
التعاون الأمني الأمريكي الكوري جنوبي في ظل سياسة ترامب
أدى انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى حالة من عدم اليقين الأمني في منطقة آسيا الباسيفيك، وخاصة في شبه الجزيرة الكورية، فقد أدلى أثناء حملته الانتخابية بعدة تعليقات حول تغيير طبيعة الدعم العسكري الأمريكي لكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى القلق الذي انتاب الصين التي كانت ترفض نشر الولايات المتحدة لنظام دفاعي مضاد للصواريخ الباليستية في كوريا الجنوبية، وتعتبره تعديلًا خطيرًا لميزان القوى في المنطقة.
ثم طالب البيت الأبيض بأن تدفع ألمانيا واليابان وأي دولة أخرى تستضيف القوات الأمريكية –منهم كوريا الجنوبية بطبيعة الحال- التكلفة الكاملة للجنود الأمريكيين المنتشرين على أراضيها، مضافًا لها 50% أو أكثر مقابل امتياز استضافتهم، بما يعني أن تدفع الدولة أضعاف ما تدفعه الآن، واعتبره محللون خطأ كبيرًا لأن الهدف الأول لهذه القوات هو حماية المصالح الأمريكية أو المنفعة المتبادلة على أقل تقدير.
في هذا النطاق ثارت تساؤلات حول حالة الملف الأمني الأمريكي الكوري الجنوبي في عهد ترامب، وذلك فيما يخص القوات الأمريكية الموجودة على أراضي كوريا الجنوبية من ناحية، والمناورات العسكرية المشتركة بين البلدين من ناحية أخرى.
اتفاقية التدابير الخاصة وتأثيرها على وجود القوات الأمريكية بكوريا الجنوبية
في يونيو 2020، احتفل البلدان بمرور سبعين عامًا على تحالفهما في الحرب الكورية للدفاع عن السلام في شبه الجزيرة الكورية، الذي أسفر عن تواجد للقوات الأمريكية في كوريا الجنوبية بحوالي 30 ألف جندي كأحد أكبر تواجد عسكري أمريكي بالخارج، وكذلك التواجد الأمريكي في المحيط الهادي، والذي يمكن من خلاله خدمة أي عمليات عسكرية في شبه الجزيرة الكورية، ويمكن للولايات المتحدة استدعاء قواتها للاشتراك في عمليات عسكرية في مدة لا تزيد عن شهرين ولا تقل عن 72 ساعة، ويمكنها أيضًا إعادة نشر الأسلحة النووية التكتيكية على أراضي كوريا الجنوبية في أي وقت، وذلك استنادًا لاتفاقية الدفاع المشترك بين سول وواشنطن منذ 1953.
كان الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلنتون” أعلن في 1993 أن القوات الأمريكية ستظل في كوريا الجنوبية طالما رغبت الأخيرة في ذلك، وأن هذا الوجود سيظل على الأقل حتى يتم التخلص من البرنامج النووي الشمالي، وحتى تتحقق وحدة سلمية بين الكوريتين.
ويعتبر الدعم العسكري الأمريكي لكوريا الجنوبية أحد العناصر الأساسية في مواجهتها لكوريا الشمالية، والتي تشترط انسحاب القوات الأمريكية من أراضي كوريا الجنوبية لتحقيق الوحدة، وهذا ما ترفضه سول.
مع تولي ترامب مهام منصبه، أثيرت مسألة انسحاب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية ضمن سلسلة الانسحابات التي يتخذها ترامب في سياسته الخارجية، لكنه قال قبل قمته الثانية مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في هانوي بفيتنام، إن جدول الأعمال لا يتناول سحب القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا الجنوبية.
خرج ترامب بتصريح في فبراير 2019 بأنه على كوريا الجنوبية زيادة حصتها في تكلفة القوات الأمريكية المتمركزة على أراضيها، وقال إنه من غير المرجح أن تكون هذه الزيادة ثابتة. وهو ما تم مقابلته بانتقاد وعدم رضا، فقال المتحدث باسم الرئاسة الكورية الجنوبية إن اتفاقية تقاسم تكاليف الدفاع مدتها عام واحد، غير أن هناك بندًا يشير إلى تمديد العقد لعام واحد، ويمكن تجميد المبلغ عند المستوى المتفق عليه بعد مراجعة الجانبين لمدى الحاجة للزيادة.
ثم في الشهر ذاته، وقّع الجانبان اتفاقية التدابير الخاصة Special Measures Agreement SMA لمدة عام بتخصيص واحد تريليون و38.9 مليار وون (890 مليون دولار) كنصيب كوريا الجنوبية من تكاليف تمركز القوات الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية لعام 2019 بزيادة 8.2% عما تم دفعه عام 2018.
قالت وزيرة خارجية كوريا الجنوبية كانج كيونج-هوا في اجتماع قبل التوقيع إن عملية المحادثات كانت طويلة لكنها نجحت في النهاية، رغم الانتقاد المحلي والحاجة لموافقة البرلمان على الصفقة، بالإضافة إلى أنه على عكس مدة الاتفاقيات السابقة التي كانت مدتها خمس سنوات، يتم التفاوض حول الاتفاقية كل عام، وهو ما قد يفتح الباب مرة أخرى أمام ترامب للمطالبة بمزيد من الأموال، أو أن يفاجئ كوريا الجنوبية بقرار سحب القوات مثلما فعل في قمته الأولى مع زعيم كوريا الشمالية، حين أعلن وقف المناورات المشتركة دون علم مستشاريه.
نجح المفاوضون بعد 10 جولات من المحادثات بدأت من مارس 2019، وسط مطالبات ترامب المتكررة بزيادة كبيرة في حصة كوريا الجنوبية. كانت هناك محاولات من المسؤولين الكوريين لجعل الاتفاق ساري لمدة ثلاث سنوات على الأقل، بالإضافة إلى تقليل ما يجب على كوريا الجنوبية دفعه (بأكثر من 1.4 تريليون وون سنويا)، وحاولوا التوصل لاتفاق يقلل التأثير على الكوريين الجنوبيين العاملين في القواعد العسكرية الأمريكية، إذ يغطي حوالي 70% من مساهمة كوريا الجنوبية رواتب حوالي 8700 موظف كوري جنوبي الذين يقدمون خدمات إدارية وفنية للجيش الأمريكي. أثار الخلاف احتمالية قرار ترامب بسحب بعض القوات على الأقل، لكن أكدت وزارة خارجية كوريا الجنوبية أن الولايات المتحدة لن تغير من حجم قواتها.
يرى كبير مستشاري وزارة الخارجية الأمريكية للمفاوضات والاتفاقيات الأمنية تيموثي بيتس، أن الأموال تمثل جزءًا صغيرًا من دعم كوريا الجنوبية للتحالف، لكنه مهم… مشيرا إلى إدراك الحكومة الأمريكية لجهود كوريا الجنوبية لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
تتركز القوات في معسكر همفريز بمدينة بييونجتايك، ويمتد على مساحة 14.7 كيلومترات مربعة لاستيعاب الجنود وعائلاتهم، ويحتوي على مئات المطاعم والمحلات التجارية وأماكن الترفيه، ما يعني أن هناك قلقًا يساور أصحاب هذه الأعمال في حالة سحب القوات الأمريكية من هناك، لأن نسبة كبيرة من أرباحهم تعتمد على تعاملاتهم مع الجنود الأمريكيين، وأثير هذا الأمر مجددًا بعد مرور عام حين بدأ الحديث عن مفاوضات جديدة في مارس 2020 لتقاسم أعباء تواجد القوات الأمريكية، رغم أنه من المفترض أن جائحة كورونا تفرض واقعًا مغايرًا يستلزم المهادنة والتعاون في مواجهة التهديدات المشتركة، ووضع الخلافات جانبًا.
اختتمت تلك الجولة من المفاوضات بأنه على كوريا الجنوبية دفع 4 مليار دولار سنويًا، وهي زيادة كبيرة مقارنة بالاتفاقية التي تم التوصل لها في العام الماضي. حاولت سول التوصل لاتفاق منفصل يخص الأفراد المدنيين بما يحافظ عليهم من تهديد الإقالة لكن رفضته الولايات المتحدة.
وفي يونيو 2020، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية توصلها لاتفاق مع نظيرتها الكورية الجنوبية بتقاسم تكاليف المواطنين الكوريين الذين يعملون في مناطق تواجد القوات الأمريكية في البلاد حتى نهاية العام، بتكلفة 200 مليون دولار، بما اعتبره البنتاجون انعكاسًا مباشرًا للالتزام الأمريكي تجاه التحالف مع سول.
وأشار بيان الوزارة فيما يخص اتفاقية التدابير الخاصة إلى أن تقاسم الأعباء بين الحكومتين بشكل عادل يخدم مصلحة جميع الأطراف، وأنه في حالة عدم التوصل لاتفاق سيستمر تعليق مشاريع البنية التحتية الدفاعية، وتقتصر الأمور على عقود الدعم اللوجيستي الأمريكي، بما قد يقوص المهمة العسكرية الأمريكية وسط توترات مع كوريا الشمالية.
جدير بالذكر أن تعليقات ترامب حول القوات الأمريكية في الخارج، دفعت مشرّعي الكونجرس في 2018 إلى إدراج بند في قانون تفويض الدفاع الوطني National Defense Authorization Act يمنع الرئيس من تقليص عدد القوات في كوريا الجنوبية إلى أقل من 22000 دون تصديق من وزير الدفاع.
في مايو 2018، ووفقا لتقرير في نيويورك تايمز، أمر ترامب بأن يُعدّ البنتاجون خيارات لسحب القوات الأمريكية المتواجدة في كوريا الجنوبية، وذلك بحجة أن الولايات المتحدة لا يتم تعويضها بشكل كاف عن تكاليف بقائها، وأن القوات تحمي اليابان بشكل أساسي، وأن عقودا من الوجود العسكري الأمريكي لم تمنع كوريا الشمالية من أن تصبح تهديد نوويا.
التدريبات العسكرية بعد القمم المنعقدة مع كوريا الشمالية وكوفيد-19
يعد التحالف المستند لاتفاقية الدفاع المشترك بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية الموقعة عام 1953 جزءً هاما في سياسة الأخيرة الدفاعية، والتي تشمل أيضا إجراء التدريبات والمناورات العسكرية المشتركة من أجل تحقيق هدف الردع واستعراض القوة، والحفاظ على الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية. ومنذ 1976، ركزت البلدان على إجراء اثنين من التدريبات السنوية الرئيسية هما “Foal Eagle” و”Ulchi Freedom Guardian- UFG” التي أعيدت تسميتها إلى “Ulchi Focus Lens” في 2007. وتعد مناورات “Foal Eagle” أحد أكبر المناورات على مستوى العالم. وقد عملت الولايات المتحدة على زيادة عدد المشاركين في تدريبات “Foal Eagle” و”Key Resolve” من 12.300 في 2015 إلى 31.600 في 2017.
بعد القمة الأمريكية الكورية الشمالية في يونيو 2018 في سنغافورة، أعلن ترامب وقف التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، وأن بلاده تحملت معظم تكلفتها الباهظة، وتعلقت المناورات العسكرية الكبرى، لكن استمرت التدريبات الصغيرة. وهو ما اعتبره محللون تنازلًا مفاجئًا للزعيم كيم جونغ أون -الذي كانت ترى بلاده هذه المناورات كأعمال عدائية- بعد تعهد الولايات المتحدة بتقديم ضمانات أمنية لبيونج يانج. وكان مفاجئا أيضًا لكوريا الجنوبية التي كان يسعى رئيسها مون جاي أون لتأمين انعقاد هذه القمة، وذكر بيان للبيت الأزرق الرئاسي في كوريا الجنوبية أنه بحاجة لمعرفة النوايا وراء ما قاله ترامب. وأعلن البنتاجون وقف المناورات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية بعد تشاورات بين البلدين.
وبعد القمة الثانية التي عُقدت في فيتنام في فبراير 2019، قررت وزارة الدفاع الأمريكية ونظيرتها الكورية الجنوبية وقف المناورات العسكرية واسعة النطاق، والاستعاضة عنها بتدريبات محدودة تخدم احتفاظ القوّات المتمركزة في كوريا الجنوبية بجهوزيّة عسكرية عالية، بما يراه الطرفان معبرًا عن رغبتهما في تقليل التوتر، ودعم الجهود الدبلوماسية لتحقيق نزع تام للأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية.
وذكر بيان للبنتاجون أن الجانبين أكدا التزامهما بضمان استمرار القوة الدفاعية المشتركة بينهما لمواجهة أي تحدٍ، واتفقا على الحفاظ على أتم درجات الاستعداد العسكري عبر تدريبات حديثة وبرامج تدريب ميدانية معدلة.
وبسبب جائحة كورونا، تقرر إلغاء التدريبات العسكرية المشتركة في مارس 2020، وذكرت تقارير أنه يتم التفكير في تدريبات شهر أغسطس القادم، إما بإلغائها أو تقليصها أو تنفيذها. وتنبع أهمية التدريبات لهذا العام في المحادثات التي تم إجرائها حول نقل السيطرة العملياتية OPCON إلى كوريا الجنوبية بعد أن قامت بها الولايات المتحدة منذ الحرب الكورية 1950-1953، واعتبار أن ذلك هو مفتاح تحسين القدرات الدفاعية لجيش كوريا الجنوبية.
أهمية كوريا الجنوبية للسياسة الأمريكية في آسيا
وفقًا لسياسة ترامب الخارجية المتهورة والتي تسعى لابتزاز شركاء الولايات المتحدة، فقد يكون من غير المرجح سحب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية، إنما يريد ترامب الحصول على مزيد من الأموال مثلما فعل مع العديد من الدول الأخرى، كدول الخليج، وذلك حين قال إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون في الشرق الأوسط إلى الأبد، وعلى الآخرين –الذين يعتبرهم غير مقدّرين للجهود الأمريكية- فعل شيء.
في نفس الوقت، لن يكن سهلًا على إدارته التخلي عن تواجد قواته في شبه الجزيرة الكورية الحيوية، والتي لم يكن سحب القوات الأمريكية منها أمًرا يمكن تصوره في الإدارات السابقة، بالإضافة إلى أن استراتيجية الأمن القومي التي أطلقها نهاية عام 2017، والتي اعتبرت كل من روسيا والصين تنافسان الولايات المتحدة في مناطق نفوذها وتهدفان لتغيير توازن القوى لمصلحتها، مما يعني أنه إذا ترك هذه المنطقة، ستسرع هاتان القوتان لملء هذا الفراغ، بما يشكل مزيدا من التهديد للأمن القومي الأمريكي.
لذا ستظل العلاقات الأمنية مع كوريا الجنوبية واليابان –والتحسن الشكلي في العلاقات مع كوريا الشمالية- أحد أهم مفاتيح الولايات المتحدة لتطويق تمدد النفوذ الصيني والروسي على المسرح العالمي، وخاصة في منطقة آسيا الباسيفيك، قد يكون ذلك إجابة سؤال يخص موقف كوريا الجنوبية من تواجد القوات الأمريكية على أراضيها في حالة توقيع معاهدة سلام تنهي الحرب الكورية، أو مدى استجابة كوريا الشمالية لمطالب نزع سلاحها النووي كخطوة أولى للسلام في شبه الجزيرة الكورية.
وبالنظر لما تفرضه التحديات الأخيرة والتي يأتي الوباء على رأسها من ضرورة إعادة التفكير في كيفية إعطاء قيمة أكبر للشركاء الإقليميين بغض النظر عمن سيكون متواجدًا بالبيت الأبيض في يناير 2021، فإن كوريا الجنوبية بحاجة إلى أن تكون أكثر مركزية في نظرة واشنطن للمنطقة.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



