من حرب الأيام الستة إلى 2011.. رؤية تاريخية للعلاقات الإثيوبية الإسرائيلية
تمتعت تل أبيب بعلاقات متميزة مع الكثير من البلدان الإفريقية من منتصف الخمسينيات وحتى العام 1967، ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب المحورية منها أن الدول الأفريقية شكّلت بيئة خصبة للتعاونين الاقتصادي والعسكري مع إسرائيل، ما حقق للأخيرة مكاسب سياسية تجلت في أنها كانت قادرة على الحصول على الدعم الأفريقي في معركتها مع العرب.
ولذلك سارت العلاقات البينية بين تل أبيب والعديد من العواصم الأفريقية بشكل جيد حتى حرب الأيام الستة في 1967 والتي احتلت فيها إسرائيل سيناء، مما نتج عنه ضرر بالغ لعلاقاتها مع أفريقيا فيما عدا العاصمة الغينية.
وقد كانت أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه أفريقيا وإثيوبيا على وجه الخصوص تتلخص في بناء “مصر ثانية” هناك؛ للمساعدة في تحويل أديس أبابا لقوة اقتصادية وعسكرية مضادة لمصر. وبالإضافة إلى ذلك، تلقت إثيوبيا أكبر كمية من المساعدات الإسرائيلية – العسكرية والمدنية على حد سواء – أكثر من أي بلد آخر في أفريقيا في فترة سابقة ليونيو 1967.
وحول تلك الفترة أفادت التقارير أن أديس أبابا أصبحت “المركز الرئيسي” للعمليات للسرية الإسرائيلية؛ حيث كان لدى إسرائيل أكثر من عشرة مستشارين في مكافحة التمرد مقرهم في إريتريا. وقاموا بتنظيم وتدريب الإثيوبيين وحراس الحدود، الذين بلغ عددهم حوالي 4200 حتى عام 1974.
القاهرة محدد للعلاقات
كانت مصر على مدى زمني ليس بالقصير المنافس الوحيد لإسرائيل في أفريقيا، بل أن العلاقات بين القاهرة وتل أبيب كانت محددًا لطبيعة العلاقات بين الدول الأفريقية وإسرائيل. وقد اتخذت أديس أبابا موقفًا براجماتيًا من إسرائيل اعتمد على حماية مصالحها في فترة كان فيها الصراع العربي – الإسرائيلي على أشده.
وقد ظهر ذلك جليًا في التصويت في الأمم المتحدة على خطة تقسيم فلسطين، حيث امتنعت إثيوبيا عن الإدلاء بصوتها، كما أيدت الحكومة والكنيسة الإثيوبية بشدة انتصارات إسرائيل في حروب 1948، و1956 و1967. وعزز الإسرائيليون ذلك الاتجاه عبر الترويج لادعاء يقول إن من مصلحة إثيوبيا أن تكون إسرائيل قوية، وإنه “لو انتصر العرب لكانت إثيوبيا هدفًا رئيسيًا لهم”.
حتى أنه وبعد انتهاء حرب 1967 قامت إسرائيل بمصادرة “دير السلطان” (في القدس) الذى ترجع ملكيته إلى الكنيسة المصرية، ومنحته دون وجه حق للكنيسة الإثيوبية التي انشقت عن الكنيسة المصرية عام 1959، وما زال الأمر محل خلاف بين مصر من جانب وإسرائيل وإثيوبيا من جانب آخر حتى الآن.
1974 قطع العلاقات بين إثيوبيا وإسرائيل
عندما قطعت أديس أبابا علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني في أعقاب حرب 1973، بدا الأمر وكأنه انحياز لصالح العرب في صراعهم التاريخي مع الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن الأمر، على أفضل تفسيراته لم يكن إلا انعكاسًا للمزيد من البراجماتية الإثيوبية التي حكمت ولا زالت تحكم علاقاتها مع إسرائيل.
فمع ازدياد عدد الدول الأفريقية التي قطعت علاقاتها مع تل أبيب زاد الضغط المصري والعربي على الإمبراطور الإثيوبي لانتهاج منحى مماثل، إلا أنه وفي ذلك الوقت كانت أديس ابابا متخوفة من التمرد في إريتريا وكانت تريد الحصول على صفقة عسكرية مع إسرائيل لتدريب قواتها لقمع ذلك التمرد وتأمين موانئها للبحر الأحمر، حتى أن الإمبراطور في الحبشة تقدم بطلب للسفير الإسرائيلي في إثيوبيا للحصول على حصة السلاح المطلوبة والتي قدرت في وقتها من الجانب الإسرائيلي بخمسة مليارات دولار.
وبحث كل من جولدا مائير وموشي ديان الفائدة التي ستعود على تل أبيب في حالة قدموا لإثيوبيا مساعدة عسكرية بتلك القيمة الضخمة، وانتهوا إلى أن الامبراطور لم يقم حتى الآن بافتتاح سفارة لبلاده في القدس، فلماذا على تل أبيب أن تقدم المساعدة وفي نفس التوقيت كانت مصر ومن ورائها السعودية تروجان للضغط العربي على إريتريا بل ومساعدة إثيوبيا في قمع التمرد، وهو الأمر الذي انتهى بقطع العلاقات الدبلوماسية بين عاصمة الدولة الإسرائيلية والحبشة وأُلحق ذلك بإسقاط الإمبراطور الإثيوبي فيما قيل عنه أنه كان مدبرًا عن طريق إسرائيل.
الثمانينيات.. انفراجة جديدة للعلاقات
بعد توقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل بدأت العلاقات بين تل أبيب والعواصم الأفريقية في العودة إلى سابق عهدها تدريجيًا وقد كان الأمر محاطًا بالتطور التكنولوجي الذي تمتعت به إسرائيل ورغبة الدول الأفريقية في الاستفادة منه. كما رأت تلك الدول أن العلاقات مع إسرائيل ستسهل رسم مواقفها فيما يتعلق بالحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وتقربها أكثر من واشنطن.
وبالاعتماد عل ما تقدم من أسباب ارتأت إثيوبيا أن إعادة علاقاتها مع إسرائيل ستصب في مصلحتها، وقد شهد نوفمبر من عام 1989 عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
الموقع الجغرافي
في الفترة اللاحقة شكّل الموقع الجغرافي لإثيوبيا حجر زاوية في علاقاتها البينية مع إسرائيل لتحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية. ومع ذلك فإن هذه العلاقات تأثرت بتطورات الحرب الباردة حين احتد التنافس السوفيتي- الأمريكي على القارة الإفريقية وازداد القلق الإثيوبي من أن تجنح بعلاقاتها مع إسرائيل إلى ما هو بعيد عن المزاج الأفريقي لجيرانها.
وفي الغالب اعتمدت السياسات الإثيوبية في علاقاتها مع العرب على ثلاث ركائز، أولها التحول لقوة اقتصادية وعسكرية، وثانيها التقليل من القومية العربية والوحدة الإسلامية في مقابل التأكيد على القومية الأفريقية، أما آخرها فهي المحافظة على وحدة الأقاليم الأفريقية ومعارضة الحركات الانفصالية. إلا أنها لم تكن في الفترة الأخيرة بذلك الحرص عل علاقاتها مع الدول الأفريقية إضافة للعربية، وهو ما اتضح في المفاوضات الخاصة بالسد الإثيوبي والتي فشلت في أكثر من جولة حتى قررت أديس بابا ملء السد منفردة دونما اتفاق.
لماذا تغولت إثيوبيا
بدا أن الحكومة في أديس أبابا قد تم تمكينها بسبب الوضع السياسي والعسكري الضعيف للغاية في نطاق واسع في العالم العربي بعد 2011. حيث اعتقدت أديس أبابا أنها مع إنجازاتها السياسية والاقتصادية في الداخل وتوسيع علاقاتها الدولية في الخارج، ستكون قادرة على المضي قدمًا لتصبح قوة إقليمية رئيسية، حتى لو جاء ذلك على حساب حقوق المياه العربية وسيادة جارتها السودان.
الحقيقة أن إثيوبيا استطاعت قراءة الوضع جيدًا. حيث لعبت على الطرح القائل إن لدى العرب خبرة تفاوضية ضعيفة حول قضايا المياه. معتمدة في ذلك على الاختراق التركي لدول عربية فيما يتعلق بقضية تقاسم المياه. وهي الخطة التي تمت بمساندة إيرانية إسرائيلية لتعطيش سوريا والعراق.
وكما الحال مع إسرائيل فإن لدى أديس أبابا أطماع في إرث الرجل الأوروبي المريض وذلك بدءًا من المياه، ولن تضار إذا أحاطت نفسها بمنطقة أمنية جديدة من خلال تحويل ولاية القضارف السودانية إلى احتلال آخر مماثل للاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا أو غور الأردن.
القاهرة، أديس أبابا، تل أبيب وموجة الربيع العربي!
على الرغم من موافقة مصر في عام 2008 على تمويل البنك الدولي لدراسة جدوى لسد حدودي بين مصر وإثيوبيا، فقد استفادت الأخيرة من الثورة المصرية في يناير 2011، واستبدلت سد الحدود بسد النهضة الإثيوبي الكبير.
وتمت زيادة سعة السد إلى 74 مليار متر مكعب، بينما قامت إثيوبيا بالتصميم والبناء، وتشير التقارير إلى أن الدول العشر الأخرى، خاصة تلك التي تقع في مجرى النهر لم يتم إبلاغها بالمخاطر والنتائج التي ينطوي عليها. حيث يمكن لسعة التخزين البالغة 74 مليار متر مكعب أن تجلب عواقب وخيمة على قطاع الزراعة في مصر. مع الوضع في الاعتبار أن انخفاضًا يقدر بمليار متر مكعب من النيل سيتسبب في خروج 200.000 فدان من الأراضي من الإنتاج مما يؤثر على سبل عيش أكثر من 2.5 مليون أسرة.
وخلال أحداث الربيع العربي، وجدت إسرائيل فرصة ثمينة للانخراط في تعاون واسع مع شرق إفريقيا وإقامة قواعد أمنية وعسكرية واقتصادية. وطالما كانت العلاقات قائمة بين إسرائيل ودول شرق أفريقيا، فقد استفادت الأولى من وجود تهديدات أمنية إقليمية على مدى عقود.
وقد جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إثيوبيا لتؤكد على الدعم الإسرائيلي لأديس أبابا في الوقت الذي بدأت فيه الأخيرة المضي في بناء السد دون الاتفاق مع دولتي المصب، وهذا يؤكد على جدية التحدي الذي تواجهه القاهرة في إشارة على أن خلافها مع إثيوبيا حول السد ليس تقنيًا فقط، ولكنه مرتبط بالأهداف السياسية الإقليمية الهامة.
وفي الوقت نفسه، تحاول إسرائيل ضمان أمنها المائي الخاص للمستقبل والحصول على حصة مضمونة من مياه النهر من خلال دعمها لمشروع السد. وقد دارت وعود نتنياهو خلال الجولة الأخيرة في عام 2016 حول مساعدة إثيوبيا في الاستفادة من مواردها المائية في تطوير الزراعة وتزويد البلاد بالتكنولوجيا الإسرائيلية. حتى أن تل أبيب ذهبت إلى حد تثبيت أحدث نظام دفاع جوي لها يدعى Spyder MR حول السد، والذي يمكنه إسقاط العديد من الطائرات المقاتلة على مسافة 40 كم بدقة قصوى.
ومنذ مدة، أثارت زيارات نتنياهو الكثير من الأسئلة، ليس فقط حول الأهداف والعواقب ولكن بشكل خاص حول التوقيت الذي تزامن مع توقيع العقود المتعلقة بالدراسات الفنية؛ إذ تقوم استراتيجية إسرائيل في شرق أفريقيا مستندة في ناحية منها على الصراع العربي الإسرائيلي وفي ناحية أخرى على العقيدة الأمنية الإسرائيلية القائمة على الاستحواذ المشروع والسيطرة على المنطقة. كما أنها تقوم على تطويق الدول العربية وحرمانها من النفوذ داخل أي منطقة تعتبر واعدة في مجالي التجارة والاستثمار.