دلالات اعتراض مقاتلة أمريكية “طائرة مدنية” إيرانية في الأجواء السورية
في الساعات الأخيرة من مساء يوم الخميس الموافق 23 يوليو 2020، اعترضت طائرة مقاتلة طائرة ركاب مدنية من طراز ايرباص – 310 تحمل رقم 1152 تابعة لشركة “ماهان آير” خلال رحلتها من طهران إلى بيروت في المجال الجوي السوري، وأشارت التقارير الأولية الإيرانية إلى اعتراض مقاتلة تحمل الجنسية الإسرائيلية ولكن الجيش الإسرائيلي أصدر بيانًا نفى فيه مسؤوليته عن الواقعة، وذلك بالتزامن مع تأكيد التلفزيون الرسمي الإيراني على أن المقاتلة كانت أمريكية وليست إسرائيلية.
وأكد قائد الطائرة الإيرانية على أنه تواصل مع قائد المقاتلة وقد عرف نفسه على أنه أمريكي وطالبه بالتزام مسافة الأمان، وقال التلفزيون الرسمي أن المقاتلة قد اقتربت لمسافة 100 – 200 متر من الطائرة وهو ما يعد مغامرة كبيرة بأرواح المدنيين، وأدت إلى إصابة 4 ركاب بإصابات طفيفة نتيجة قيام قائد الطائرة بمناورة للحفاظ على حياة الركاب، والانخفاض عن الارتفاع المسموح به لحركة الطائرات المدنية بشكل مفاجئ.
وقد أكدت شركة “ماهان” أن الطائرة كانت تسير في الممر الجوي الدولي وعلى الارتفاع المسموح به، مع مراعاة كافة معايير الطيران، وكانت تشغل أجهزة التتبع وأرسلت كافة معلومات الرحلة ونوع الطائرة إلى الرادارات غير العسكرية في المنطقة، وأنها تعمل على إعداد بيان رسمي حول الحادثة وستعلن عن خطواتها لمتابعة القضية من الناحية القانونية.
منطقة الأعتراض
أفادت هيئة الطيران المدني السوري أنه تم اعتراض الطائرة فوق منطقة “التنف”، وهي منطقة خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، عند المثلث السوري العراقي الأردني شرق سوريا، وتمتد هذه السيطرة على دائرة نصف قطرها 55 كيلومترا داخل الأراضي السورية، وتحاذي منطقة 55 كم للحدود الإدارية الشرقية لمحافظة ريف دمشق، وتتشارك مع الحدود الأردنية على بعد نحو 300 كم إلى الشرق من العاصمة السورية دمشق.
وتضم هذه المنطقة قاعدة “التنف” الأمريكية على بعد 24 كم من معبر التنف، ومخيم “الركبان” لللاجئين السوريين ويضم قرابة 50 الف لاجيء، بالإضافة إلى معسكرات تدريب “جيش مغاوير الثورة السورية” الذي تأسس عام 2015 لقتال تنظيم داعش في سوريا بدعم أمريكي كامل، ويذكر أن عدد مقاتلي هذا التنظيم صغير ويقدر بحوالي 300 – 400 مقاتل لاعتماده في هجماته على دعم الطيران الحربي للتحالف الدولي ويتمركز عدد من عناصر التنظيم داخل قاعدة “التنف”.
وأكملت الطائرة رحلتها إلى بيروت وقال رئيس مطار بيروت “فادي الحسن” في تصريحات إعلامية أن الطائرة هبطت عند الساعة 8.30 بالتوقيت المحلي وغادر جميع الركاب، وأن الإصابات بينهم كانت طفيفة نتيجة الهبوط السريع وحالة الهلع واستقرار الحالة الصحية لأحد الركاب المسنين، وقالت وكالة “مهر” الإيرانية أن الطائرة غادرت بيروت بعد أن تزودت بالوقود.
القيادة الوسطى تكشف التفاصيل
أصدر العقيد “بل أوربان” المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية الأمريكية، بيانًا قال فيه أن مقاتلة أمريكية من طراز”أف-15″، قد رصدت طائرة ركاب مدنية إيرانية تابعة لشركة “ماهان” على مسافة ألف متر في الأجواء المحيطة بقاعدة التنف بسوريا، وأنه فور التعرف على هوية الطائرة المدنية الإيرانية، قامت المقاتلة الحربية الأمريكية بالابتعاد عنها لمسافة آمنة وتم إجراء هذا وفق المعايير الدولية، مشيرًا إلى أن هذا الإجراء جاء لضمان أمن القوات الأمريكية في قاعدة “التنف”، وجاء ذلك بعد تصريح مسؤولان أمريكيان لوكالة “رويترز” أن مقاتلة من طراز إف-15 دخلت مجال رؤية طائرة ركاب إيرانية يوم الخميس لكنها كانت على مسافة آمنة.
طهران تحمل واشنطن المسؤولية
حملت وزارة الخارجية الإيرانية الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية سلامة طائرة الركاب الإيرانية بعد واقعة اعتراض المقاتلة الأمريكية لها في الأجواء السورية، وأوضح “عباس موسوي” المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن سلطات البلاد بدأت تحقيقاتها في الحادث وسيتم اتخاذ الإجراءات السياسية والقانونية اللازمة بعد استكمال التحقيق.
كما أعلن “موسوي” أن مندوب إيران في الأمم المتحدة “مجيد تخت روانجي” قد أبلغ الأمين العام “أنطونيو جوتيريش” بتفاصيل الواقعة مع التأكيد على تحمل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية أي حادث يقع للطائرة خلال رحلة عودتها إلى طهران، وهي نفس الرسالة التي أبلغتها طهران للسفير السويسري في طهران بصفته ممثلاً للمصالح الأمريكية في إيران وراعيتها، بالإضافة إلى الإعلان عن اعتزام إيران تقديم شكوى إلى مجلس الأمن في هذا الشأن.
كما صرحت “لعيا جنيدي” مساعدة الرئيس الإيراني للشؤون القانونية، أن اعتراض المقاتلة الأمريكية لطائرة الركاب الإيرانية، وبخاصة في أجواء دولة ثالثة، يعد انتهاكًا صارخًا لأمن الملاحة الجوية، معتبرة أن التوضيحات التي قدمتها القيادة الأمريكية الوسطى بشأن الحادثة غير مبررة وتفتقر للوجهة القانونية.
كما أعلنت منظمة الطيران المدني الإيرانية عن تقديمها شكوى رسمية إلى المنظمة الدولية للطيران المدني “إيكاو” بشأن تصرفات سلاح الجو الأمريكي ضد طائرة ركاب إيرانية وطالبت بإجراء دراسة فورية للقضية، وأضافت المنظمة أنها تعتبر تصرفات المقاتلات الأمريكية الذين أعاقوا حركة طائرة ركاب إيرانية انتهاكا صريحا للقانون الدولي ومعاييره ومعايير الملاحة الجوية.
الفصائل الفلسطينية تدين الواقعة
وأدانت حركة “حماس” في بيان لها الواقعة وقال الناطق باسم الحركة “حازم قاسم”، أن قيام طائرات حربية أمريكية باعتراض طائرة ركاب مدنية إيرانية وتعريض حياة ركابها للخطر هو فعل مدان ومستنكر، مشيرًا إلى أن استهداف المدنيين بهذه الطريقة هو تطبيق عملي لمفهوم الإرهاب في القانون الدولي، وأن “هذا العدوان الأمريكي يأتي بالأساس لخدمة المشروع الصهيوني، وهو امتداد لعدوانها على شعبنا الفلسطيني عبر دعمها للاحتلال، وطرحها لمشاريع تهدف لتصفية القضية الفلسطينية مثل ما يسمى بصفقة القرن”.
كما أدانت “حركة الجهاد الإسلامي”، بدورها الحادث وقالت إنه يدلل على النوايا الأمريكية العدوانية ودورها في تهديد الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، مؤكدة على “أنه من حق إيران اتخاذ كل الخطوات والإجراءات وعلى كل المستويات في الرد على المحاولة الإرهابية بحق الطائرة الإيرانية”.
وفي نفس السياق أدانت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” الواقعة وقالت فيها بيانها “أن الوجود الإحتلالي الأمريكي على بعض الأراضي السورية، اتضح في كثير من الوقائع السابقة، لأنها لا تقتصر أهدافه فقط على استهداف سوريا واستقرارها أراضيها ، وإنما يستهدف أيضًا استكمال إخضاع المنطقة وحجز تطورها، وفقًا للإستراتيجية الأمريكية المناقضة لمصالح وتطلعات شعوب المنطقة، والتي يلعب الكيان الصهيوني دورًا مركزيًا فيه، وأكدت الجبهة تضامنها الكامل مع إيران لما تعرضت له الطائرة المدنية من اعتراض معادٍ من قبل طائرات أمريكية فوق الأجواء السورية.
استنكار لبناني
كما أعلن نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان “علي الخطيب” في خطبة الجمعة، عن استنكاره بشدة التعرض للطائرة الإيرانية وأن هذا الانتهاك الفاضح للسيادة السورية كاد أن يتسبب بكارثة بشرية، ويعد قرصنة أمام مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة والمجتمع الدولي وطالبهم بإدانة هذه الواقعة، مؤكدًا أن المقاومة هي التي ستتمكن من ردع “العدوان الأمريكي”.
كما قال عضو كتلة التنمية والتحرير النائب “قاسم هاشم” في تغريدة له على حسابه على موقع تويتر “أن اقدمت عليه طائرات التحالف مع طائرة ماهان هو استفزاز واعتداء ومرفوض ومخالف للمواثيق والقيم وهو تأكيد على النوايا والدور العدواني للاميركي كداعم اساسي للعدو الاسرائيلي وعدوانيته”، ويذكر أن كتلة التنمية والتحرير يرأسها رئيس البرلمان نبيه بري، وتضم 17 نائباً من القياديين في حركة أمل والحلفاء، وتضم الكتلة نواباً من الشيعة.
واستكرت “حركة التوحيد الإسلامي” في بيان لمجلس أمنائها،” القرصنة الأميركية الجوية وترهيب الاطفال والنساء الآمنين، من خلال محاولة اعتراض الطائرة الايرانية المدنية بالمقاتلات الحربية، ما يشكل انتهاكًا صارخًا لكل أشكال الاتفاقات العالمية والقوانين الدولية التي أرست قواعد لخطوط النقل في سماء البلدان واحترام سيادتها”، وأضاف البيان أن “الدخول في مجال التأثير على سلامة الطيران المدني، يأتي في سياق الإرهاب المنظم للمسافرين ليستكمل العدوان المستمر والاستباحة اليومية للطيران الحربي الاسرائيلي للأجواء اللبنانية والسورية بعمل جبان لا يمت للإنسانية بصلة”.
لماذا تم اعتراض طائرة ماهان إير تحديدًا؟
في عام 1992 أسست شركة “مل مفاه الدين القابضة” في كرمان شركة “ماهان إير” للطيران كشركة صغير تقوم بتسيير رحلاتها على طائرات روسية الصنع، وفي عام 1998 أوكلت الشركة لضابط سابق بالحرس الثوري ويدعى “حميد عرب نجاد خانكي” رئاسة الشركة ، وكان “حميد” نائب شعبة العمليات “ثأر الله 41” تحت قيادة قائد فيلق القدس الراحل “قاسم سليماني” وعلى علاقة وطيدة به، ثم تولى رئاسة المكتب الإيراني بالبوسنة والهرسك وهو المنصب الذي يرتبط بشكل وثيق بعمليات فيلق القدس في دول البلقان.
وقد استخدم الحرس الثوري الإيراني “ماهان إير” وعدد من الشركات المدنية الأخرى لتمويه مساعداته اللوجيستية البشرية والعسكرية لأذرعه العاملة في سوريا والعراق ولبنان من جهة، ولجني الأموال من رحلات الركاب للمساهمة في أنشطة الحرس من جهة أخرى.
وفي عام 2011 فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الشركة، وقالت إنها قدمت الدعم المالي للحرس الثوري وقامت بنقل معدات وشخصيات عسكرية بارزة إلى سوريا واليمن، وجددت العقوبات في عام 2016 رغم رفع العقوبات عن بعض الشركات الإيرانية التي كانت مدرجة في قائمة العقوبات من قبل، وتم تجديدها مرة أخرى في عام 2019.
وبالنظر لما سبق ولما هو معروف من قيام الطائرات المدنية بالتحليق على ارتفاعات واضحة وضمن خطوط سير دولية وليست عشوائية، وأنه من المؤكد أن واشنطن لم يكن لديها رغبة في إسقاط الطائرة وإلا كانت فعلتها، نخلص إلى احتمالين حول أسباب قيام واشنطن بتلك الخطوة، خاصة وأنها لم تنكر مسؤوليتها عن الأمر وهما:
الأول: وجود رغبة أمريكية في إيصال رسالة إلى الجانب الإيراني بأن خط طهران – بغداد – دمشق – بيروت، أصبح غير آمنا للحرس الثوري الإيراني وهو ما يشكل ضغطًا سياسيًا وإعلاميًا ونفسيًا إضافيًا على النظام الإيراني في الداخل، وعلى تقطع سُبل دعم حلفائه في الخارج.
الثاني: قيام واشنطن برصد وجود شخصية رفيعة المستوى من الحرس الثوري على متن الطائرة، ورغبة واشنطن في إيصال رسالة بأنه من الممكن استهداف هذه الشخصية في وقت لاحق وهو ما يرجح عودة الشخصية مع طاقم الطائرة لطهران، خاصة وأن ذلك يأتي بعد إغتيال “علي محسن جواد” أحد قادة حزب الله اللبناني في سوريا في غارة جوية استهدفت مواقع إيرانية في دمشق وتهديدات الحزب بالرد، ولجوء قادة الحرس الثوري غالبًا إلى استخدام الطائرات المدنية في تنقلاتهم الخارجية خشية استهدافهم في الأجواء السورية أو العراقية من قبل الطيران الأمريكي أو الإسرائيلي، وكان آخرهم “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس الذي تم إغتياله بطائرة مسيرة مطلع يناير الماضي بعد خروجه من مطار بغداد الدولي الذي وصل إليه عبر طائرة مدنية تابعة لشركة “أجنحة الشام”.