أفريقيا

التقارب الهش.. آبي أحمد وأسياس أفورقي

في خضم تعقيدات المشهد الداخلي الإثيوبي، خاصة بعد تصاعد المظاهرات عقب مقتل المغني الأورومي هاشالو هونديسا، فضلًا عن تصاعد المعارضة الداخلية من غالبية القوميات الإثيوبية مع سعي آبي أحمد إلى إحكام قبضته الداخلية والتي تجلت أبرز مساعيه في حلّ الجبهة الشعبية واستبادلها بحزبه الجديد، ليخوض الانتخابات القادمة من خلاله؛ مما فاقم من حدة المعارضة الداخلية، واقتراب دخول البلاد في أزمة دستورية، نظرًا لتأجيل الانتخابات وانقضاء الفترة الدستورية للبرلمان والحكومة في سبتمبر المقبل، ناهيك عن الأزمات الاقتصادية المتصاعدة، يسعى آبي أحمد إلى الالتفاف على أزماته الداخلية بتصويب الأنظار إلى الخارج، من خلال خلق رمزية وطنية لسد النهضة، باعتباره قضية أمة على الإثيوبيين الالتفاف حولها.

وفي سياق التحركات الإثيوبية الخارجية لحشد الرأي العام الإقليمي والدولي تأتي زيارته الأخيرة لإرتيريا، والتي تأتي في سياقات ثنائية متشابكة بين البلدين؛ فإذا كان سد النهضة من بين القضايا الثنائية التي يرغب آبي أحمد في تقريب وجهة النظر بشأنها، إلا أن هناك قضايا أخرى دفعت بهذه الزيارة، يأتي في مقدمتها تصاعد الغضب الشعبي في الجانبين على اتفاق السلام المبرم بين الطرفين عام 2018، والذي لم ينعكس إيجآبيا على أيٍ من الجانبين، هذا فضلًا عن تصاعد غضب قومية التيجراي في إثيوبيا، خاصة مع عودة إريتريا لإغلاق الحدود مرة أخرى بينهما مع انتشار فيروس كورونا. وعليه يمكن رؤية هذه الزيارة ضمن ثلاث قضايا رئيسية:

اتفاق السلام

تصادف الزيارة التي أجراها آبي أحمد إلى إريتريا السبت 18 يوليو ذكرى مرور عامين على توقيع اتفاق السلام بين كل من أديس أبابا وأسمرة، في التاسع من يوليو 2018. وقد صادف إجراء آبي أحمد لزيارة مماثلة في ذات التوقيت من العام الماضي، تزامنًا مع ذكرى مرور عام على توقيع اتفاق السلام؛ وذلك لبحث سبل وآفاق التعاون في المجالات الثنائية والإقليمية بين البلدين.

وصاحب توقيع اتفاقية السلام وضع خطة طريق للسلام والتكامل للمنطقة بأكملها، التي طالما فرقتها الخلافات والحروب والتدخلات الخارجية. وبالفعل تم عقد قمة بين كل من إريتريا والصومال وجيبوتي برعاية إثيوبية في نفس العام. وفي مارس من العام الماضي، زار آبي أحمد وأسياس أفورقي جنوب السودان، وهي الزيارة التي ألغى بسببها آبي أحمد زيارته إلى السودان. وعقدا خلالها قمة ثلاثية لدفع التكامل الاقتصادي في المنطقة، وقد جاءت في اليوم التالي لزيارة أجراها الرئيس الكيني وآبي أحمد إلى إريتريا، لمناقشة عدد من قضايا المنطقة، وتطور العلاقات بين دولها، ومنذ ذلك الحين تسير وتيرة السلام ببطء شديد.

وحتى الآن لم يكن للسلام المأمول بين كل من إثيوبيا وإريتريا أي أثر يذكر؛ فلم ينهِ الاتفاق حالة اللا سلم واللا حرب التي دامت قرابة العقدين بين جبهة تحرير التيجراي وأسياس أفورفي. وحتى الآن لم يتم تطبيق بنود اتفاق الجزائر بشأن ترسيم الحدود بين البلدين؛ بل إن الحدود المشتركة في منطقة “زالنمبسا” التي تم فتحها، عادت إريتريا لإغلاقها مرة أخرى على خلفية انتشار فيروس كورونا. إذ ترى غالبية الآراء أن ما جمع أفورقي وآبي أحمد هو الاتفاق على مخاصمة عدو مشترك وهو جبهة تحرير التيجراي، بل إن أفورقي وعلى مدار سنوات دعّم علاقته بجماعات الأورومو التي صعد منها آبي أحمد في مواجهة التيجراي التي كانت تسيطر على الائتلاف الحاكم. ومع تعالي الأصوات المنددة بعملية السلام، تأتي هذه الزيارة في توقيت حاسم للجانبين؛ إذ يشهد أفورقي تصاعدًا للمعارضة الداخلية في ذات الوقت الذي يتسع فيه نطاق المعارضة الداخلية لآبي أحمد. وتعد اتفاقية السلام ضمن مجالات الانتقاد التي يتعرض لها في السياق الداخلي في الجانبين.

التعاون الثنائي

عقب تصريحات من الجانبين بشأن عدم الرضا عن تقدم العلاقات بين أديس أبابا وأسمرة، تأتي زيارة آبي أحمد التي بدأها السبت الماضي، وذلك لبحث آفاق التعاون الثنائي المشترك بين الجانبين. وهذه هي الزيارة الخامسة التي يقوم فيها آبي أحمد بزيارة إريتريا منذ توقيع اتفاق السلام قبل عامين. ومع تفاقم التحديات الداخلية للجانبين وفي مقدمتها التحديات الاقتصادية، تبرز الحاجة إلى ضرورة دفع التعاون قدمًا بين الجانبين. وفي مطلع مايو الماضي، قام الرئيس الإريتري بزيارة مماثلة لإثيوبيا، أخذت طابعًا وديًا أكثر منها زيارة رسمية، نظرًا لكونها جاءت عقب فترة مرضية مرّ بها الرئيس الإريتري، مما جعلها تخلو من البروتوكولات، والتقى خلالها بكل من الرئيسة الإثيوبية ورئيس الوزراء، واتفق حينها على تعزيز العلاقات الثنائية والتنسيق في مواجهة جائحة كورونا، فضلًا عن تعزيز العلاقات الإقليمية للجانبين.

وحتى الآن، لم يتم استئناف العلاقات التجارية والاقتصادية على النحو المطلوب، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإثيوبي من ارتفاع معدلات التضخم واختلال الميزان التجاري الخارجي وغيره، والأمر نفسه في الجانب الإريتري الذي عانى اقتصاده سنوات من القيود والعقوبات الأممية. كما أنه لا زالت هناك رغبة إثيوبية في الوصول إلى البحر الأحمر عبر الموانئ الإريترية، ليس لتنويع منافذ الوصول إلى البحر فحسب؛ إذ أنها تستخدم الموانئ الجيبوتية والصومالية، فضلًا عن إنشاء خط السكة الحديد بين إثيوبيا وجيوبتي، ولكن تكمن الرغبة الحقيقة في مد أواصر الصلة مع الجانب الإريتري والوصول إلى البحر الأحمر؛ رغبة في خلق موطئ قدم جديد لإثيوبيا واستقطاب حليف مهم كإريتريا في ظل حالة الاستقطاب والتصارع على النفوذ في منطقتي القرن الإفريقي والبحر الأحمر؛ وهو ما يبرر منطق التقارب الإثيوبي الإريتري بالأساس فهو ضمن المساعي الإثيوبي لخق نفوذ وسيطرة إقليمية.

السد والقضايا الإقليمية

تأتي هذه الزيارة بعد جولة من الزيارات التي أجراها الرئيس الإريتري مؤخرًا؛ بدأها بإثيوبيا مرورًا بالسودان واختتمها بزيارة مصر قبل إسبوعين. وهي الزيارات التي كان القاسم المشترك بينها أزمة السد الإثيوبي كما رأى المحللون. وهو الأمر الذي وجه الأنظار ناحية إمكانية لعب إريتريا دورًا في هذا الشأن مدفوعًا برغبة إريترية في لعب دور إقليمي يمكّنها من إعادة التموضع في إطار معادلة التوازنات الإقليمية الجديدة التي يُعاد صياغتها.

وإذ كان الخبراء يرون محدودية الدور الإريتري في التأثير على مسارات أزمة السد الإثيوبي، فإن لإريتريا دورًا غير مباشر في ضوء سياسة المحاور والاستقطاب التي تسود المنطقة. فقد تم اعتبار التقارب الإثيوبي الإريتري، وسعي آبي أحمد إلى تصفير المشاكل في المنطقة، أنها محاولة لتحييد حلفاء مصر في المنطقة، في سياق أزمة سد النهضة.

ومع انتشار الشائعات بتوجه مصر نحو إنشاء قاعدة عسكرية لها على البحر الأحمر، قد تكون موانئ إريتريا مرتكزًا لها، تأتي مساعي آبي أحمد لتحييد أي مسعى مصري في هذا الصدد. وهو ما يبرر رغبة إثيوبيا في استخدام الموانئ الإريترية، ناهيك عن إبرام اتفاق السلام بالأساس، فضلًا عن توظيف وتوسيع تحالفاتها في المنطقة، بما يهمش من الدور المصري في منطقة حوض النيل والبحر الأحمر. لذا سعى آبي أحمد إلى رتق الخلافات بين إريتريا وكل من جيبوتي والصومال، في محاولة لبناء تحالفات إقليمية جديدة تزيد من النفوذ الإقليمي الإثيوبي في سياق مواجهتها مع مصر التي لن تنتهي عند السد الإثيوبي؛ بل إن أزمة السد المفتعلة هي جزء من استراتيجية أوسع للنظام الإثيوبي، ترتكز في جوهرها على التناقض الاستراتيجي مع مصر.

خلاصة القول، تأتي زيارة آبي أحمد الأخيرة ضمن سياسة أوسع، مضمونها القفز على التحديات والأزمات الداخلية بتوسيع نطاق التحالفات والنفوذ خارجيًا. في هذا الصدد، تتجلى كل محاولات التقارب الإثيوبي- الإريتري؛ إذ يواجه النظامان تحديات داخلية متفاقمة، يحاولان الالتفاف عليها بتوسيع نطاق نفوذهما، بما يمكنهما من إحكام السيطرة داخليًا. فيرى الكثيرون أن العامل المشترك لالتقاء آبي أحمد بأسياس أفورقي وتقاربهما هو الاتفاق على خصم واحد، وهو جبهة تحرير التيجراي، التي تقف حتى الآن حجر عثرة أمام تنفيذ أحد بنود اتفاق السلام بين الجانبين، وإعادة مثلث بادمي الحدودي، الواقع على حدود إقليم التيجراي، إلى إريتريا. فضلًا عن أن الرجلين يواجهان تحديات أمام مستقبلهما في الحكم، ما يجعل هناك الكثير من نقاط الالتقاء والأهداف المشتركة، التي يمكن وصفها بالعوامل الهشة أكثر منها عوامل استراتيجية حاكمة. لذا ليس من المستغرب أن يصف المحللون التقارب بينهما بأنه العرس الذي لم تكتمل أركانه بعد، والذي دخل مرحلة من مراحل الفتور، يحاولان الآن تحريك مياهها الراكدة، بعد أن اعتاد الرجلان على الظهور سويًا واصطحاب آبي أحمد لأفورقي في الكثير من المناسبات، وتقريبه من حلفائه في المنطقة. ولذا لا يمكن الحكم على أي تقارب بينهما بأنه تقارب استراتيجي بين البلدين، ففي حال رحيل أيٍ من الرجلين سيعود الحال لما هو عليه مرة أخرى بين البلدين، لذا فهو تقارب هش، مدفوع بالدوافع الشخصية للطرفين.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى