثارة رغبات القارئ لأجل تحقيق النجاح السريع، هل كان آدابهم سوف تحصل على ذات القدر من العُمر الطويل؟!
بالتأكيد لأ. من يقرأ ليوسف إدريس على سبيل المثال، يعي بشكل واضح أن كل عمل من أعماله كان دائما يحمل رسالة انسانية عميقة. كانت القراءة له تشبه بأن يدًا ما تقوم –في هذه الأثناء- بالتفتيش في روحك. هو لا يُلقي محاضرة تعج بقيم الأخلاق الحميدة. ولكنه يسرد لك قصة سوف تخلص في نهايتها الى أن أمرًا ما ليس في نصابه الصحيح، وأن هذا الأمر يُعد جزءًا لا يتجزأ من مجتمعنا، والمفاجأة الحقيقية أن تكتشف أن الحل لهذه المعضلة قد يكون في يدك أنت شخصيًا. أو بمعنى آخر، الفن الحقيقي يعني أن تُثير القصة الأدبية في نفسك بُعدًا آخر لفكرة مألوفة بالنسبة لك بالفعل، ولكنك لم تحظى من قبل بفرصة التعمق فيها الى هذا الحد. أو قد توقد في روحك شمعة كانت من قبل مظلمة، أو قد تترك في نفسك شكوكا حول مسلك ما اتخذته من قبل وأتضح لك الآن أنه لا ينطوي على خالص الصواب. وغيرها وغيرها من الرسائل الإنسانية، التي يتضح من خلالها وبالإثبات أن دور الأديب لا يتلخص في تسلية القراء فقط. وهو ما يعول على دور الأدب والثقافة بالارتقاء بالبشر والنهوض بالمجتمع.
وإذا اكتفى الأدب بالتسلية، إذا من يُضيء المسالك المظلمة؟! من يُخبر الأجيال الأصغر سنًا عن تجارب الكبار المؤلمة التي لولاها لما وصلوا الى ما عرفوه من الحكمة؟! من يعيد تصحيح المفاهيم المغلوطة؟! من يكشف الغطاء عن اخطاء كثيرة اعتدنا أن ننام ونقوم على تكرارها بكل بلاهة وبشكل لا إرادي دون تفكير. لنا في ذلك النوع من الأدب مثال واضح، في رواية “العيب” ليوسف إدريس.
أحداث القصة تدور حول فتاة ساذجة وبريئة تُدعى “سناء”، حالفها الحظ في العثور على وظيفة روتينية بسيطة في إحدى المصالح الحكومية التي كانت قبل لحظة قدومها رفقة عددًا ضئيلاً من الزميلات، تعج بالرجال فقط. وتمر القصة وسناء تتعرض الى مضايقات من زملائها، تتكشف مع الأحداث أن هذه المضايقات تدور حول رغباتهم في اقناعها بمشاركتهم الحصول على ما يطلقون عليه –إكراميات- لأجل تيسير أعمال زائروا المصلحة.
ومنذ تلك اللحظة يعرض “إدريس” بعبقرية أدبية تُخفي عظات كثيرة بين السطور عن الصراع بين لفظة “الرشوة” من جهة سناء وزميلاتها، ولفظة “الإكراميات” من جهة زملائها المُعتادين على الأمر من الرجال.
وتجلى الدهاء الأدبي “لإدريس” في صياغته للرسالة الفنية التي تنطوي عليها الأحداث. إذ أنه لم يبرز الأمر باعتباره محاضرة مثلما اعتادت مدرسة –الأدب بلا رسائل- الترويج له. لكنه ترك ومضات بين السطور وعبر الصفحات، وترك للقارئ الذكي حرية التقاطها ووضعها في نصابها السليم داخل نفسه. إنه شيء على غرار عبارة “الظاهر الرجالة دول عندهم لكل مبدأ دوسيه. الشرف في بيته غير الشرف في عمله، والحرام في الليل غير الحرام في النهار، والفضيلة ما تمنعش الرذيلة. كله موجود مع بعضه في حالة تعايش سلمي“، والتي جاءت على لسان البطلة سناء التي كانت تُعاني من ضغوطات مالية طاحنة في البيت، ومع ذلك تقف ببسالة في وجه تلقي مبالغ طائلة من الرشاوي في العمل. وبعد ذلك، يبلغ الصراع النفسي عند سناء ذروته، خاصة بعد أن تم منع أخاها الأصغر من دخول الامتحان بسبب عدم قدرة عائلتها على دفع المصروفات المدرسية اللازمة له، وكيف انعكس ذلك على شعورها بمرارة الفقر المخلوط بالعجز. وارتفعت وتيرة الأحداث، وكل ذلك وسناء تتحمل الفقر وتقاوم الرشوة. تتحمل ما تكره وتقاوم ما تحب. والوقت يمر والضغوط الاقتصادية بالنفسية عند سناء بلغت أوجها، حتى خضعت في النهاية وبشكل لا إرادي أمام مبلغ ليس هين من الرشوة–بوقتها- يتألف من ورقة بقيمة خمسون جنيه. وتنتهي القصة بألا يُخبرنا “إدريس” أكثر من ذلك، إنه لا يقول بصراحة أن الرشوة مال حرام. ولا ينص بعبارة صريحة ما يشير الى أن عواقب المال الحرام وخيمة. ولكنه اكتفى بأن يُروي لنا كيف انعكست عواقب المال الحرام على نموذج –سناء- البريئة وما آلت اليه سلوكياتها في مرحلة ما بعد الرشوة. وانتهت القصة بأن ذهبت –سناء- بمحض إرادتها وعرضت نفسها للمتعة الحرام على زميلها الذي لطالما تلقت طلباته للتقرب اليها بالرفض منذ بداية القصة برمتها.
الرسالة الانسانية في هذه القصة قد لا تتجلى إلا أمام من يُجيد متابعة العبرات ويتأمل في عاقبة الأحداث. وحقيقة أن من يخطو أول خطوة على سلم التنازلات سوف يظل دائما ينزلق فيه الى الأبد. وهكذا، سوف يجر التنازل الأول دائما ما يليه. وسوف تسحب الخطئية من خلفها خطئية أخرى. وبهذه الطريقة يصبح جليًا أن “إدريس” يقول بوضوح أن المال الحرام ليس مكسب، ولكنه كل الخسارة وخسارة الخسارة. السؤال هنا ومرة أخرى، ماذا لو اكتفى “يوسف إدريس” بتنفيذ قصص بسيطة وصغيرة تُحاكي رغبات المراهقون وتحقق رواج هائل فيما بينهم؟! كان سوف ينجح. ولكنه بالتأكيد لم يكن ليترك ذات الأثر.
وما أسهل أن يُحرك أحد ما “الرغبة”، وما أصعب أن يُحرك شخص ما “الروح”!. عندي رأي اكتسبته من قراءات عديدة لعظماء الأدب في بُلدان عدة. يقتضي بضرورة أن يمتلك كل كاتب رسالة ما، وأن ينطوي كل عمل أدبي على رسالة انسانية ومفهوم راقي يبثه في نفوس قراءه بشكل غير مباشر. وهذه الرسائل قد تندمج في كل الأعمال الأدبية على حد سواء، الدراما والرعب والتشويق وكل شيء.
من يدعي بأن الأدب حتى ينجح لا يمكن أن يمزج بين الفن والرسالة والتسلية والتشويق والإبداع، بالتأكيد بحاجة الى مراجعة كتابات عمالقة الماضي مثل –إدريس- والتحقق منها مرة أخرى.
باحث أول بالمرصد المصري