
الناتو وشرق المتوسط.. بين التحديات القائمة ومحاولات البحث عن دور أكثر فاعلية
كتب: محمود قاسم
تشهد منطقة شرق البحر المتوسط جملة من الأحداث والتطورات الهامة في الآونة الأخيرة، خاصة في أعقاب اكتشافات الغاز المتنامية، بحيث أصبحت المنطقة مصدرًا غنيًا بالموارد الهيدروكربونية وهو ما جعلها محط أنظار القوى الإقليمية والدولية، خاصة وأن هذه الاكتشافات قد تؤدي إلى تغيير مشهد الطاقة بشكل كبير إذ ما تم استغلال تلك الثروات بشكل مناسب. وقد أدت هذه الأهمية إلى مجموعة من التحولات في العلاقات بين مختلف الدول الفاعلة في تلك المنطقة، وقد تشكلت هذه العلاقات على أسس تعاونية في بعض الأوقات، إلا أن نمط الصراع والتصادم كان أبرز مكونات هذا المشهد في الفترات الأخيرة خاصة في ظل إصرار تركيا على التنقيب غير المشروع في تلك المنطقة.
وفي هذا السياق أصدر “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” CSIS (17 يوليو) تقديرًا حول سبل مواجهة التحديات الاستراتيجية في منطقة شرق المتوسط في محاولة للإجابة على تساؤل كيف يمكن أن يتبنى الناتو استراتيجية موحدة شرق المتوسط بحيث يتجنب ملامح الانقسام بين أعضائه؟
وقد أشار التقدير إلى أن هناك عددًا من الملفات العالقة بين أعضاء الناتو ودول الاتحاد الأوروبي بفعل الدور التركي في عدد من الساحات، وقد أصبحت المواجهة البحرية الأخيرة (يونيو 2020) بين أنقرة وباريس والتي ساهمت في زيادة منسوب التوتر بين الطرفين مدخلًا جديدًا لهذا التوتر؛ إذ يمثل هذا الحادث معضلة استراتيجية كبيرة بين دول الناتو، علاوة على الانقسام المتزايد بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. ويمكن إرجاع ذلك إلى السياسة الخارجية والأمنية الإقليمية لتركيا، والتي ترتكز بشكل رئيسي على استراتيجية “الوطن الأزرق” وقد نجم عن هذه الاستراتيجية سلسلة من الاحتكاكات والحوادث بين تركيا وحلفائها لدرجة أنها وصلت إلى مرحلة عالية من التصعيد وصلت في بعض الأوقات للتلويح باستخدام القوة العسكرية.
الوطن الأزرق.. مدخل تفسيري للسياسات التركية
يمكن الوقوف على أسباب التدخلات العدائية لتركيا في شرق المتوسط وإصرارها على تبني نهج مخالف لقواعد القانون الدولي من خلال الوقوف على “استراتيجية الوطن الأزرق” والتي تعود جذورها لعام 2006، إذ قام اللواء المتقاعد “جيم غوردينيز” بتحديد أهداف وطموحات تركيا من خلال الأدوات الدبلوماسية الحازمة والوسائل العسكرية في الثلاثة بحار المحيطة بتركيا ضمن أهداف السياسية الخارجية لأنقرة، بهدف توفير احتياجاتها من الطاقة ودعم مواردها الاقتصادية. وخلال عام 2015 تبنى “أردوغان” هذه الفكرة باعتبارها استراتيجية وطنية للدولة التركية وقد ظهر ذلك بصورة واضحة خلال مناورات ” الوطن الأزرق” (فبراير 2019) كأكبر مناورة بحرية في تاريخ تركيا، علاوة على قيام تركيا (فبراير 2018) بمنع سفينة حفر إيطالية من مزاولة مهامها قبالة سواحل قبرص، كما أرسلت خلال عام 2019 سفنها للبحث والتنقيب عن الغاز، ناهيك عن قيام أنقرة باعتراض وطرد سفينة إسرائيلية من المياه القبرصية( ديسمبر2019)، بالإضافة إلى توقيع تركيا اتفاقية مع حكومة الوفاق (نوفمبر 2019) والتي ساهمت في دخول التوتر مرحلة جديدة وغير مسبوقة، إذ يسمح الاتفاق لتركيا بالدفاع عن مصالح ليبيا البحرية – التي تمتد نحو 6 أميال بحرية من جزيرة كريت- والسماح بالاستخراج المشترك لموارد الطاقة شرق البحر المتوسط.
وقد قوبلت هذه التحركات بردود فعل متباينة، إذ نددت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتلك الإجراءات غير القانونية، وعبّرت عن دعمها لقبرص وتقليل المساعدة التي كانت تقدم لتركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، كما تم تعليق المفاوضات حول اتفاقية النقل الجوي مع تركيا، ناهيك عن استنكار الاتحاد الأوروبي “لدبلوماسية القوارب الحربية” التي تتبناها أنقرة شرق المتوسط. من ناحية أخرى وصفت الخارجية الأمريكية التحركات التركية بأنها غير قانونية وغير مقبولة، رغم ذلك فمن غير المحتمل أن يصدر عن الولايات المتحدة أي إجراء تصعيدي ضد أنقرة، نظرًا لإن إدارة ” ترامب” – حتى الآن- لم تفرض عقوبات قانونية على تركيا بسبب شرائها لصواريخ S-400 من روسيا. وقد أوضح التقدير أن عدم الاستجابة الشاملة والموحدة لحلف الناتو تجاه تركيا ساهم في استمرار الأعمال العدائية للبحرية التركية.
ورجح التقدير استمرار تركيا في هذه النهج خاصة وأن “أردوغان” يعمل على توظيف سياسته الخارجية في زيادة مشاعر القومية بهدف إلهاء الأتراك عن مشاكل الداخل، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه من خلال تحويل “آيا صوفيا” إلى مسجد، علاوة على التدخلات العسكرية في ليبيا، وسوريا. وتأتي هذه التحركات في ظل قناعة “أردوغان” بأن تركيا يمكنها أن تعزز مكاسبها من خلال استخدام القوة من جانب واحد، كما يمكنها توظيف الدبلوماسية والحوار بما يتناسب مع احتياجاتها كلما لزم الأمر.
توتر متزايد.. وتهديد متواصل للاستقرار الإقليمي
ساهمت مساعي تركيا لتأمين مصالحها شرق المتوسط في تصادمها المستمر مع العمليات والمهام الرسمية للاتحاد الأوروبي والناتو، الأمر الذي من شأنه أن يقوض الاستقرار الإقليمي والدولي. وقد ظهرت ملامح التصادم بشكل واضح في (أبريل 2020) عندما أطلق الاتحاد الأوروبي عملية “إيريني” بهدف تطبيق حظر الأسلحة التي فرضها مجلس الأمن على ليبيا وذلك بهدف وقف التصعيد العسكري، وقد قامت تركيا بانتقاد ورفض هذه العملية، حيث رأت أنها تنتهج سياسة أحادية تعمل على تقييد حكومة الوفاق دون النظر لباقي أطراف الصراع.
وقد دلل التقدير على إخفاق مهمة “إيريني” في تحقيق جزء من أهدافها حيث منعت السفن التركية البحرية اليونانية (10 يونيو) من تفتيش سفينة شحن ترفع علم تنزانيا بدعوى أن الشحنة تحمل معدات ومساعدات طبية، وقد تصاعد التوتر في أعقاب هذه العملية والتي تزامنت مع تحرش تركيا بفرقاطة فرنسية كانت في مهمة تابعة للناتو.
وذهب التقدير إلى احتمالية تصاعد التوترات في شرق المتوسط في الفترات القادمة ما يمكن أن يؤثر على دول الاتحاد الأوروبي والأعضاء في حلف الناتو وقد أرجع التقدير ملامح التوتر ومؤشراتها لعاملين أساسيين يمكن الوقوف عليهم فيما يلي:
- ترجيح تركيا لمصالحها على حساب المصالح الجماعية للناتو، جملة من المؤشرات تؤكد تبني تركيا لمبدأ تغليب مصالحها على حساب المصالح الدفاعية الجماعية للناتو من بين هذه العوامل، شرائها لمنظومة الدفاع الصاروخية S-400 من روسيا، وتدخلاتها العسكرية الأحادية في سوريا ضد الأكراد، بالإضافة إلى التدخلات المتكررة شمال العراق وانتهاكها للعقوبات على إيران، ومواصلة اختراق المجال الجوي اليوناني. وقد اعتبر التقدير أن قرار الولايات المتحدة وشركائها بتعليق مشاركة تركيا في برنامج F-35 سيقلل من القدرات الدفاعية للناتو بشكل كبير، كما أن انسحاب فرنسا من عملية الناتو شرق المتوسط في أعقاب قيام تركيا بتحرشها بفرقاطة فرنسية يمكنه أن يقلل من القدرات البحرية وفاعلية دول الاتحاد الأوروبي والناتو في فرض حظر الأسلحة على ليبيا. وعليه فقد أشار التقدير إلى حاجة الناتو لانخراط أوسع وحضور فاعل شرق المتوسط خاصة في ظل تعزيز روسيا لوجودها العسكري ونفوذها في المنطقة، ناهيك عن زيادة التحديات التي يمكن أن تفرزها الترتيبات والتفاعلات في المنطقة.
- تصاعد التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي، على غرار الناتو تشهد العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي توترًا مماثلًا، إذ تعمل أنقرة من خلال سياستها وبحثها عن مصالحها شرق المتوسط على تجاهل سيادة القانون وتوظيف ورقة المهاجرين للضغط على الاتحاد الأوروبي وزعزعة الاستقرار مع دول الجوار الأوروبي بما يتنافى مع قيم الاتحاد، ونوه التقدير إلى أن الاتحاد الأوروبي لا ينبغي أن يكون فاعلًا محايدًا فيما يتعلق بالقضية القبرصية خاصة وأن مجمل التصرفات التركية قد تبعدها بمرور الوقت عن الدخول في شراكة بناءة أو تقوية العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن أن توتر العلاقة بين الطرفين قد تزيد من تعقيد جهود حل النزاعات غرب البلقان وأوكرانيا والقوقاز.
مبادئ حاكمة
خلص التقدير إلى حاجة الناتو إلى تعزيز الاستقرار شرق المتوسط وذلك عبر الاتفاق على مجموعة من المبادئ العامة التي يمكن أن تشكل إطارًا حاكمًا لتحركات واستراتيجية الناتو بحيث تشتمل على عدد من الاعتبارات: أولًا: التأكيد على أن جميع الشركاء الإقليميين يمكن أن يجنوا فوائد اكتشافات الطاقة في المنطقة مع العمل على تبني مسار يستهدف التقاسم العادل لإيرادات الطاقة. ثانيًا: العمل على احتواء النفوذ والوجود الروسي في المنطقة. ثالثًا: ضمان حرية عمل الناتو من البحر الأسود وحتى البحر الأبيض المتوسط. رابعًا: العمل من أجل تعزيز الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بما في ذلك جهود مكافحة الإرهاب. خامسًا: التمسك بالقواعد القانونية الدولية وقرارات الأمم المتحدة مثل حظر الأسلحة على ليبيا والجهود المبذولة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار ودعم السلامة الإقليمية والبحرية للدول. سادسًا: مضاعفة الجهود لتجنب الحوادث البحرية المستقبلية شرق المتوسط بين حلفاء الناتو.
من ناحية أخرى، عرج التقدير على أن المشاركة السياسية والأمنية القوية للولايات المتحدة في المنطقة من شأنها أن تعزز من فاعلية الناتو شرق المتوسط، بالإضافة لدورها في تحجيم الوجود العسكري المتنامي لروسيا، كما أنها تعمل على تحقيق التوازن في العلاقة المتوترة بين فرنسا وتركيا. كما أوضح التقدير أن الاتحاد الأوروبي بحاجة للبحث عن طرق للانخراط مع تركيا وقد يكون الوضع الاقتصادي وتوسيع العلاقات الثنائية بين الطرفين أو زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر للولايات المتحدة، فرصة لتشجيع أنقرة على المشاركة في تطوير إطار عمل إقليمي ينطلق من المبادئ سالفة الذكر.



