مقالات رأي

قراءة فيما طرحه “جودة عبد الخالق” عن الاقتصاد المصري

كتب د. جودة عبد الخالق مقالًا عما يواجه الاقتصاد المصري من تحديات وسُبل مواجهتها في ظل جائحة كورونا، رفضت جريدتا الأهرام والمصري اليوم نشره، فاضطر إلى نشره في موقع جريدة الأهالي تحت عنوان “مصر وكورونا…. ثالوث التحديات الوجودية”، وبداية أود أن أؤكد على استغرابي الشديد من عدم موافقة الجريدتين على نشر المقال في ظل أن كاتبه هو وزير تموين سابق، وأحد كبار المُفكرين الاقتصاديين المصريين، وأن ما يطرحه المقال وإن كان مُخالفًا للطرح السائد في المجال العام، إلا أنه يظل أفكارًا يؤخذ منها ويُرد عليها، ومن هذا المُنطلق، مع كامل احترامي وتقديري لسيادة الوزير والذي يُعدُّ أستاذًا لي وإن لم يكن بالتلقي فعبر كتاباته التي تعلمت ولا زلت أنهل منها. فما احتواه المقال يُمكن تفنيده ودحضه من مُنطلق الواقع والأرقام وما طال الاقتصاد المصري من تغيرات خلال السنوات الست الماضية، وهو ما سيُخصص هذا المقال له، إذ سنستعرض ما جاء بمقال أستاذنا الدكتور ونرد عليه:

1- الاقتصاد المصري ريعي: ” فنتيجة لهذا النموذج، تم رهن مقدرات بلادنا بأربعة مصادر ريعية؛ ريع الموارد الطبيعية (نفط وغاز وسياحة)، وريع الموارد البشرية (تحويلات المصريين المغتربين)، وريع الموقع (قناة السويس)، والريع الاستراتيجي (المساعدات والمنح المالية، خصوصًا من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج).”.

  • يُمكن الرد على ذلك بأن المصادر الخمسة لتدفقات النقد الأجنبي في عام 2018/2019 وإن كانت في مُعظمها ريعية إلا أنه يتصدرها الصادرات بقيمة 28.4 مليار دولار (تنقسم إلى 11.5 مليار بترولية ونحو 16.9 مليار من الصادرات الزراعية والصناعية)، تليها بعد ذلك تحويلات المصريين العاملين في الخارج بقيمة 25.1 مليار، ثم عائدات السياحة بـ 12.5 مليار فعوائد قناة السويس بـ5.7 مليار دولار.
  • وشهدت الصادرات البترولية قفزة كبيرة مُنذ 2016/2017 حيث كانت قد استقرت عند مُستوى 5.6 مليار في 2015/2016 لتشهد ارتفاعًا خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط، بسبب برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي مكّن الدولة من دفع مُتأخرات الشركاء الأجانب فرفعوا استثماراتهم في الأراضي المصرية، وهو ذات البرنامج الذي هاجمه معالي الوزير بطول مقاله.
  • كذلك تطورت الصادرات غير البترولية “الزراعية والصناعية” من 13.6 مليار في 2014/2015 مع تولي الرئيس إلى مستوى الـ 16.3 مليار بنسبة 27%، في ست سنوات فقط، بسبب ذات البرنامج.
  • كما ارتفعت إيرادات السياحة من 3.7 مليار في 2015/2016 إلى مستوى الـ 12.5 مليار دولار.
  • يعني ذلك أن الدولة انخرطت فعليًا في تطوير لجميع مواردها سواء “الريعية” أو الزراعية والصناعية خلال فترة “برنامج الإصلاح الاقتصادي”، لترتفع جميعها بلا استثناء، ولكن لأن السياحة وتحويلات العاملين في الخارج أسرع في الازدهار، فقد ارتفعتا بنسب أكبر من تلك التي شهدها قطاعي الزراعة والصناعة اللذان يحتاجان إلى وقت أكثر، لكنهما كذلك في ارتفاع ومازال متوقع اتجاههما للارتفاع بوتيرة أسرع في المُستقبل.
  • ولعل في ضرب بعض الأمثلة للمشروعات الصناعية والزراعية التي تنتشر بطول البلاد وعرضها ما يُطمئن استاذنا الدكتور والقارئ العزيز إلى أننا في مرحلة تحول ستتجه بعدها الصادرات من كلا النوعين إلى الارتفاع، فعلى سبيل المثال لدينا مشروع المليون ونص فدان ومشروع ال 100 ألف صوبة زراعية ومزارع أسماك غليون ومشروع المليون رأس ماشية وغيرها… وكذلك لدينا مشروع أكبر مدينة غزل ونسيج في الشرق العالم “مان كاي”، برنامج مُتكامل لإعادة قطاع الغزل والنسيج الحكومي للمُنافسة بقيمة 20 مليار جنيه، مصانع الأسمنت في العريش وبني سويف، إعادة مصنع النصر للسيارات للعمل من جديد بإنتاج سيارات كهربية، وغيرها…

2- تجربة الإصلاح فاشلة: “حيث ألجأتنا دائمًا لمؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) بحثا عن مخرج من الأزمات تحت مسمى برامج الإصلاح الاقتصادي. ولنقارن حالنا بدولة مثل كوريا الجنوبية اتبعت نموذج الاقتصاد الإنتاجي. فحتى منتصف الستينيات من القرن الماضي، كانت مصر تتفوق على كوريا الجنوبية في كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. والآن أصبحنا أقرب الى القاع وصاروا هم أقرب إلى القمة”.

  • أكاد أجزم أن أستاذنا الدكتور يعلم تمام العلم أن الانطلاقة الحقيقية للاقتصاد الكوري الجنوبي جاءت بعد برنامج موسع مع صندوق النقد الدولي أعقب أزمة مالية كُبرى في عام 1997، تلقت بعدها قرض من الصندوق بقيمة 57 مليار دولار، مع اتفاقها على برنامج إصلاح اقتصادي هيكلي كالتي تتبعه مصر اليوم ومع ذات المؤسسة، بل وببرنامج مُشابه إلى حد كبير لذلك الذي نُفذ في كوريا الجنوبية، لكن في ذات الوقت يُكال النقد بالجُملة لبرنامج الإصلاح المصري، ويُزف المدح للبرنامج الكوري، رغم أن ما أظهره الاقتصاد المصري من استجابة حتى وقتنا للإصلاح الهيكلي يشي بخواتيم مُشابهة لتلك التي أسفر عنها البرنامج الكوري، حيث ارتفعت مُعدلات النمو وانخفضت البطالة ومُعدلات التضخم، وعادت الاستثمارات للتدفق مُجددًا سواء مُباشرة أو غير مُباشرة، وبدأ سعر صرف الجنيه يتوازن أمام الدولار.

3- وجوب مُراجعة السياسات الحالية والعودة عنها: ” فقد أدت الجائحة إلى تخفيض الإيرادات العامة وزيادة النفقات العامة في وقت واحد، مما يعنى زيادة عجز الموازنة العامة للدولة. كما تهاوت إيراداتنا من النقد الأجنبي وانخفض الاحتياطي لدى البنك المركزي وارتفعت البطالة وزادت الأسعار. ولابد أن ندرك أنه لو كان النموذج الاقتصادي الذي اتبعناه هو النموذج الإنتاجي بدلًا من النموذج الريعى، لكان تأثير جائحة كورونا على اقتصادنا ومجتمعنا أقل حدة بكثير مما هو الآن. هذه نقطة جوهرية. ولذلك، فالحكمة تقضى بأن نتخلى عن المسار الاقتصادي على طريق النموذج الريعي. وهذا يستدعى مراجعة جذرية للسياسات في مختلف المجالات.”

  • رغم أنه لا جدال في أن هدف الاقتصاد المصري هو التحول للتصنيع، إلا أنه لا دليل حقيقي على أن الدول ذات الاقتصاد الصناعية ضربتها الجائحة بشكل أقل حدة مما ضربتنا، بل إن العكس هو الصحيح:
  • إذ تشهد تقديرات صندوق النقد الدولي بعكس ما ساقه معالي الوزير تمامًا، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد العالمي بنحو 4.9%، مع انكماش بنحو -8% للاقتصاد الأمريكي، و-12.5% في فرنسا، -7.8% في ألمانيا، -5.8% اليابان، -10.2% في المملكة المُتحدة.
  • في حين توقع الصندوق نمو الناتج المحلي الإجمالي المصري بنسبة 2% خلال عام الأزمة، وهو واحد من بين أعلى المُعدلات في العالم، ففي حين ينكمش الجميع ينمو الاقتصاد المصري، وأرجع الصندوق صلابة الاقتصاد المصري وتلاقيه الصدمة على هذا النحو من الجدارة والثبات إلى برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي طالب أستاذنا الدكتور بالتراجع عنه.

4- اللجوء إلى التمويل الخارجي يُفاقم الأزمة في المُستقبل: ” فهو ربما يحل مشكلة السيولة على المدى القصير، لكنه يفاقم الوضع الاقتصادي برمته على المدى الطويل… والمطلوب هو اتخاذ ما يلزم من إجراءات في توقيتات وآجال محددة لمواجهة ثالوث التحديات الوجودية المتمثلة في كورونا والتغيرات المناخية وسد النهضة. وهذا يقودنا إلى البديل الثاني، أي التخلي عن نموذج الاقتصاد الريعى والقيام بتعديلات جذرية على النسق الاجتماعي الاقتصادي السياسي بما يجعل هذا النسق أكثر صلابة في مواجهة الصدمات الخارجية أيا كانت “.

  • تُعاني مصر طوال تاريخها مما يُعرف باسم الفجوة التمويلية، بمعنى أن مُدخرات المصريين لا تكفي لتمويل التنمية، ففي عام 2013/2014 بلغ مُعدل الادخار المحلي 5.28% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغ مُعدل الاستثمار في ذات العام 13.83% في ذات العام، والفارق بين الرقمين هو الفجوة التمويلية، بمعنى أن الدولة تلجئ مُضطرة إلى الاقتراض الخارجي، حيث أن شُح الادخار يخلق أزمة تمويل ستزيدها الدولة في حال رفعت مُعدلات اقتراضها الحالية، حيث ستخلق ما يُعرف اقتصاديًا بأثر التزاحم والذي يؤدي إلى خفض التمويل للقطاع الخاص، حيث سيفضل النظام المصرفي إقراض الدولة التي تقترض بمُعدلات أعلى وبدون مخاطرة، عكس القطاع الخاص الذي يقترض بمعدلات أدنى ومخاطر أعلى.
  • لذلك تفضل الدولة اللجوء إلى الخارج لتمويل استثماراتها “الزراعية والصناعية” -التي طالب معالي الوزير بتنفيذها والتوسع فيها- ولا يوجد أفضل من المُنظمات الاقتصادية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للإقراض بسبب التسهيلات في فترات السداد وأسعار الفائدة، لذلك فإن التوسع في التعامل مع هذه المؤسسات يصب مُباشرة في صالح الاقتصاد المصري وليس العكس، وهو ما لن يتأتى إلا ببرامج إصلاح اقتصادي كالتي نفذتها مصر، حيث أصبحت هذه المُنظمات تشرط القروض بتحسينات اقتصادية هيكلية. 
  • الاتجاه إلى الاقتراض من الخارج هو نهج عالمي لتمويل التنمية حتى أنه نظرًا لارتفاع مديونية الحكومات في العالم تبرز ما تُسمى مُشكلة الديون السيادية، بمعنى أن مصر ليست وحيدة في مجال الاقتراض لتمويل التنمية.
  • أخيرًا أعلنت الحكومة عما يُسمى باستراتيجية إدارة الدين المصري في 2018/2019 والتي تهدف إلى تحويل الدين قصير الأجل إلى طويل الأجل بحيث يكون سداده على فترات طويلة، تكون التنمية أفرزت نتائجها بحلول أجالها، بحيث تمول عوائد الاستثمارات الزراعية والصناعية سداد الفوائد والقروض.

5- لم يرد أي ذكر لتداعيات كورونا في الموازنة العامة: ” فمشروع الموازنة العامة للدولة 2020/21 المقدم إلى مجلس النواب لم يرد به أي ذكر لتداعيات كورونا وتأثيره على الوضع المالي للبلاد، رغم الإجراءات التي اتخذت بالفعل تنفيذا لتوجيهات رئاسية. كما أن الخطة متوسطة المدى للتنمية المستدامة 2018/19-2021/22 التي من المفترض أنها تحدد التوجهات الأساسية لاقتصاد البلاد قد وُضِعت قبل اندلاع كورونا”.

  • لعل ما ذكره أستاذنا الدكتور عن الخطة متوسطة المدى التي وضعت قبل تداعيات كورونا ينسحب أيضًا على الموازنة العامة للدولة نفسها والتي جرى إعدادها خلال الرُبع الأخير من العام المالي، أي قبل أن تضرب أزمة كورونا، ويجري إعداد الموازنة العامة بطريق بالغة التعقيد لا مجال هنا للتعرض لها، إذ إنه يصبح صعبًا عمليًا إن لم يكن يستحيل تضمين مستجدات كرونا بها. لذلك صرح وزير المالية إلى أنه سيتم إعادة تقدير الموقف بالنسبة للموازنة بعد الربع الأول من العام المالي الحالي ٢٠٢٠/ ٢٠٢١ على ضوء مستجدات الوضع الوبائي لجائحة «كورونا»، وتداعياتها على الاقتصاد المصري والعالمي؛ تمهيدًا لإجراء التعديلات اللازمة بالتنسيق الكامل مع مجلس النواب.

6- إهمال التعليم والصحة: ” اتضح من جائحة كورونا الأهمية البالغة لتغيير النظرة إلى قطاع الصحة… وقد تبين من تداعيات كورونا الخطورة البالغة لانتشار الأمية في المجتمع؛ حيث يصعب توجيه الرسائل المتعلقة بالإجراءات الاحترازية الى المواطنين وضمان التزامهم بها بدقة”.

  • يُعاني قطاعا التعليم والصحة تاريخيًا من قلة الاستثمارات الموجهة لهما، لذلك جاء دستور ما بعد الثورة ليؤكد على استحقاقات دستورية في الموازنة العامة للدولة لها بحيث تُخصص 4% للتعليم 3% للصحة و2% للتعليم العالي 1% للبحث العلمي بإجمالي 10%، وهو التزام لم يتحقق قبل موازنة العام الحالي.
  • نعم جاءت جائحة كورونا لتُذكر الحكومة بالتزام أغفلته تحت التهديدات الأمنية والعسكرية من ناحية والمُتطلبات التنموية العاجلة، والمتطلبات المُلحة لإقالة البنية التحتية مثل الطُرق والكهرباء والمياه من عثرتها التي عانتها بعد الثورة.
  • وقد جاءت موازنة العام المالي 2020/2021 لتستوفي هذه الاستحقاقات بعد برنامج الإصلاح الاقتصادي وفي ظل جائحة كورونا، وهو ما يدل بشكل لا يقبل جدل على نجاح البرنامج، فما كان مُستحيلًا فيما سبق، أصبح مُتاحًا الآن في ظل أزمة كُبرى تضرب الاقتصاد العالمي بشكل كُلي، حيث بــلغ إجمالي الاعتمادات المالية المقررة لهذه القطاعات ٦٨٢,٥ مليار جنيه مقارنة بـ ٥٤٥ مليار جنيه بموازنة العام المالي ٢٠١٩/ ٢٠٢٠.

لعله اتضح جليًا في النهاية أن لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الحالي أثر عميق في بنية الاقتصاد المصري، وحسنها بما جعله أولًا قادرًا على الخروج من أزمته الداخلية التي كادت تخنقه بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، بل وثبت أساساته وقوى دعائمه بما أتاح له التصدي لضربة كورونا التي أحنت ظهر الاقتصادات الكُبرى، وجعله قادرًا في الوقت الحالي على استيفاء الاستحقاقات الدستورية لقطاعي التعليم والصحة والتي كانت أشبه بالمُستحيل فيما مضى، لذلك سيظل البرنامج فريضة استراتيجية لا تراجع عنها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى