
استقبال عنيف … سلاح الجو الليبي يرد على العربدة التركية غربي طرابلس
لا يختلف أحد على أن مشهد وصول وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، إلى مدينة مصراتة الليبية منذ عدة أيام، وسلسلة المقابلات والزيارات التي قام بها داخل المدينة، كانت جميعها دلائل على اكتمال الاحتلال التركي لشمال غرب ليبيا، وهذا ما باتت معظم المكونات السياسية والقبلية، في وسط وشرق وجنوب ليبيا، على قناعة تامة به، ومنهم رئيس المجلس الأعلى لقبائل ورشفانة الليبية، المبروك بوعميد، الذي اعتبر أن زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، للمنطقة الغربية، أكدت احتلال تركيا لهذه المنطقة.
زيارة مشبوهة وذات دلالات عديدة
تفاصيل وملابسات الزيارة، حملت عدة رمزيات، توضح ماهية الأهداف الحقيقية لتركيا في ليبيا، ومستوى الذهنية التي تدير بها أنقرة عملياتها العسكرية هناك، وكذا نظرتها الحالية لحكومة الوفاق ودورها. فبعد وصول الوزير التركي ورئيس أركانه إلى طرابلس، وإجرائه عدة لقاءات مع قادة عسكريين تابعين لحكومة الوفاق، بجانب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، غادر إلى مدينة مصراتة، وهناك حمل مشهد وصوله إليها، رمزيات عديدة.
فقد كان في استقبال الوزير عشرات الضباط الأتراك، بجانب وزير الداخلية المفوض في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، وبضعة جنود تابعين له، أحدهم يظهر في هذه الصورة، حاملًا بندقية تركية الصنع من نوع (جي3)، وخلفه جندي تركي يرمقه بنظرة حذرة. المشهد يوحي للوهلة الأولى أن الوزير الليبي هو الزائر وليس الوزير التركي!
خلال تفقده لبعض المنشآت في مدينة مصراتة، ومنها مستشفى مصراتة، وغرفة العمليات العسكرية الرئيسية (التي من المفترض أنها مشتركة بين الأتراك وحكومة الوفاق)، لكن كان ملحوظًا الكم الكبير من الضباط الأتراك داخل هذه الغرفة، مع تواجد محدود جدًا لضباط رئاسة الأركان التابعة لحكومة الوفاق. عقب ذلك اجتمع الوزير التركي مع جمع غفير من الضباط الأتراك، في إحدى قاعات الاجتماعات، وأطلق خلال هذا الاجتماع، بعض التصريحات اللافتة، ومنها قوله إ ن بلاده أتت إلى ليبيا (كي تبقى فيها للأبد)، وهذه ربما إشارة مهمة إلى جانب من جوانب الذهنية التركية في ليبيا.
فقد أصدرت وزارة الدفاع التركية، ثلاث شارات خاصة بقواتها العاملة في ليبيا، واحدة لضباط سلاح الجو الذين يتولون تشغيل وإدارة الطائرات دون طيار، وواحدة خاصة بوحدات الدفاع الجوي، والثالثة هي الأكثر إثارة للاهتمام، وفيها تظهر صورة لجندي عثماني، مكتوب فوقها (طرابلس 1911)، في إشارة لانسحاب القوات العثمانية من ليبيا، وتحت الصورة تمت كتابة (الأسطورة تعود 2020)، أذن النظرة التركية لدورها العسكري الحالي والمستقبلي في ليبيا، تنبع من هذه النظرة، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد، بالاتفاقيات العسكرية التي أبرمتها أنقرة مع حكومة الوفاق، والتي كانت اتفاقيات شكلية، تعطى طابعاً شرعياً لهذا التدخل، مع أن شرعية حكومة الوفاق نفسها، محل جدل كبير وواسع.
عقب زيارة آكار إلى غرفة العمليات الرئيسية للجيش التركي في مصراتة، استقل مروحية نقل عسكرية، قامت بنقله إلى متن الفرقاطة التركية (جيرسين)، وهي من الفئة (جابيا)، وهناك قام بزيارة طاقمها والاجتماع مع ضباطها، وكان لافتًا ظهور الموقع الحالي لهذه الفرقاطة، على شاشة الرادار الرئيسي الخاص بها، والذي أوضح أنها تتمركز في موقع يتوسط المسافة بين مدينتي طرابلس ومصراتة.
ضربات الليل الجوية، توقظ تركيا من أحلامها في ليبيا
خلال زيارة آكار إلى مصراتة، تم تأكيد الرغبة التركية في تدشين تواجد دائم لها في قاعدة الوطية الجوية، وتواجد بحري دائم في ميناء مصراتة، لكن الأكثر أهمية في هذا الصدد، أرتال المعدات التي تم رصد وصولها إلى قاعدة الوطية الجوية، خلال الأيام الماضية، والخاصة بمنظومات الدفاع الجوي التركية (هوك)، التي تم إتمام نشر بطاريتين منها داخل المطار، خلال الأيام القليلة الماضية، تمهيداً لبدء عمليات تشغيل المطار قريبًا، وهذا يأتي ضمن الذهنية التركية الحالية، التي فسرت ما وصل إليه الموقف الميداني الحالي، وصمت بعض الأطراف الإقليمية والدولية، على أنه ضوء أحمر لها كي تكرس تواجدها في غرب ليبيا، وتكثف هذا التواجد على مستوى الكم والنوع، خاصة بعد ما تردد عن توقيع اتفاقيات جديدة بين تركيا وحكومة الوفاق، تساهم في تكريس هذا التوجه.
لكن فوجئ الأتراك، بغارات جوية مكثفة، شنها سلاح الجو الليبي، ليلة أمس، بلغ عددها تسع غارات على الأقل، استهدفت القواذف الخاصة بمنظومة (هوك) المتواجدة داخل القاعدة، بجانب راداراتها ومحطات إدارة النيران، ومنظومات التشويش اللاسلكي التي نشرتها تركيا حديثًا في هذه القاعدة. الرسالة التي تم إيضاحها من خلال هذه الغارات، كانت متعددة الأوجه والاتجاهات.
الجيش الوطني الليبي، الذي أقام منذ أيام عرضًا عسكريًا للتعزيزات، التي سيتم إرسالها بنغازي إلى سرت، أرسل بهذه الغارات رسالة مفادها أن قدرة سلاحه الجوي على تنفيذ العمليات الهجومية لم تتوقف، بل أنها تصاعدت بشكل أظهر فشل منظومات الدفاع الجوي التركية، التي تم نشرها سابقًا في مطار معيتيقة في طرابلس، وفشلت هي والقواذف التي تم نشرها في قاعدة الوطية، وكذا الفرقاطات التركية المتواجدة قبال الساحل، في تهديد الطائرات المغيرة أمس، أو منعها من تنفيذ المهمات الموكلة إليها. الضربة الموجعة التي تلقاها الدفاع الجوي التركي، حملت في طياتها رسالة إقليمية واضحة، تنسف تمامًا أية معتقدات لدى أنقرة، أنها تمتلك الآن الوقت الكافي لتدعيم تواجدها العسكري في الغرب الليبي، حيث فهمت أنقرة بشكل عملي، أن الخطوط الحمراء المرسومة بين سرت والجفرة، ممتدة لتشمل أي تواجد عسكري دائم للجيش التركي في غرب البلاد، وكذا أية محاولات للتقدم جنوبًا في اتجاه حقول النفط جنوبي غرب البلاد.
هذه الرسالة، تبقى مهمة في هذا التوقيت، بالنظر إلى الحشد التركي المستمر من أجل بدء هجوم في اتجاه سرت – الجفرة، وفي اتجاه مدينة سبها وحقول النفط في حوض فزان جنوب غرب البلاد، وهي تأكيد على أن كافة هذه الاتجاهات هي خطوط حمراء، لن يقبل الجيش الوطني الليبي باختراقها، خاصة في سرت، التي نجحت قوات الجيش الوطني، في دفع القوات المهاجمة لها، إلى مسافة تصل إلى 90 كيلو متر غربي المدينة، بعد أن كانت في مرحلة سابقة، قد وصلت إلى الأحياء الوسطى داخلها.
الرسائل السياسية حول ليبيا تناهض الأحلام التركية
لم يتسم الشق السياسي في الأزمة الليبية، بنفس الجمود الذي شاب الشق العسكري، فقد تمحورت معظم التحركات واللقاءات السياسية، الإقليمية والدولية، حول ملفين أساسيين، الأول هو النفط، والثاني هو الميليشيات والمرتزقة. الولايات المتحدة ناقشت كلا الجانبين، من خلال لقاءين عقدتهما قيادتها العسكرية في أفريقيا، الأول تم في مدينة الزاوية مع ممثلي حكومة الوفاق، والثاني تم عن بعد، مع قادة من الجيش الوطني، على رأسهم العميد عون الفرجاني. لم تسفر هذه اللقاءات عن نتائج واضحة، خاصة على مستوى ملف النفط، الذي حاولت واشنطن دفع الأطراف الليبية، إلى السماح بإعادة ضخه وتصديره، دون أن تتمكن من ذلك. لكن المناقشات التي تناولت ملف الميليشيات والمرتزقة، ألقت الضوء على الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، الذي بات معاديًا بصورة قطعية للوضع الميليشياوي غرب البلاد، وللدور التركي الفاضح في استقدام المرتزقة السوريين إلى ليبيا.
دول مثل فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، أجمعت على رفض لتواجد المرتزقة والميليشيات، وإن كانت درجة الرفض تتفاوت بين الدول الثلاث، وهذا يعزى بشكل أساسي، إلى حالة الرفض الشعبي في ليبيا لتصرفات المرتزقة السوريين والميليشيات المنفلتة، والتي ظهرت آثارها مؤخرًا في ترهونة، وتتكرر انتهاكاتهم بشكل شبه دوري في طرابلس وغيرها، لدرجة جعلت ميليشيات الوفاق تشتبك في مناسبات عدة مع عناصر المرتزقة السوريين، وآخر هذه المواجهات، كان نهاية الشهر الماضي، حيث ألقت ميليشيا (قوة الردع) التابعة لحكومة الوفاق، القبض على 60 مرتزق سوري، يتبعون ميليشيا (الحمزات)، أثناء تخزينهم لأسلحة وذخائر.
كان لافتًا الضغط الذي مارسته واشنطن على حكومة الوفاق، وتحديدًا وزير داخليتها فتحي باشاغا، لإيجاد حل جذري لهذه المشكلة، التي لم يبذل باشاغا أية مجهود حيالها طيلة سنوات خلت. المعضلة هنا هي أن وجود الميليشيات والمرتزقة غربي ليبيا، يمثل عامل حيوي وأساسي لكل من حكومة الوفاق وتركيا، الأولى ترى في هؤلاء القوة البشرية التي تحتاجها، لمقارعة الجيش الوطني الليبي، وهي في نفس الوقت لا تستطيع الاستغناء عنهم أو تهميشهم، لأنهم يمثلون قوة على الأرض، مرتبطة بالقبائل الموالية لحكومة الوفاق، في حين لا تمتلك مكونات الإسلام السياسي الممثلة في هذه الحكومة، أية شعبية أو أرضية تسمح لها بمحاولة تغيير الواقع الميليشياوي الحالي.
لهذا يحاول وزير الداخلية في حكومة الوفاق، أن يلبي الطلب الأمريكي، دون أن يضطر إلى اتخاذ إجراءات (جراحية)، تؤثر على التموضع الحالي لحكومته، فبدأ في استخدام نفوذه وسيطرته على إدارة الجوازات، والسيطرة الإخوانية الحالية على البنك المركزي الليبي، من أجل تجنيس بعض الفئات من المرتزقة السوريين، بالجنسية الليبية، من أجل الاحتفاظ بهم على الأراضي الليبية، وضمن قوات حكومة الوفاق، في حالة ما إذا دعت الظروف أو التفاهمات، إلى إعادة المرتزقة السوريين إلى بلادهم.
الحل السياسي هو الخيار الأوحد في ليبيا
خلال الأيام القليلة الماضية، صدرت عدة مواقف دولية، داعمة إعلان القاهرة، حول الحل السياسي في ليبيا، وكان آخرها الموقف الذي أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، حول قناعة بلاده أن مبادرة القاهرة تشكل أرضية صالحة لبناء حل سياسي في ليبيا، لكن من أهم المواقف المتعلقة بهذا الصدد، هو موقف رئيس تونس قيس سعيد، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، اللذين أعربا خلال الأيام الماضية، عن قناعتهما أن دور حكومة الوفاق في طرابلس، قد انتهى، وتجاوزته الأحداث والتطورات الحالية، وأنه حان الوقت لإعادة تشكيل المجلس الرئاسي الليبي. هذين الموقفين، يتوافقان مع المبادرة المصرية، ومع تصور المستشار عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، الذي زار موسكو منذ أيام، ويسافر إلى جنيف خلال ساعات، للتباحث حول إعلان القاهرة.
أهمية المبادرة المصرية، والدعم الإقليمي والدولي لها، يكمن في أن كل من أنقرة وحكومة الوفاق، يريان في الحل السياسي، تهديدًا وجوديًا لهما، فتركيا أذا ما تم إقرار حل سياسي دائم في ليبيا، ستخسر حكومة الوفاق الموالية لها، وتفقد كافة الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية، التي وقعتها معها، وكذلك ستفقد تواجدها العسكري الدائم على الأراضي الليبية، وتخسر تموضعاً مهمًا في إطار استراتيجية (الوطن الأزرق)، التي تحاول تنفيذها في حوض المتوسط. لذلك تشير بعض المصادر الليبية، أن أنقرة ستحاول بكل قوة، تقويض أية احتمالية لحل سياسي في ليبيا، وذلك بشتى الطرق، وعلى رأسها إعادة الهجوم على سرت والجفرة.
وهنا لابد من الإشارة إلى الجانب الاقتصادي، فتركيا تستهدف الاستفادة من كل الفرص الاقتصادية الممكنة في طرابلس، ومن بينها ملف تأجير بواخر توليد الطاقة الكهربائية، وملف إعادة الإعمار، وملف تجارة النفط، وملف توريد الأسلحة والذخائر، وغيرها من الملفات التي ستفقدها تركيا، وتفقد معها سوقاً كبيرة لمنتجاتها، في حالة فرض حل سياسي، يأتي بحكومة مستقلة غير تابعة للأتراك.
خسائر تركيا من فرض أي حل سياسي، تشمل أيضًا خسارتها المساهمة الليبية في دعم الاقتصاد التركي، فقد عقد محافظ البنك المركزي الليبي، الصديق الكبير، ثلاثة اجتماعات مع صهر الرئيس التركي، وزير المالية بيرات البيرق، خلال الفترة ما بين 26 يونيو و1 يوليو، تم فيه الاتفاق على إيداع ليبيا، ثمانية مليارات دولار، في البنك المركزي التركي، بدون فائدة لمدة أربعة سنوات، للمساهمة في دعم الليرة التركية، ويضاف إلى ذلك 20 مليار دولار، تخص تعاقدات تمت في الفترة ما قبل عام 2011، بجانب غرامات تأخير تقدر بثلاثة مليارات دولار. هذه المبالغ جميعها، مضافاً أليها ما تدفعه حكومة الوفاق إلى تركيا، كرواتب للمرتزقة السوريين، كلها تمثل خسائر تركية في حالة فرض حل سياسي في ليبيا.
باحث أول بالمرصد المصري