
التهديد الإرهابي التركي القادم من ليبيا.. تونس تدفع الثمن
لطالما حذر المراقبون والمحللون من خطورة انغماس تونس في المشروع التركي بشكل عام، ومشروع أنقرة في ليبيا بشكل خاص، لما يمثله هذا من تهديد للأمن القومي التونسي أولًا، والأمن القومي لدول الجوار الليبي ثانيًا، والأمن القومي العربي برمته ثالثًا، ذلك فضلًا عن المساهمة في تفتيت الدولة الليبية، وتحويلها إلى مستقر ومستودع للإرهابيين والمرتزقة، ومسرح لصراعات القوى الدولية. إلا أن الدولة التونسية على وقع التجاذبات السياسية الداخلية والصراع بين مؤسساتها الحاكمة ارتضت –رغمًا عنها أو بإرادتها- أن تنغمس جزئيًا في هذا المشروع الخبيث، لتستفيق بعد ذلك على تهديد إرهابي خطير.
تصاعد وتيرة التسلل إلى تونس
أرسلت تركيا حتى الآن نحو 16 ألف مرتزق من سوريا إلى الغرب الليبي حسب إحصاءات المرصد السوري لحقوق الإنسان، منهم نحو 3800 مرتزق وصلوا إلى غرب ليبيا في الربع الأول من العام الجاري حسب التقرير الفصلي لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” بشأن عمليات مكافحة الإرهاب في أفريقيا، مدفوعين بوعود تركية بمنحهم رواتب شهرية تقدر بنحو 2000 دولار، ومنحهم الجنسية التركية.
تخلي أنقرة عن وعودها للمرتزقة السوريين دفعهم للبحث عن مسارات بديلة عن العمل العسكري في الميدان الليبي، إما بالتسلل إلى تونس، أو استغلال الشواطئ الليبية للتسلل إلى القارة الأوروبية. وقد كشفت التصريحات الأخيرة لوزير الدفاع التونسي عماد الحزقي عن ذلك بجلاء، إذ أشار “الحزقي” إلى أن وتيرة محاولات التسلل إلى التراب التونسي تصاعدت مع حالة الحرب التي تشهدها ليبيا وتدفق السلاح والمرتزقة، محذرًا من خطورتها في ظل الحرب الجارية في ليبيا.
وأكد وزير الدفاع التونسي أن “الجيش التونسي سيتصدى بكل صرامة وحرفية لكل ما من شأنه أن يهدد سلامة الأمن التونسي عن طريق التسلل إلى المناطق الحدودية العسكرية”، داعيًا المواطنين إلى التحلي بأعلى درجات المسؤولية وتفهم دقة الوضع على الحدود.
الدواعش إلى تونس من جديد
الكثيرون ممن انضموا إلى تنظيم داعش في أوج قوته وسيطرته على العراق وسوريا كانوا ينحدرون من الأراضي التونسية، إذ أكد تقرير لخبراء بالأمم المتحدة في 2015 أن تونس هي صاحبة أكبر عدد من الإرهابيين المنضمين إلى صفوف داعش، وقُدّر عددهم في هذا التوقيت بـ5500 إرهابي، فيما أعلن رئيس الوزراء التونسي في ذلك الوقت “الحبيب الصيد” أن السلطات التونسية منعت نحو 15000 شاب تونسي من مغادرة البلاد والالتحاق بتنظيمات إرهابية في الخارج.
والآن وبعد خمس سنوات من هذه الإحصاءات والبيانات الرسمية، وبعد أكثر من ثمانية أشهر من بدء تركيا تسيير رحلات المرتزقة إلى الغرب الليبي للقتال في صفوف الميلشيات التابعة لحكومة الوفاق، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الاستخبارات التركية نقلت أكثر من 2500 من عناصر تنظيم داعش الذين يحملون الجنسية التونسية نحو ليبيا. مما يزيد من الأخطار المحدقة بالدولة التونسية، فهؤلاء التونسيون العائدون من داعش حتمًا لن يعودوا إلى حيث جاؤوا في سوريا، ولن يبقوا في ليبيا حتى لو استمر الصراع هناك، وسيعمدون قطعًا إلى العودة إلى بلدهم.
البعض قد عاد بالفعل إلى الأراضي التونسية، ومنهم من نجح تسلله إلى داخل البلاد، وآخرون استطاعت القوات التونسية ضبطهم، دون أن تفصح السلطات التونسية عن ذلك، وهو ما كشفت عنه واقعة تقديم الكادر الطبي بمركز طبي خاص بعلاج فيروس كورونا بمدينة المنستير الساحلية التونسية لاستقالتهم الجماعية إثر إيواء ثلاثة إرهابيين مصابين بفيروس كورونا المستجد قادمين من ليبيا، من بينهم إرهابي محكوم عليه بالإعدام. وبيّن أحد الأطباء بالمركز أن هؤلاء الإرهابيين نقلتهم إلى المركز فرقة مكافحة الإرهاب بالعاصمة.
يٌضاف إلى ذلك إعلان وزارة الداخلية التونسية أول أمس 18 يوليو نجاح “عملية استخباراتية مشتركة، بين عناصر من الوحدة الوطنية للأبحاث في جرائم الإرهاب، بإدارة مكافحة الإرهاب للحرس الوطني، وإدارة مكافحة الإرهاب بوكالة الاستخبارات والأمن للدفاع، في الكشف عن عنصر تكفيري خطير مبايع لتنظيم داعش الإرهابي، تلقى تدريبًا معمقًا في صناعة المتفجرات وسعى إلى الحصول على مكوناتها لاستهداف إحدى الوحدات الأمنية”
ويمكن فهم ذلك بصورة أوضح إذا اقتُرن بتصريحات وزير الدفاع التونسي عماد الحزقي السابق ذكرها، فالرجل الذي حذر من قبل من خطورة ما يجري على الأراضي الليبية، ووصف في منتصف شهر أبريل الماضي المقاتلين في صفوف حكومة الوفاق بالميلشيات الخارجة عن القانون، استشعر من مثل هذه الوقائع أن تهديدًا كبيرًا وخطيرًا بدأ يتسلل إلى الداخل التونسي.
ثمن التجاذبات السياسية
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدء غزو بلاده لليبيا من داخل قصر الحكم في تونس أثناء زيارته إلى هناك في 25 ديسمبر الماضي. ورغم نفي الدولة التونسية انضمامها إلى أي من المشاريع أو الأحلاف فإن الواقع الميداني يعزز من فرضية ارتضاء الدولة التونسية استغلال أراضيها في العملية التركية في الغرب الليبي.
فشل أردوغان في انتزاع موافقة تونس على أن تكون أراضيها نقطة انطلاق للقوات، ولكن عدة وقائع أكدت عمل تونس بشكل ما لصالح هذا العدوان التركي؛ إذ صرح المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري في 10 مايو الماضي قائلًا “ما يقلقنا كثرة هبوط الطائرات التركية والقطرية في جربة ومطارات أخرى جنوب تونس، ونتخوف من استخدام هذه المنطقة لإيجاد منطقة آمنة لدعم الميليشيات والتكفيريين، وإيجاد بدائل في أماكن آمنة أخطر على القوات المقاتلة في المناطق الموجودة ضمن العمليات العسكرية، باعتبار تلك المناطق آمنة ومحمية بقوانين دولية، فهناك محاولة لإيجاد قواعد شؤون إدارية للأتراك والقطريين ومجموعة الإخوان المسلمين المتحالفة مع راشد الغنوشي في تونس، بجوار الحدود الليبية الغربية”. وكانت الرئاسة التونسية قد سمحت في أول شهر مايو بهبوط طائرة شحن تركية في مطار جربة جرجيس، محملة بمساعدات طبية إلى حكومة الوفاق الليبية.
تُعزى هذه الاختلالات إلى التجاذبات السياسية في الداخل التونسي، بين حركة النهضة الإخوانية الموالية تمامًا لتركيا وتعمل على تنفيذ مشاريعها وأجنداتها، والرئاسة التونسية التي تتخذ مواقف متباينة ومتضاربة إزاء ما يجري في ليبيا. وتقف في المنتصف مؤسسات تونس الراسخة وهي المؤسسات الأمنية التي تدرك تمامًا خطورة ما يجري في ليبيا على أمن تونس القومي، ولذلك وصف وزير الدفاع عماد الحزقي المقاتلين مع حكومة فايز السراج بالميلشيات الخارجة عن القانون، ووقف وزير الداخلية هشام المشيشي يوم 13 يوليو الجاري أمام مخططات حركة النهضة داخل البرلمان لإلغاء ما يُعرف بـ”الاستشارة قبل السماح بالعبور” وهو الإجراء المتبع على المعابر الحدودية التونسية لضمان عدم عبور الإرهابيين ومن يهددون أمن تونس.
حركة النهضة دعمت وتدعم حكومة الوفاق الليبية وميلشياتها بشكل واضح ومعلن، متخطية في صورة رئيسها ورئيس البرلمان راشد الغنوشي كافة الأعراف السياسية التونسية، ومتخطية الرئيس التونسي نفسه. أما قيس سعيّد فتبدو مواقفه متباينة، بين نفي تصريح وزير دفاعه حول ميلشيات الوفاق، وتأكيده على أنها لا تعبر عن موقف تونس الرسمي من ليبيا، ثم تصريحه لصحيفة لوموند الفرنسية أواخر الشهر الماضي بأن “تونس دفعت ثمنًا باهظًا للحرب التي لا تنتهي في ليبيا”.ولكن تصريح سعيّد الأخير لا يعدو كونه جزءًا من التجاذبات السياسية التي بينه وبين حركة النهضة، خاصة قوله إن “تونس دفعت ثمنا باهظًا حتى داخل طبقتها السياسية كما لو أن المشكلة الليبية كانت تونسية – تونسية، فقد دعم البعض المخيم في الشرق، والبعض الآخر في الغرب”. وفي كل الأحوال يبدو أن القيادة التونسية مقبلة على مرحلة خطيرة سياسيًا وأمنيًا، ستدفع خلالها ثمن صمتها في بعض المواقف، وتساهلها في مواقف أخرى فيما يخص الأزمة في ليبيا.
باحث أول بالمرصد المصري