
مشايخ القبائل الليبية في القاهرة.. رسائل ودلالات
اكتسب لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي (16 يوليو) مع عدد من مشايخ وأعيان القبائل الليبية أهمية كبيرة في ظل ما تشهده الساحة الليبية من تحولات وترتيبات متسارعة يمكن أن تؤثر في مجريات الوضع وحسابات الأطراف الفاعلة بشكل كبير، خاصة في ظل مساعي تركيا الرامية لتمديد نفوذها غرب ليبيا عبر السيطرة على محور سرت والجفرة بما يضمن لها تأمين احتياجاتها وسيطرتها على النفط الليبي واكتساب ميزة تنافسية كبيرة يمكن أن تساعدها في حسم الوضع الميداني ومن ثم فرض شروطها المستقبلية كطرف لا يمكن تجاهله.
وترتيبًا على ماسبق، يمكن الوقوف على أبرز الرسائل والدلالات التي حملها لقاء الرئيس السيسي مع مشايخ وأعيان القبائل الليبية فيما يلي:
دور محوري ورقم فاعل
تُعدُّ القبائل الليبية رقمًا فاعلًا في كافة التفاعلات على الساحة الليبية. ولم يكن هذا الدور وليد اللحظة، ولكنه امتداد طبيعي لحدود وطبيعة دور القبيلة في الساحة الليبية عبر التاريخ، إذ التفت كافة الحكام لأهمية القبيلة ودورها في تعزيز نظام الحكم، حيث عمل الملك “محمد أدريس السنوسي” على ترسيخ قواعده وتنفيذ سياسته من خلال تدشين تحالفات مع أبرز القبائل الليبية في ذلك الوقت. واتبع القذافي استراتيجية مماثلة، حيث عمل على دعم نظامه وترسيخ قواعده عبر عدد من القبائل وفي مقدمتهم القذاذفة، الورفلة، والمقارحة. ما يعني أن العنصر القبلي مترسخ وضارب بجذوره في الساحة الليبية. ومن هنا تأتي أهمية وقيمة القبيلة باعتبارها رقمًا فاعلًا.
وقد لعبت القبيلة دورًا مهمًا في كافة التفاعلات التي أعقبت سقوط نظام القذافي، خاصة في دعم الدولة الليبية ومؤسساتها، وعلى الرغم من وجود عدد من القبائل التي تقف في صف حكومة الوفاق المدعومة من تركيا، إلا أن السواد الأعظم قد أعلن في مرات عديدة دعمه للجيش الوطني الليبي، الأمر الذي يمكن الوقوف عليه من خلال عدد من التحركات، حيث تجلت مظاهر الدعم بشكل صريح في أعقاب التدخل العسكري التركي العلني والمباشر في الأزمة الليبية، فقد أعلنت قبائل برقة (يناير 2020) عن إغلاق حقول النفط والموانئ خشية وقوع مواردها في أيدي مرتزقة تركيا وحكومة الوفاق، وقد تسبب هذا التحرك في خسائر بلغت نحو 7 مليار دولار حتى يوليو 2020 كان من الممكن أن تستغلها حكومة الوفاق في دعم وتمويل جهودها الحربية.
من ناحية أخرى، أبدت قبائل الغرب الليبي دعمها للجيش الوطني ومؤسسات الدولة الشرعية رغم خروج البعض عن النص وتأييد تحركات حكومة الوفاق إلا أن أغلب هذه التأييدات مرهونه بالتغيرات الميدانية؛ إذ تغير هذه القبائل ولاءها بشكل دائم لصالح من يفرض سيطرته الميدانية، وما يدل على أن أبرز قبائل الغرب الليبي وأكثرها ثقلًا تقف في صف الجيش الوطني ضد حكومة الوفاق ومرتزقة تركيا ما جاء في رد فعل قبائل ترهونة والتي تمثل أكثر من ثلث سكان طرابلس بنحو 65 قبيلة فرعية، بالإضافة إلى قبيلة ورفلة- أكبر القبائل الليبية- وتمثل نحو مليون ليبي عبر تأييدهم لخطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي بالمنطقة الغربية العسكرية ( 20 يونيو) ورفضهم لما وصفوه بالاحتلال التركي لبلادهم. الأمر ذاته ينسحب على قبائل إقليم “فزان” جنوب ليبيا والتي عبرت عن دعمها للجيش الوطني الليبي.
رسائل ودلالات
ثمة رسائل ودلالات يمكن الوقوف عليها من خلال لقاء الرئيس السيسي مع مشايخ وأعيان القبائل والذي جاء تحت شعار “مصر وليبيا شعب واحد… مصير واحد” الليبية وذلك فيما يلي:
- رهان حاسم: يحمل لقاء الرئيس السيسي بمشايخ وأعيان القبائل دلالة واضحة على حدود وطبيعة الدور التي يمكن أن تلعبه القبيلة في ظل التحولات الجارية، بحيث تُعدُّ صمام الأمان والرهان الحاسم الذي يمكن أن يُرجح كفة طرف على حساب الآخر، خاصة وأن المجتمع الليبي يسيطر عليه الطابع القبلي، إذ يصل إجمالي القبائل الليبية لنحو 140 قبيلة موزعة بين الأقاليم الثلاثة برقة شرقًا، طرابلس غربًا، وفزان جنوبًا. ولا يُعدُّ موقف مصر تجاه القبائل وليد اللحظة، حيث تضع مصر القبيلة كجزء من الحل وأساس للتسوية منذ بداية الأزمة وهو ما ترجمته التحركات المصرية مبكرًا من خلال استضافتها ملتقي القبائل الليبية (مايو2015) لبحث تهدئة الأوضاع وحلحلة الأزمة الليبية.
- تأكيد شرعية التحرك المصري: أضفى لقاء الرئيس السيسي بمشايخ وأعيان القبائل مزيدًا من الشرعية على أية تحركات مستقبلية لمصر في الأزمة الليبية، حيث وفر اللقاء لمصر شرعية وحاضنة شعبية بجانب الحاضنه المؤسساتيه التي أقرها مجلس النواب الليبي من خلال دعوته للجيش المصري لحماية الأمن القومي الليبي، وبذلك باتت تتوافر للدولة المصرية كافة أشكال وصور الشرعية التي يمكن أن يحتاجه أية تدخل مستقبلي، ناهيك عن الشرعية القانونية التي يُقرها ميثاف الأمم المتحدة لأي دولة خاصة ما يتعلق بالدفاع عن النفس في حالة تهديد الحدود والنيل من السلامة الإقليمية للدولة، بحيث يصبح من حق أية دولة التدخل المباشر شريطة أن تطلب منها المؤسسات والكيانات الرسمية للدولة المعتدى عليها القيام بذلك، وعليه يمكن التأكيد على أن شرعية التدخل العسكري المصري حال حدوثه ستصبح مكتملة الأركان.
- رفض النموذج الميليشاوي: لا شك أن الاجتماع أكد على وجهة نظر مصر الدائمة في حتمية دعم مؤسسات الدولة الليبية وترسيخ النموذج الوطني على حساب النموذج الميليشاوي الذي تدعمه تركيا عبر محاولاتها لتجاوز دور الدولة وخلق كيانات تحمل ولاءات فوقية تتجاوز الولاء للدولة ومؤسساتها وهو ما بدى جليًا من خلال مساعي أنقرة لتشكيل فرق عسكرية مشتركة تشبة في تكوينها نموذج الحرس الثوري الإيراني، إلا أن هذا النموذج تقابله جهود مصرية في بناء جيش وطني موحد، وذلك من خلال تفكيك وحل الميليشيات المسلحة، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي عبر حديثه عن عدم السماح بالرهان على الميليشيات المسلحة في ليبيا.
- التأكيد على الخطوط الحمراء: حمل الاجتماع دلالات واضحه وتأكيدات لا شك فيها حول الخطوط الحمراء التي وضعتها مصر فيما يخص محور سرت والجفرة، الأمر الذي يعني أن مصر لن تتردد في حماية أمنها القومي ضد أية تهديدات حدودية وذلك من خلال استخدام القوة الغاشمة والحاسمه وهو ما عبرت عنه كلمات الرئيس السيسي فيما يتعلق بقدرات مصر في تغيير ميزان القوى العسكري بصورة حاسمة وسريعة، وهو ما يُشير إلى أن مصر تقدم رسالة ذات شقين، الأولى رسالة سلام تدعو لوقف القتال واللجوء للمفاوضات كخيار يضمن حقن الدماء وإنهاء الصراع الليبي، في الوقت ذاته تبعث برسالة حسم تؤكد على أن الأمن القومي المصري لم يعد مرتبطًا بالشرق فقط بل يمتد ليشمل كافة الأراضي الليبية.
- تعزيز موثوقية القاهرة: يدل الاجتماع على ما تحظى به القاهرة من ثقة شديدة من الأطراف الليبية – قبائل ومؤسسات- باعتبار القاهرة بمثابة الضامن الأول للأمن القومي الليبي ووحدة أراضيه وهو ما يضع الوجود التركي وحكومة الوفاق في مأزق شديد، إذ إن ذلك يعني أن كافة الأطراف الداخلية الفاعلة والشرعية ترفض التحركات التركية ودعمها العسكري للمجموعات المسلحة والميليشيات في الغرب، خاصة وأن هذا الاجتماع قد تم تمثيل فيه كافة قبائل ومدن ليبيا في الشرق والغرب والشمال والجنوب الأمر الذي يؤكد على افتقاد حكومة الوفاق لكل سبل وأشكال الدعم باستثناء الدعم المقدم من أنقرة.
مجمل القول،
تظل الروابط التاريخية والثقافية والاجتماعية بين مصر وكافة المكونات الليبية، والحاجة للحفاظ على الأمن القومي للبلدين بمثابة المحرك الأول الذي يجمع الطرفين في صف واحد، إذ لا توجد لدى مصر أية اطماع أو رغبات سوى في حفظ الأمن والاستقرار في الداخل الليبي وإيقاف دورة الصراع المتأجج منذ عام 2011، كما يظل دور القبيلة أحد أبرز محفزات وعوامل الحسم لما يملكة هذا المكون من نفوذ وقوة تأثير. وفي ظل هذه الأوضاع وما يمكن أن يفرزها المشهد الليبي من تطورات تظل القناعة المصرية ثابته فيما يرتبط بأهمية التسوية السياسية وتجنب ويلات الصراع.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع