مقالات رأي

جلال نصار يكتب : محاولة للفهم… على هامش يوميات مراسل حربي “متقاعد”

كانت النصيحة الأولى من أستاذي الراحل حسنى جندي عندما قررت أن أتجه إلى العمل محررا عسكريا هي أن لا أكتفى بأن أصبح مندوبا للجريدة يغطى أنشطة القوات المسلحة ووزارة الدفاع المصرية لان ما تحتاجه الأهرام ويكلى مراسل حربى ومحرر عسكري يتجاوز حدود المكان ليصبح ملما بكل الملفات الإقليمية والدولية في مجال التسليح والصراعات المسلحة البارد منها والساخن وأن يكون على قدر يتجاوز قدرات نظيره في الجيروساليم بوست وهآرتس ويديعوت أحرنوت وغيرها من الصحف الإسرائيلية حينذاك وكذلك ما يناظره في الصحف التركية والإيرانية التي تصدر بالإنجليزية في المنطقة وأن تكون تغطياته وتحليلاته محل اهتمام ورصد وتحليل لمن يطالع الجريدة ومن هنا كان الدعم اللامحدود للتأهيل الأكاديمي في الداخل والخارج والدفع بي في مهام في الداخل وفى الإقليم تصب في نهاية المطاف فى هذا الاتجاه وهو ما جعل رصدي لعدد من الملفات أكثر عمقا وتحليلا من مجرد القشور التي تنشر وتبث هنا وهناك…
هذا يتجسد في متابعتي لملف الإسلام السياسي وجماعات العنف المسلح التي تتستر بالدين حيث لم استغرق وقتا في التعرض للمفاهيم الفكرية لتلك الجماعات ومحاولات التنظير والتأطير لها كما ينخدع في ذلك الباحثين في ذلك المجال ونظرائهم من الباحثين في النظم السياسية لان الأمر يتجاوز فكرة أنها قوة تتواجد على الأرض وتبحث عن دور سياسي داخل المجتمع والنظام القائم داخل حدود دولة وطنية إلى انتماء أكبر لا يعترف بحدود أو سيادة ولا يعترف بالمواطنة وحقوق الأخر وكل مكونات الدولة الحديثة التي تدعم الفكر الديموقراطي وحق هؤلاء في التواجد على المسرح السياسي إلى ارتباط بتنظيمات دولية وفكرة أممية وفتاوى تكفيرية وعنصرية ودموية ترتبط بأجهزة مخابراتية ومعلوماتية لدول وقوى خارج الأوطان وتتلقى دعما ماليا وسياسيا وتسليحيا وتدريبا من تلك الأجهزة والدول التي غالبا ما تكون في حالة عداء مباشر أو غير مباشر مع الدولة التي يحملون جنسيتها…
شاهدت بعض من هندسة تلك القوى وإعدادها للصعود وتولى الحكم في مختبر مركز راند الأمريكي للأبحاث في بداية التسعينيات الذى كان يعمل على إعداد الكوادر الشبابية لهذا التيار لتولى الحكم في غضون مدى زمنى من 10 إلى 20 سنة من خلال سلسلة برامج تدريبية ودراسات داعمة وحملات إعلامية وأوراق ضغط سياسي وكذلك بالتركيز على دور تلعبه بقية التيارات السياسية الليبرالية واليسارية دون وعي في دعم صعود ذلك التيار إيمانا بحقه في الوجود والعمل تحت مظلة سياسية شرعية…
استمعت من خبراء ومستشارين من إدارة الرئيس رونالد ريجان لعملية صناعة وهندسة حركة حماس وعدد غير قليل من الحركات والتنظيمات الإسلامية تحت راية الدين والمقاومة لتكون بمثابة عثرة أمام تنظيمات المقاومة اليسارية حينذاك وتسحب منها الدعم والتأييد وتساهم فى عجز القرار السياسي الفلسطيني وتجميد الموقف التفاوضي؛ شهدت عن قرب عملية احتواء وتوجيه حزب التحرير وغيره فى لندن وليدز وبراتفورد ومانشستر وكيف يمكن لهذا الحزب التكفيري الذى يدعو أيضا للخلافة أن يحقق دورا موازيا مع فكرة الخلافة الإخوانية ويفرخ كوادر للقاعدة والمرابطون وداعش وغيرها من الجماعات المؤلفة قلوبهم على القتل والتدمير؛ رايتهم فى دول وممالك يستخدمون كورقة ضغط على النظام السياسي لتمرير قرار أو حدث لا يخدم مصلحة وطنية مثلما كان يحدث فى مصر والأردن والمغرب وسوريا؛ ورأيناهم خنجرا في خصر الأمة العربية والجيران كما كان نظام البشير ومن هم على شاكلته؛ ورأيناهم كيف ينهشون فى الصومال ويفتتونها ويبيعون ولاءهم لمن يدفع تحت رايات عدة لا علاقة لها بالدين والا بالوطن وأمنه وسيادته؛ ورأينا الوجه الشيعي لتلك الجماعات الدينية يعلى مصلحة المرشد والفقيه فوق مصلحة الوطن الأم حين رأيت وعايشت عن قرب حزب الله فى الجنوب يقاتل تحت راية الوطن التي تحولت بين ليلة وضحاها إلى راية إيرانية مع انكشاف الأوراق وتمدد قوى حزب الله في العراق وسوريا واليمن تقاتل نصرة لمذهبهم وطائفتهم؛ ثم رأيناهم جميعا وسويا ينقضون على ما أطلق عليه غربيا “الربيع العربي” وراينا محاولات الدعم اللامحدود من العواصم الغربية والإقليمية كي يتمكن هذا التيار من السيطرة على مقاليد الحكم فى كل دول هذا الربيع بلا استثناء: تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا.
لقد رأيت كيف أن النخبة والباحثين انبهروا بخطاب الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما تحت قبة جامعتي “جامعة القاهرة” ولم تساعدهم البصيرة والرؤية على إدراك أن تلك الكلمة التي ألقاها أوباما بمهارة يحسد عليها كانت إشارة البدء لانطلاق “الربيع العربي” لان مصلحة الغرب ومصلحة دول المنطقة من وجهة نظر الغرب صعود هذا التيار وجماعة الإخوان خاصة إخوان مصر لسدة الحكم ببساطة لان دراساتهم كانت تؤكد على أنه تيار براجماتي يمكن التفاوض معه وتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه نتيجة “لمصداقية” هذا التيار في الشارع خاصة في ما يتعلق بالقضايا الجوهرية في التسويات النهائية لقضية فلسطين فى ما يتعلق بالقدس والأراضي المحتلة؛ أن الجماعة الأم “الاخوان المسلمين” وبقية الجماعات الدعوية والمسلحة تمت بهندسة غربية ودعم وتدريب وتسليح وتمويل غربي مباشر أو من خلال دول وممالك تدين بالولاء وحليفة للعواصم الغربية ويسهل السيطرة عليها في مراحل لاحقة؛ الإسراع بفكرة وجود إمارة إسلامية مستقرة في المنطقة تكون مأوى ومستقر لكل الكوادر والجماعات المسلحة وتخضع لراية كبيرهم “الإخوان المسلمين – مكتب الإرشاد بالقاهرة” وهو ما يمنح صكا أخلاقيا في المقابل لقيام دولة يهودية خالصة في إسرائيل الكبرى؛ فضلا عن أنه يقضى على فكرة المقاومة المسلحة بعد الوصول لتسويات نهائية تقضى على حق العودة وتمنح أراض بديلة فى مناطق يتم الإتفاق عليها…
جرى البحث عن قطعة أرض يمكنها أن تصبح مثل قطعة الجبن السويسري التي تجذب كل الفئران “المقاتلين” من كل ميادين المعارك ومناطق الصراع في المنطقة وتضع حلا لمشكلة عودة البعض منهم إلى بلادهم الاصلية خاصة المقاتلين من ذوى اصول أوروبية ورشح لهذا المكان إما جزء من سيناء كامتداد لقطاع غزة أو المنطقة الواقعة بين الحدود العراقية والسورية؛ فتم الاتفاق على أن تكون سيناء هى الإمارة الإسلامية التي يمكن أن تكون وطنا لكل الجماعات المسلحة استنادا إلى أن مكتب الإرشاد في القاهرة قادر على أن يكبح جماح تلك التيارات ويدينون له بالطاعة والولاء؛ وعلمت من بعض المصادر فى واشنطن أنه تم طرح الفكرة على المجلس العسكري فى أعقاب ثورة 25 يناير2011 إلا أن الأمر قوبل بالرفض التام للمجرد طرح ومناقشة الفكرة التي تم تقديمها أنها حل للقضية الفلسطينية ومشاكل قطاع غزة وعودة اللاجئين فى المقابل كان هناك ترحيبا إخوانيا بالفكرة التي لا تتعارض مع فكر الجماعة الذى لا يعترف بالحدود الجغرافية والسيادة الوطنية ويرى في قطاع غزة وحماس امتدادا لأرض الخلافة ومواطني الخلافة ودليل ذلك أنه بعد صعود محمد مرسى والإخوان للحكم فى مصر وقعت “حركة حماس” على تعهد بعدم القيام بأي “اعتداءات” على الأراضي الإسرائيلية أو الجيش الإسرائيلي متخلية عن حق من حقوق المقاومة الذى يكفله القانون الدولي ووصفت هجمات المقاومة بالاعتداءات؛ فبدا الأمر على أنه قدرة عملية من قبل جماعة الإخوان للسيطرة على حركات المقاومة المسلحة..
وبعد قيام ثورة 30 يونيو 2013م وانهيار مكتب الإرشاد وعزل مندوبه في القصر الرئاسي لجأ المخطط إلى الخطة البديلة لإقامة تجمع لمنتخب الجماعات الإرهابية المسلحة والمليشيات في المنطقة الواقعة على الحدود العراقية السورية الهشة أمنيا وساعد فى هذا ضعف القبضة المركزية للدولتين وانهيار وانشغال القوات المسلحة في صراعات داخلية وأهلية وعرقية ومذهبية؛ وجرت مياه كثيرة تحت الجسر وشاهدنا جميعا وسويا كل ما جرى فى تلك البقعة من الأراضي العربية حت استنفذت أغراضها من فرض واقع سياسي جديد واتفاقياتك بين القوى الفاعلة والإقليمية وتقسيم النفوذ والثروات حتى جاء التفكير فى نقل الصراع والقوات والمليشيات والتنظيمات إلى مسرح عمليات جديد لتنفيذ مهام جديدة وفرض واقع جديد على الأطراف الدولية والإقليمية البعض لغرض تقسيم الثروات النفطية والجيولوجية والبعض الأخر لغرض لفرض سيطرة تيار الإسلام السياسي مجددا على منطقة الشمال الأفريقي كبداية فكان الاختيار على ليبيا التي تعانى فراغ استراتيجي كبير ونزاع بين الجيش الوطني المدعوم من مجلس النواب الليبي والمجلس الرئاسي المدعوم من المليشيات الإخوانية المسلحة…
إذا نحن أمام صراع يستخدم ذات الأدوات والقوى الفاعلة وتقريبا ذات الأهداف والوسائل وهو ما يجعل مسألة الحسم صعبة ولن تكون عسكرية فقط لان كل الأطراف تبحث عن تحقيق مصلحة ما: إما بشكل مباشر على الأرض؛ وإما بدعم طرف يحقق له تلك المصلحة، لذا فإن الموقف المصري الذى يقف مدافعا عن حقوقه وأمنه ومصالحه كان حريصا على رسم خطوطا حمراء معلنة يجب على الجميع أن يحترمها الحليف قبل العدو والطامع؛ خطوط تحافظ على حق مصر فى أن تكون جارتها أمنة مستقرة لا تخضع لنظام حكم يهدد الأمن القومي المصري ويتحول إلى بيئة حاضنة لجماعات العنف المسلح التي فشل مخطط زرعها في سيناء وشمالي العراق وسوريا وتبحث عن وطن دائم يحقق أطماع من يدعى الحق التاريخي في كل دول المنطقة ويحلم بعودة الخلافة والإمبراطورية العثمانية…
كما يدرك الموقف المصري القلق الأمريكي من وجود دائم للروس فى قاعدة الجفرة وغيرها من القواعد الليبية على شاطئ المتوسط وهو ما يعكس أيضا قلق فرنسا وإيطاليا وباقي دول الناتو؛ ثم القلق اليوناني القبرصي الذى يراقب التمدد والالتفاف التركي؛ وبريطانيا التي ترعى إخوان ليبيا وهو ما يجعل التصعيد العسكري أمر محفوف بالمخاطر ويضر بمصالح أطراف متعددة لن تقف صامتة ولكنه أيضا يجعلها تبحث عن حل أخر لا يصل بنا لنقطة المواجهة والصدام من بينها تراجع قوات الجيش الوطني الليبي وانسحابها من سرت وترك أمر منطقة الهلال النفطي لقوات تابعة للأمم المتحدة أو الناتو وهو أمر حدثت فيه عملية خداع من قبل فى الشمال السوري بين روسيا وتركيا وأمريكا بعيد عن احترام السيادة السورية ونظامها السياسي ومرشح للتكرار فى ليبيا…
الدرس المهم في الأمر كي لا أطيل أن حركة السلاح والأفراد فى المنطقة تخضع للرقابة والاتفاق والموافقة والسماح ونقل مسلحين من دول وتسليحهم وتدريبهم ثم نقلهم إلى سيناء وشمال سوريا والعراق ثم ليبيا بتلك الأعداد الكبيرة يخضع لتلك الرقابة والسماح وقد رأيت بنفسي في غرفة قيادة الأسطول السادس الأمريكي فى البحر المتوسط السفينة “لاسال” كيف أن كل طائرة وسفينة ومركب مدنية أو عسكرية تتحرك فى أجواء المتوسط مراقبة أفرادا وشحنات؛ لذا يجب أن لا يستقر الوضع بتلك الجماعات فى ليبيا لما تتميز به من امتداد حدود مع مالي وبعض دول الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا التي تنتشر فيها تلك الجماعات والفكر التكفيري فتتحول لبيبا إلى إمارة إسلامية وفقا للنموذج الذى كان يخطط له من البداية والذى يرى فيه بعض الأطراف مصلحة والبعض الأخر يراه كارثة…
لنا عودة مع سيناريوهات التعامل وتصعيد الأحداث ومواقف الأطراف وحساباتها الاستراتيجية؟؟

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى