شرق المتوسط

ماذا لو انضمت “قبرص” لحلف الناتو؟

تشهد منطقة شرق المتوسط عددًا من التطورات المتلاحقة تجسدت آخرها في الخلاف بين عضويّ حلف شمال الأطلسي فرنسا وتركيا حول الصراع الليبي والتنقيب التركي في شرق المتوسط. الأمر الذي أدى إلى تنامي حدة الخلافات بين الجانبين وانعكست على المنطقة، إضافة إلى الانتهاكات التركية للمياه الاقتصادية الخالصة لجزيرة قبرص، بما له من مردود على زيادة التوتر بين الدولتين وبين تركيا واليونان عضوىّ الناتو؛ إذ تتحدى تركيا تماسك الحلف، عبر تطلعاتها الإقليمية وتدخلها العسكري في سوريا والعراق وشرائها لأسلحة روسية مثل نظام الدفاع الجوي إس-400.

وعليه، فإن حدة الخلافات المتنامية بين أعضاء حلف الناتو وتأثيرها عن تماسك الحلف، قد يجلب الجزيرة القبرصية باعتبارها الأداة السياسية والاستراتيجية تاريخيًا وسط معادلات ومصالح القوى وتوازناتها في المنطقة. فقد أعلنت الولايات المتحدة اعتزام إجراء تدريبات عسكرية مع قبرص للمرة الأولى، كجزء من العلاقة الأمنية الآخذة في التوسع.

الأهمية الجيوستراتيجية لقبرص

تقرير حلف شمال الأطلسي الخاص بوضع التحالف ومستقبله في عام 2024 أوضح أن أحد الأسئلة الرئيسية لمستقبل الناتو هو كيفية الموازنة بشكل أفضل للمصالح الأمنية لدوله الجنوبية والشرقية. وفي إطار التحديات الراهنة، بدأ بعض المحللين في طرح تصور ماذا لو تم ضم قبرص للناتو؟ باعتبارها الحل المثالي تاريخيًا لاستقرار الجبهة الجنوبية للناتو، وذلك لمواجهة التطورات المتلاحقة في منطقة شرق المتوسط. فضلًا عن كون المياه المحيطة بقبرص أصبحت مصدر قلق فيما يتعلق بالتهديدات فاعلين من غير الدول، بما في ذلك الجريمة المنظمة والإرهاب والاتجار بالبشر وتدفق اللاجئين. 

إذ تتمتع جزيرة قبرص بأهمية استراتيجية، يمكن تلخيصها في

  • الموقع الجغرافي: فتاريخيًا نتيجة موقعها المُتميز، كانت جزيرة قبرص بمثابة مركز انطلاق للعمل في شرق المتوسط وتأمين مسارات حركة النقل البحري واعتبارها موقعاً للمراقبة. وذلك إبان فترة الاستعمار الإنجليزي للجزيرة، بموجب منح من الإمبراطورية العثمانية السيطرة للجانب البريطاني على الجزيرة مقابل الدعم البريطاني لهم ضد الروس.
  • اكتشافات الغاز: تأتي الأهمية الاقتصادية لقبرص نتيجة اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط. فضلًا عن انضمامها إلى منتدى غاز شرق المتوسط ودخولها في تحالفات ثلاثية إلى جانب اليونان مع كل من مصر وإسرائيل على حدة. 
  • التوظيف السياسي: لم يُنظر لقبرص -حتى تاريخيًا- اقتصارًا على بٌعدي “الجغرافيا” و”الطاقة”. فقد تم التعامل معها أيضًا باعتبارها “أداة” سياسية للبريطانيين ضد العثمانيين قبيل الحرب العالمية الأولى، وضد الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة. وعليه، فإن الخبرة التاريخية امتدت إلى قبرص باعتبارها مركزًا للنشاط السياسي لمصالح القوى. فقد تم الدعوة إلى إنشاء حلف الناتو لمركز للعمليات في الجزيرة يختص بالتهديدات من غير الدول، ويُشرك دولاً أخرى من خارج الناتو مثل لبنان وإسرائيل ومصر والأردن.
C:\Users\DELL\Desktop\kibris-harita-konumu.jpg

ما بعد الانضمام

تأتي المآلات السياسية لانضمام قبرص للناتو على خريطة المصالح المتواجدة في المنطقة، فضلًا عن تصورات مستقبل الناتو، ويمكن إيضاحها في النقاط التالية:

  • حل نزاع تاريخي: في الداخل القبرصي، يوجد نزاع تراكمي في الجزيرة بين الجزء الجنوبي الذي يمثله القبارصة اليونانيون والجزء الشمالي الذي يمثله القبارصة الأتراك منذ عام 1974، نتج عنه إعلان عن دولة قبرص الشمالية عام 1983 التي لم تعترف بها أى دولة في العالم سوى تركيا، وما نتج عنه من توترات بين تركيا واليونان. فمن شأن ضم قبرص إلى حلف الناتو، توفير منصة جديدة لم يتم طرحها مسبقًا للمشكلة الأمنية لحل النزاع بين تركيا وقبرص واليونان، في إشارة إلى إمكانية حل اليونان لنزاع تاريخي آخر مثلما فعلت مع مقدونيا الشمالية.
  • امتيازات قبرصية: إن من شأن انضمام قبرص الناتو هو تمتع الجزيرة بامكانيات وامتيازات حلف الناتو، وبالتالي إنشاء مركز لعمليات الناتو على الجزيرة واعتبار أن المشاكل التي تواجهها قبرص من قِبل تركيا هي أمور داخلية بين أعضاء الحلف ويتم حلها في إطاره. إضافة إلى أن وضع “جزيرة موحدة” من شأنه وضع استراتيجية أمنية وطنية واحدة لا تركز على عدم الثقة بين أي من الجانبين، ولكن على مجموعة مشتركة من التحديات التي تواجهها الجزيرة.
  • دور تركي أكبر في شرق المتوسط: قد يوفر الانضمام إشراك الحلف في العمليات الاستكشافية لمصادر الطاقة في شرق البحر المتوسط. بما يعني تزايد الدور التركي في المنطقة عبر بناء تفاهمات بين تركيا وقبرص واليونان في إطار مصالحة بينهم بشأن القضية القبرصية. إضافة إلى تحويل منطقة شرق المتوسط إلى بحيرة أطلسية. 
  • تواجد عسكري تركي محدود داخل قبرص: بينت مؤشرات وتحركات تركيا إلى السعي لعمل مناورة سياسية لحل القضية – على الرغم من فشل جميع المحاولات السابقة- بما سيكون له مردود سياسي ونفعي عليها. فقد دعا وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في في مؤتمر صحفي عقد مع وزير الخارجية اليوناني في مارس 2019 عن رغبة تركيا في إيجاد حل للقضية في إطار مفاوضات محددة الإطار. وعلى الرغم من أن عضوية قبرص ضمن حلف الناتو من شأنه استبدال القوات الأممية المشتركة -اليونانية والتركية والانجليزية- الضامنة للأمن بقوات الناتو لضمان أمن الجزيرة ككل، وبالتالي محدودية الوجود العسكري لتركيا في شمال جزيرة قبرص، إلا أن ضمان الاستقرار الأمني ضمن أنشطة الناتو والذي تتمتع فيه تركيا بتفوق عددي لقواتها البرية به قد يسمح لتركيا بمساحة سياسية وأمنية في إطار الناتو، لكنه لن يكون بمثل التواجد العسكري الكامل في شمال الجزيرة.
  • خلق ثلاثي جديد (كسر العزلة التركية في شرق المتوسط): يعد حل القضية القبرصية بالنسبة لتركيا، وبالتالي التقرب بينها وبين اليونان، العمل سياسيًا على خلق ثلاثي ثالث بجانب ثلاثيّ مصر وإسرائيل مع قبرص واليونان. فضلًا عن أن دخول تركيا في تلك الترتيبات المقترحة، سيجعلها تعمل في إطار تجمع كبير لها فيه ميزة نوعية ونسبية كبيرة. فضلاً عن تشتيت للفاعلين (قبرص واليونان) ما بين تجمعات كثيرة (الناتو ومنتدى غاز شرق المتوسط) ودخول تركيا في معادلة شرق المتوسط. فتزايد التأكيد التركي على الساحة المتوسطية كان واضحًا في إجراء تركيا لأكبر مناورة بحرية ” مناورة الوطن الأزرق 2019″ منذ 20 عامًا في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط ​​والبحر الأسود في مارس 2019 كنوع من رد الفعل على إنشاء منتدى الغاز. 

تحديات الانضمام

في ظل المصالح الإقليمية والدولية في المنطقة، يبرز عدد من التحديات أمام خطوة انضمام قبرص إلى حلف الناتو والوفاء بالتزاماته. إذ قد تأتي تلك العراقيل من داخل الناتو نفسه من قِبل تركيا بشكل رئيسي، فضلًا عن احتمالية المعارضة الروسية لمثل تلك الخطوة. ويمكن توضيح التحديات في:

  • معارضة تركية: أشار عدد من التقارير إلى أن انضمام قبرص للناتو قد يواجه اعتراضًا تركيًا داخل الناتو. لكونها المستفيد من الوضع القائم للجزيرة ونشرها لقوات عسكرية على أراضي جمهورية شمال قبرص، بما يمنحها حرية المناورة السياسية والتحرك العسكري الداعم لمساعيها في عمليات التنقيب والحفر. إضافة إلى احتمالية الضغط الروسي على تركيا لمقاومة مفاوضات الانضمام، مقابل توافقات روسية تركية في ليبيا وسوريا.

ولكن في المقابل، قد يوفر القانون الأمريكي “شراكة الأمن والطاقة لشرق المتوسط” الذي صدّق عليه الرئيس “دونالد ترامب” في ديسمبر 2019 والمرتبط بتعزيز التعاون بين الولايات المتحدة من جانب وثلاثي “إسرائيل وقبرص واليونان” مظلة لبناء تفاهمات بين قبرص واليونان من جانب وتركيا من جانب برعاية أمريكية، بما يعني خلق مسار موازي لترتيبات منتدى شرق المتوسط. وعليه، فإن هذا القانون قد يعتبر الخطوة الأولى والتي قد تمتد لانضمام قبرص لحلف الناتو مستقبلاً.

  • تطويق روسي: قد يُعتقد أن هذه الخطوة موجهة للنفوذ الروسي المتزايد في سوريا وتوسيع وجودها في ميناء طرطوس على البحر المتوسط والذي مدت روسيا نفوذها للميناء لمدة تسعة وأربعين عامًا. كما أن فكرة انضمام قبرص لحلف الناتو من شأنه تحييد الصوت الروسي داخل قبرص لحزب AKEL ومعارضته المستمرة للانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما سينعكس على الهروب من أي معارضة روسية في الأمم المتحدة. وإقليميًا، تعد خطوة الانضمام للناتو بمثابة تزايد للتواجد الغربي في منطقة شرق المتوسط، وأثر ذلك على خريطة النفوذ الروسي وحتى امتداده إلى ليبيا. كما قد يعرقل ذلك مصالح حلفاء روسيا مثل النفوذ الإيراني المتزايد على البحر المتوسط ويفتح لتركيا الباب أمام تحرك أوسع ضمن استراتيجية الحلف.

وعليه، يتضح الدور المحوري لقبرص باعتبارها أداة سياسية تساهم في إعادة توازنات المنطقة بين القوى الفاعلة ومصالحها المتعارضة. إضافة إلى إمكانية استفادة الناتو من قبرص للضغط على تركيا وتحركاتها في المتوسط.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى